عندما يدور الحديث من حول الكاتب المصري الراحل يوسف إدريس (1927 – 1991) ونادراً ما يدور عنه الحديث في هذا الزمن كما حال كل الأشياء البديعة في حياتنا للأسف، يذكر خصوصاً بوصفه واحداً من كبار كاتبي القصة القصيرة العربية التي كان سيداً من سادتها، لكن إدريس كان في الحقيقة روائياً أيضاً وله في هذا المجال أعمال كبيرة منها "الحرام" و"البيضاء"، كما أنه كان بين هذا وذاك كاتباً مسرحياً خلف في هذا المجال مسرحيات رائعة (مثل "اللحظة الحرجة" و"المهزلة الأرضية" و"البهلوان" و"المخططين"...)، حملت قدراً كبيراً من الجرأة التجديدية والفكرية وحتى الأيديولوجية، ناهيك بأنه أراد إلى ذلك كله أن يكون منظراً بل رائداً في مجال البحث عما سماه "أصالة" مسرحية عربية وبخاصة مصرية. والحقيقة أننا إن لم نكن في حاجة دائمة إلى التذكير بإنجازات إدريس في القصة القصيرة كما في الرواية، فلا شك أننا نحتاج بين الحين والآخر إلى العودة إلى جهوده المسرحية التي تكاد تنسى لفترات في زمن يضيع فيه "الريبرتوار" المسرحي العربي تحت وطأة نوع من فقدان ذاكرة معمم.
لكل شعب مسرحه
وحين نذكر مسرح يوسف إدريس لا شك أن العمل الأول الذي سيخطر في بالنا هو تحفته "الفرافير" وليس فقط لقيمة هذه المسرحية وقوتها في حد ذاتها، كما ليس فقط للسجالات البناءة التي أثارتها انطلاقاً من الطروحات السياسية والفكرية التي حملتها، وطبعاً ليس فقط أيضاً للسجال "الجمالي" الذي أثارته انطلاقاً من ربطها من قبل الكاتب بمسرح السامر الشعبي المصري فيما رأى مناوئوه أنها تنتمي إلى مسرح بريخت الملحمي قلباً وقالباً، بل إلى جانب ذلك كله انطلاقاً من أن إدريس شاء منها أن تكون، في عام 1964 الذي ظهرت فيه، فاتحة لحراك مسرحي جديد ربطه بسؤاله الكبير الذي طرحه حينها من حول عنوان دراسة – بيان طويلة له، هو "نحو مسرح مصري". ولئن كان الكاتب سيقول في السياق إنه ليس عالماً أو خبيراً ليؤكد ما إذا كان ثمة في التاريخ القديم أو لم يكن، ما يمكن اعتباره مسرحاً مصرياً فرعونياً، فإنه يؤكد من ناحية أولى "أننا حين نتكلم عن المسرح عادة، نقصد ذلك المكان العالي ذي القبوة والخشبة والممثلين والروايات. وهذا مسرح صحيح ولكنه ليس كل المسرح. فللمسرح أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى واحدها فقط، مجرد شكل واحد تطور على يد الإغريق ثم جاء الدين المسيحي في أوروبا فقضى عليه وكبته باعتباره أحد أشكال الوثنية، ولكن حين خفت قبضة الدين عاد المسرح الإغريقي مرة أخرى في ما بعد العصور الوسطى وأصبح له شكسبيره ومولييره إلى آخر القصة. أما بقية الأشكال المسرحية (أشكال الفرجة كما سيقول إدريس بعد سطور) فهي موجودة في حياة كل شعب ولا بد أن تظل موجودة ويمكن جمعها تحت ظاهرة واحدة، ظاهرة بيولوجية حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل وتلبية غريزة البقاء، إلى غريزة التجمع بلا سبب فردي أو ذاتي وإنما بتأثير الغريزة الجماعية في كل إنسان وتلبية لها". وهنا يستطرد إدريس قائلاً إن هذا التجمع سرعان ما يتحول إلى فرجة تبدو كشكل مسرحي عفوي مبتكر "يشبه أشكالاً مسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية (...) أشكالاً يمكننا اعتبارها لحظات مسرحية لا بد لها من أن تتطور بمرور الزمن متحولة إلى تراث وتقاليد" وهنا بيت القصيد بالنسبة إلى كاتبنا.
مسرح السامر والفرجة
هنا يتوجب البحث عن أصالة مسرح الفرجة الجماعية التي يريد إدريس أن ينظر لها فيقدم مسرحيته "الفرافير" كنموذج لها بل وبشكل أكثر تحديداً كـ"نموذج لمسرح السامر" الذي يعتبره من أكثر أشكال تلك اللحظات المسرحية حضوراً ونجاحاً في التجمعات الشعبية التي يشير إليها. وتبدو فكرة إدريس هذه طريفة ومشروعة بالتأكيد، ولكن يبقى السؤال: إذا كان لمسرح السامر هذه الجذور وتلك السمات وهذا الدور التلقائي في الحياة اليومية العفوية بخاصة لمجتمعات الفلاحين الذين يمارسون اللعبة غالباً في نوع من الارتجال، ماذا دهانا كي نتدخل في حياتهم هنا كمثقفين محترفين سالبين منهم هذه المتعة الفطرية؟ للوهلة الأولى يبدو الاعتراض منطقياً، لكن يوسف إدريس لا يتوقف هنا عنده حائراً بل نراه يؤكد أن مهمتنا ليست سلبه منهم بل أن نتعلم منهم كيف نصوغ أفكارنا "النخبوية" بأساليب ولغات يفهمونها فنتشارك معهم في المهمة التي بات على الفن أن يقوم بها اليوم! والحقيقة أن "الفرافير" تبدو مستجيبة تماماً لذلك "المشروع"، حتى وإن كنا نعرف أن تقديماتها المختلفة سواء داخل مصر أو خارجها -ولعلها تكون المسرحية المصرية المنتمية إلى مسرح الستينيات الأكثر تقديماً في مدن عربية خارج مصر- كانت دائماً تقديمات تقليدية "بورجوازية" تنتمي إلى العرض المسرحي التقليدي(!). مهما يكن أفلم يقل إدريس إن غايتنا أن نتعلم من "الشعب" بأكثر مما نعلمه؟
بين السيد والعبد
من ناحية موضوعها -الذي سيراه كثر بريختياً كما أشرنا- تشتكي مسرحية "الفرافير" من ذلك الواقع الراسخ الذي يجعل من المحتم في كل المجتمعات التي عرفناها على مدى التاريخ وحتى اليوم، أن يكون هنا دائماً سيد وعبد بصرف النظر عن هوية كل واحد منهما. ولنحدد تبعاً لمنطق إدريس: سيد وفرفور، ولكن على النمط الذي نواجهه في كل مسرح وفي كل زمان ومكان، حيث السيد دائماً أميل إلى الغباء والتسلط فيما "الفرفور" ذكي داهية لا يتوقف عن ابتكار الحلول للخروج من المآزق. ولئن كان في مقدورنا هنا أن نتذكر وجود العبد وسيده، أفراداً أو جماعات، في الأقل في مسرحيتي ألفريد فرج "علي جناح التبريزي" وماياكوفسكي "ميستيري بوف"، لا بد من أن نتذكر أيضاً أن هذا الحضور المزدوج يكاد يكون ماثلاً في العدد الأكبر من الكوميديات المنتمية إلى "الريبرتوار" المسرحي العالمي وحتى في عدد من التراجيديات، بيد أن الجديد هنا لدى إدريس فهو تقلب اللعبة بين يديه وعلى مدى زمن مسرحيته الذي يعالج كل أنواع الحكم وأنظمته والعلاقات بين السادة والعبيد على طول التاريخ. فعلى الدوام كان هناك ولا بد أن يكون هناك سيد وعبد. وحتى في الأنظمة الديمقراطية التي يدعى أنها أفضل ما تحقق في مجال المساواة بين البشر، لا بد من وجود سيد وعبد مع اشتراط أن يقوم العبد هذه المرة باختيار سيده لا العكس!
في العالم الآخر
ذلكم هو "التجديد الفكري" الذي يشتغل عليه يوسف إدريس في "الفرافير" إذاً، من خلال الشخصيتين الأساسيتين في هذه المسرحية التي تحمل العديد من عناصر القوة ولا سيما من خلال تقلب هاتين الشخصيتين بين نظام وآخر بين سيطرة أحدهما على الآخر وصولاً إلى النهاية التي يعلن فيها الكاتب على لساني السيد والفرفور أنهما عاجزان عن الوصول إلى حل لتلك "المعضلة الإنسانية" التي سبقهما كثر في محاولة حلها لكن ما من أحد تمكن من ذلك. وبهذا بدا يوسف إدريس بارعاً جداً حين يختم مسرحيته بموت بطليه عاجزين عن تبديل الأمور، وهو من ثم نراه يطاردهما إلى العالم الآخر لعل حلاً يتراءى لهما ولنا هناك، لكنه يستسلم بل حتى يدعونا إلى الاستسلام معه أمام مرأى الكواكب الكبرى وهي تدور سارحة في الفضاء لتدور من حولها الكواكب الصغرى تابعة لها غير ساعية حتى للحلول مكانها. فما ينطبق في هذه الحياة الدنيا على علاقة السيد بالعبد (بالفرفور) هو نفسه ما ينطبق في الما وراء... مع فارق أساسي يكمن هنا في أن الكاتب جعل الفرفور في اللحظة الأخيرة يدور من حول سيده فيما هو ينظر إلى الجمهور المتفرج طالباً منه بأعلى صوته أن يجد له حلاً لتلك المعضلة التي عجز هو عن حلها!