عندما رفع مرشح رئاسة الجمهورية عام 2013 حسن روحاني "المفتاح" شعاراً وهدفاً لحملته الانتخابية كان يبعث برسالة واضحة لبعض مواقع القرار في النظام، بخاصة تلك التي تسعى لإبقاء إيران في دائرة مغلقة، وخاضعة للإرادة والعقائد السياسية والاجتماعية والثقافية للجماعات المتشددة، بأن المرحلة الجديدة ستكون مهمتها ترميم الآثار السلبية التي حفلت بها رئاسة سلفه محمود أحمدي نجاد والفريق الداعم له على جميع المستويات، بخاصة في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والعلاقات الدولية وأزمة البرنامج النووي والعقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن الدولي في أربعة قرارات متوالية تحت البند السابع.
وشكل اختيار روحاني محمد جواد ظريف على رأس الإدارة الدبلوماسية في فريقه التنفيذي مؤشراً على الاتجاه الذي ستنتهجه الحكومة الجديدة في التعامل مع المجتمع الدولي، بخاصة أن ظريف، والاعتماد على خبرته الطويلة في أروقة الأمم المتحدة ومعرفته بخبايا وخفايا آليات اتخاذ القرار في النظام، اشترط إعادة ملف المفاوضات النووية إلى وزارة الخارجية، التي ستكون بدورها مسؤولة أمام المجلس الأعلى للأمن القومي في تطبيق السياسات الاستراتيجية والدفاع عن المصالح العليا للنظام وإيران، بالتالي العمل على تدوير الزوايا مع المجتمع الدولي وتصحيح السياسات المتطرفة وغير البناءة التي اعتمدها سلفه في إدارة المفاوضات سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي حينها سعيد جليلي، التي أوصلت الأمور إلى حائط مسدود وتعريض إيران لأشد العقوبات غير المسبوقة.
بهذه الشروط انتقلت المفاوضات السرية التي كان يجريها النظام بعيداً من أعين حكومة أحمدي نجاد وكبير مفاوضيه جليلي مع الإدارة الأميركية في سلطنة عمان إلى العلن، واستطاع ظريف كسر الحاجز الذي طالما اختبأ وراءه المتشددون في رفض الجلوس إلى طاولة واحدة مع الطرف الأميركي، لتبدأ معها سلسلة من اللقاءات الثنائية بين وزيري خارجية البلدين ظريف وجون كيري.
وعلى الرغم من الهدف الذي عمل من أجله روحاني وفريقه لإعادة ترميم العلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي، بخاصة مع الدول الغربية، من بوابة تفكيك شيفرة حالة الخصومة القائمة على خلفية الطموحات النووية لإيران، والتي تستخدمها لدعم طموحاتها السياسية والتوسع في نفوذها الإقليمي، فإن المنظومة الحاكمة كانت تستنفر كل أدواتها، من خلال تحويل النجاحات الدبلوماسية لتعزيز قدرة النظام على تثبيت نفوذه لمواجهة أي تغيير قد يحصل على صعيد المعادلات في الصراع السياسي مع خصومه في الداخل، وأيضاً من أجل توظيف الانفتاح والخروج من دائرة العقوبات في دعم المشروع الإقليمي، في الأقل من خلال تحويل الدبلوماسية إلى عامل مساعد ومنفذ لمصالح الميدان لتعزيز أوراقه في فرض المعادلات التي يريدها في الشرق الأوسط، وإحكام سيطرته على مناطق نفوذه على حساب مصالح الدول الأخرى.
واستطاع روحاني مستفيداً من حاجة النظام إلى الخروج من دائرة العقوبات وإقفال مصدر القلق الآتي من الملف النووي، أن يعزز سياسة الانفتاح على واشنطن والدول الغربية، وهي سياسة قبلت بها المنظومة الحاكمة ببراغماتية عالية أشاحت فيها النظر عن التحديات الأيديولوجية التي قامت على شعار العداء والتشكيك في النيات وشيطنة الآخر، فضلاً عن أن نجاح روحاني المدرك الحاجات العميقة للنظام المرحلية والاستراتيجية، المتعارض مع مصالح التيار المحافظ والمتشدد ومصالحه الاقتصادية، سرع في تفجير الألغام أمام الجهود الدبلوماسية وسياسة الحوار والانفتاح على الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روحاني ووزير خارجيته كانا يدركان أن تفكيك التعقيدات في العلاقة مع عواصم القرار والمجتمع الدولي يجب أن تترافق بالتزامن مع السعي إلى تفكيك التوترات القائمة بين إيران ودول الجوار، بخاصة الدول الخليجية والعربية، والسعي إلى طمأنتها وفتح قنوات التعاون والحوار معها على خلفية مخاوف هذه الدول من الدور والنفوذ الإقليمي لإيران المهدد لأمن واستقرار هذه الدول وما يشكله من تدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، ما استنفر الفريق الممسك بالقرار الاستراتيجي والسياسي، الذي منع روحاني وظريف من تطوير سياسة الانفتاح على بعض العواصم العربية، وتحديداً باتجاه السعودية، على الرغم من إعلانهما مبكراً عن اليد الممدودة نحو الرياض وبناء علاقات سليمة وصحية تساعد على تخفيف التوتر في الإقليم، وتعطي الفريق المفاوض مع السداسية الدولية هامشاً للمناورة، وتسحب من واشنطن اللعب على ورقة المخاوف الإقليمية ومن الطموحات الإيرانية.
يمكن القول إن التيار المحافظ وسياسة الميدان استطاعا تفريغ الخطاب الحواري والانفتاحي لروحاني من مضمونه، على خلفية اتهامه بالسعي إلى نقل إيران إلى الحضن الغربي وربطها بالمصالح الغربية على حساب المصالح القومية والوطنية والاستراتيجية.
مستفيدة من قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي، بدأت المنظومة الحاكمة، وفي مقدمتها مؤسسة "حرس الثورة" باعتماد سياسة التقارب مع المعسكر الشرقي، وربط المصالح الاقتصادية والسياسية بالمصالح الروسية والصينية على الساحتين الإقليمية والدولية، في ترجمة للاستراتيجية التي سبق أن رسمها وأسس لها المرشد الأعلى مباشرة بعد التوقيع على الاتفاق عام 2015 في لقاء مع قيادات "حرس الثورة"، والذي منح فيه هذه القيادات حرية التحكم بالاقتصاد الإيراني كترضية على تمرير الاتفاق النووي، وهي الاستراتيجية التي سهلت عملية تمديد الاتفاق الاستراتيجي مع روسيا لمدة 20 عاماً، والتفاهم مع بكين على توقيع اتفاقية تعاون اقتصادية استراتيجية لمدة 25 عاماً.