قرار النظام الإيراني بالانفتاح على الشرق وتعميق العلاقة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية مع روسيا والصين دخل في مسار مُتسارع على مرحلتين تصبّان في جهود البحث عن عمق استراتيجي يسمح للنظام بتثبيت مواقعه ومناطق نفوذه في الإقليم، ويساعده على مواجهة الضغوط الأميركية والغربية الهادفة إلى تهذيب سلوكه السياسي وطموحاته التوسعية على حساب مصالح الدول الأخرى في محيطه المباشر الشرق أوسطي، أو في محيطه الأوسع الذي يتجاوز منطقة غرب آسيا، وصولاً إلى أميركا اللاتينية والعمق الأفريقي.
مع الانغماس الإيراني في الأزمة السورية وأمام إمكانية خسارة كل أوراقه وانهيار النظام الحليف له في دمشق، بخاصة بعد أن فشلت القوات المشتركة التي قادها قاسم سليماني من الجيش السوري والفصائل الموالية إيران من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان في حسم المعركة لصالحها في مواجهة فصائل المعارضة، رأت دبلوماسية الميدان بقيادة سليماني ضرورة الاستعانة بالحليف الروسي الذي كان يتربص الفرصة المناسبة لينقضّ على المكاسب الإيرانية ويفرض نفسه شريكاً له في سوريا، فضلاً عن أهدافه الاستراتيجية في الحفاظ على وجوده بالقرب من سواحل البحر الأبيض المتوسط. فجاء الدخول الروسي والتعاون العسكري بين سليماني والرئيس فلاديمير بوتين في لحظة مفصلية كانت طهران تستعد فيها لفتح مسار من العلاقات البنّاءة مع العواصم الغربية وواشنطن والمجتمع الدولي بعد التوقيع على الاتفاق النووي في فيينا، إذ فتح سليماني ودبلوماسية الميدان مساراً باتجاه الشرق موازياً للمسار الذي فتحته الدبلوماسية الإدارية بقيادة الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف باتجاه الغرب.
ربط المصالح الاستراتيجية الإقليمية للنظام الإيراني بالمصالح الروسية جاء بناءً على عقيدة بدأت تتبلور لدى القيادة العسكرية الشريكة في منظومة السلطة، ممثلة بحرس الثورة، بضرورة تقوم على بناء تحالفات جديدة تعيد تفعيل جبهة ناهضة في مواجهة الأحادية الأميركية، وإحياء الثنائية القطبية، أو نظام متعدد الأقطاب دولياً وإقليمياً يكون قادراً على فرض نفسه شريكاً للولايات المتحدة في إدارة العالم ورسم سياساته.
رفع مستوى التنسيق والتعاون بين طهران من جهة، وموسكو وبكين من جهة ثانية، مع عودة التيار المحافظ للسيطرة على السلطة التنفيذية، وتنصيب إبراهيم رئيسي في رئاسة الجمهورية، تحول إلى استراتيجية سياسية للنظام الإيراني، تحت إشراف ورضا وموافقة المرشد الأعلى المحكوم بموقف عقائدي وأيديولوجي يجعل من الصعب عليه تطبيع العلاقة مع واشنطن، باعتبارها العدو الأول الذي يستهدف الثورة الإسلامية والنظام الذي يمثلها، في حين تولى حرس الثورة الممسك بمفاصل القرار السياسي والدبلوماسي والاقتصادي للدولة ومؤسساتها أداة تنفيذ وتطبيق هذه الاستراتيجية.
الانفتاح والذهاب باتجاه الشرق ودول المعسكر الشيوعي السابق يشكلان خروجاً واضحاً للنظام على الشعار المحوري للثورة وهويتها السياسية والعقائدية "لا شرقية ولا غربية"، ومن المتوقع أن يزداد هذا الانحياز والتقارب في المرحلة المقبلة، بغضّ النظر عما يجري على خط التفاوض حول البرنامج النووي مع الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد يكون تغليب التوجه شرقاً محاولة من النظام لتوظيف هذه العلاقات في معركة الالتفاف على العقوبات الاقتصادية، وإعادة بناء دور دولي لإيران بعد محاصرتها وعزلتها نتيجة الحصار والعقوبات الأميركية، وفي الوقت نفسه، استخدام هذا الانفتاح والتعاون وما فيه من اتفاقات اقتصادية استراتيجية كعقوبة لكل الأطراف والدول الغربية وأميركا وتقليل فرص الاستثمارات الاقتصادية لشركات هذه الدول في إيران في المستقبل، ولعل الاتفاق مع "غازبروم" الذي عقدته المؤسسة الوطنية للنفط والغاز الإيرانية على هامش زيارة بوتين الأخيرة إلى طهران يشكل مؤشراً إلى هذه التوجهات لدى دوائر القرار في النظام.
من ناحية أخرى، لا تخفي مراكز القرار ومنظومة السلطة أن إيران محكومة بالتوافق مع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة في المستقبل، وأن تداعيات الاتفاق النووي قد تجبر النظام على فتح الباب أمام الاستثمارات الأميركية والأوروبية في مختلف القطاعات الاقتصادية، بالتالي لا بد لها من تحصين أوضاعها ومصالحها، لمواجهة شروط هذه الاستثمارات، واستمرار الوضع المتأرجح لحرس الثورة على لائحة العقوبات، في الوقت الذي يمسك فيه بمفاصل الاقتصاد الإيراني.
بالتالي، فإن الدفاع عن مصالحه ومكاسبه والاستمرار في القبض على القرار الاقتصادي يجعل الذهاب إلى الحضن الشرقي لدى المؤسسة يبدو الخيار الذي لا بد ولا مفر منه، أولاً لإيجاد توازن داخلي مع نتائج الانفتاح الاقتصادي كأحد مخرجات العودة إلى الاتفاق النووي. وثانياً للحد من التأثيرات السلبية على صورة وسيطرة هذه المؤسسة التي ستكون أمام تحدي التعامل مع متغيرات سياسية في محيطها الجيوسياسي قد تفرض عليها تنازلات في موضوع الدور والنفوذ الإقليمي والحد من تأثيراته السلبية على دول المنطقة ومصالحها الاستراتيجية والسياسية. ثالثاً، توظيف هذه العلاقة والتوجه في تعزيز قدرة إيران في التصدي للدور والنفوذ الأميركي وحلف "الناتو" في محيطها الجيوسياسي، الذي تعتبره تهديداً استراتيجياً وجيواستراتيجي لمصالح النظام وطموحاته الإقليمية، إضافة إلى الفرصة التي توفرها هذه العلاقة لكل من موسكو وبكين في تثبيت وجودهما في المياه الدافئة وشواطئ المتوسط، وخدمة لمشاريع كل واحدة منهما الاستراتيجية في صراعهما لتقاسم النفوذ على الساحتين السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية على المستوى الدولي.
الخلاصة، يمكن القول إن السياسة الخارجية الإيرانية في كل المنازل التي مرت بها على مدى العقود الأربعة الماضية، كانت تابعة ومتأثرة ومنفذة للرؤية العقائدية والأيديولوجية للثورة والنظام، مع اختلاف تمظهراتها، إلا أنها في العقد الأخير ابتعدت عن طبيعتها الدبلوماسية، ودخلت في دائرة الخضوع لمصالح المؤسسة العسكرية والأمنية في الداخل والخارج على حد سواء. وهذه المصالح تشكل الخلفية في السنوات الأخيرة التي دفعت منظومة السلطة للانقلاب على شعار الثورة في الابتعاد عن الاستقطابين الشرقي والغربي وترجيح التقارب مع المحور الروسي - الصيني، والارتماء في الحضن الشرقي، محكوماً بالخوف من تداعيات الانفتاح على الغرب بناءً على مقتضيات الاتفاق النووي وشروطه الاقتصادية.