عن 85 سنة رحل فاديم باكاتين، آخر رؤساء جهاز أمن الدولة الروسي "كي جي بي" المثير للجدل. غادر المسؤول السوفياتي الأمني الكبير عالمنا تشيعه حملات إدانة وانتقادات لأسباب تعود إلى تاريخ علاقاته قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، وما اختتم به منصبه من تصرفات وخطوات وضعته في دائرة الاتهام، بأقسى ما يمكن أن يوجه إلى رجل قضى حياته كلها مفتوناً بإنجازات النظام السوفياتي.
أذكره، ويذكره آخرون كثيرون، يوم دخل إحدى قاعات أكبر المؤسسات الصحافية الروسية ضيفاً على يفغيني بريماكوف، رئيس الحكومة الروسية الأسبق وأول رئيس لجهاز الأمن والاستخبارات لروسيا الاتحادية، ووزير خارجيتها في وقت لاحق، وكان يقدم أحدث مؤلفاته الوثائقية العلمية التاريخية. ترامت إلى الأسماع أقسى وأخطر ما يمكن أن ينال من شرف المواطن. ترامى إلى الأسماع اسم من كان حتى الأمس القريب ملء السمع والبصر، مقروناً بكلمة "الخائن". فكيف كان ذلك؟ وكيف يمكن أن يكون كذلك من كان قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الدولة السوفياتية، وكان تقدم بترشيحه منافساً لميخائيل غورباتشوف في انتخابات مارس (آذار) 1990، وانسحب قبيل إغلاق باب القيد؟ وعلى الرغم من أنه عاد ورشح نفسه رئيساً لروسيا الاتحادية منافساً لبوريس يلتسين الذي كان عرض عليه خوض الانتخابات معه في موقع نائب الرئيس، إلا أنه خسر هذه الانتخابات بعد أن جاء في المركز الأخير بقائمة المرشحين الستة.
ولعل هذه الخسارة يمكن أن تكون تتويجاً لمسيرة فاديم باكاتين آخر رؤساء أخطر أجهزة الدولة السوفياتية "كي جي بي" ووزير الداخلية السوفياتية الأسبق. ولعلها تكون أيضاً إشارة إلى ظاهرة وقوع عدد من أكبر قيادات هذا الجهاز في شرك الخيانة التي باتت أخبارها في متناول كثيرين، بعد أن ذاعت الأسرار وانتشرت في زمن صار يصعب أن تختفي فيه الحقائق والبراهين.
كشف أجهزة التجسس
فما إن ولج فاديم باكاتين بوابة السفارة الأميركية في قلب العاصمة موسكو، في مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1991 أي قبل توقيع معاهدات "بيلوفجسكويه بوشا" بين رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروس التي تعتبر المقدمة العملية والقانونية لانهيار الاتحاد السوفياتي، بثلاثة أيام لا غير، حتى توقف حساب الزمن، في انتظار من يعلن بداية حقبة جديدة، يظل كثير من جوانبها يكتنفه غموض شديد. ولكم كان من الغريب أن تجتمع الأضداد في شخصي الغريمين المتصارعين: الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ورئيس روسيا الاتحادية بوريس يلتسين، حول ضرورة الكشف عن شبكة أجهزة التجسس وتفاصيل خرائطها التي كانت قيادات جهاز "كي جي بي" باركت زراعتها بين جدران المبنى الجديد للسفارة الأميركية في موسكو.
وكانت الإدارة الأميركية نجحت أيضاً في زراعة مثيلاتها بين جدران المبنى الجديد للسفارة السوفياتية في واشنطن. غير أن أجهزة الأمن السوفياتية استطاعت تحديد مواقعها، في الوقت الذي عجزت الاستخبارات المركزية الأميركية عن تحديد مواقع أجهزة التنصت السوفياتية بين جدران سفارتها في موسكو، وذلك ما كان سبباً في اشتعال أزمة حادة بين العاصمتين، اتخذت على إثرها واشنطن قراراً بعدم تسليم المقر الجديد للسفارة السوفياتية إلى موسكو، قبل أن تعترف بزرع أجهزة التنصت وتكشف عن مواقعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هنا، كان قرار غورباتشوف ويلتسين، بتسليم السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفياتي روبرت شتراوس تفاصيل شبكة أجهزة الاستماع والتنصت التي زرعتها الاستخبارات السوفياتية في المبنى الجديد للسفارة الأميركية في موسكو، وهو ما كان اكتشفه الأميركيون في عمومه، لكنهم اعترفوا بعجزهم عن تحديد مواقعها بين جدران المبني.
وما إن أدى فاديم باكاتين أثقل المهمات التي يمكن أن يعهد بها إلى مسؤول أمني كبير، حتى أعلن يلتسين قراراً بإقالته، وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية الروسية برمتها، وتقسيم "كي جي بي" إلى جهازين، أحدهما للاستخبارات الخارجية، وآخر داخلي للأمن. أما عن مستقبل من كان "ملء السمع والبصر" صاحب المكانة المرموقة والهيبة السامية، فلم يكن أمامه سوى أن يقنع بمنصب "سفير" عرضه عليه يلتسين شريطة ألا يطلب إيفاده إلى أي من واشنطن أو باريس. لكن المسؤول الأمني الكبير صاحب المسيرة الحزبية التنفيذية النموذجية رفض هذا العرض، قانعاً بعدد من المناصب "الهامشية" التي لم يكن لأي منها تأثير أو مكانة ذات وزن اجتماعي أو سياسي يذكر.
خيانة "تقديرية"
غير أن ما قيل ويقال عن "خيانة" فاديم باكاتين، يظل وعلى ما يبدو "أمراً تقديرياً" وربما يكون، وإلى حد كبير "نسبياً"، نظراً إلى أنه لم يصل به حد ما فعله عدد من كبار قيادات هذا الجهاز الأخطر في الدولة السوفياتية. فالرجل وإن كان وافق على أداء مثل تلك المهمة التي يصفها البعض بـ"غير المهيبة" بموجب أوامر القيادة العليا، فإنه بشكل أو بآخر يمكن أن يحاسب عليها "معنوياً" وليس "جنائياً". ولعل تاريخه المهني يمكن أن يوفر له قدراً من "الأعذار".
وتقول الأدبيات الروسية إن باكاتين صنع مسيرة حزبية نموذجية. وكان ولد في 6 نوفمبر (تشرين ثاني) 1937 في كيسيليفسك، نوفوسيبيرسك (كيميروفو الآن)، لوالد كان يعمل مهندساً للتعدين وأم طبيبة، بما يعني أنه سليل الطبقة فوق المتوسطة بمعايير ذلك الزمان. كما تخرج في عام 1960 في كلية الهندسة المائية في معهد نوفوسيبيرسك للهندسة والبناء. وبعد سلسلة من الوظائف المدنية، تحول باكاتين عام 1973 إلى العمل الحزبي، فشغل منصب السكرتير الأول للجان كيميروفو وغيرها من اللجان الإقليمية للحزب الشيوعي حتى انتخابه عضواً في اللجنة المركزية للحزب، وهو ما كان سبيله إلى منصب وزير الداخلية للاتحاد السوفياتي قبل اختياره رئيساً للجنة أمن الدولة "كي جي بي"، ربما اعترافاً له بفضل انحيازه إلى سياسات الزعيم السوفياتي غورباتشوف، وما سبق وأكده بقناعاته وموافقته على إلغاء "المادة السادسة" في الدستور السوفياتي، التي كانت تكفل للحزب الشيوعي الدور القيادي الأول في الدولة السوفياتية وتحظر التعددية، فضلاً عن وقوفه ضد انقلاب أغسطس (آب) عام 1991 الذي استهدف إطاحة الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف.
وكانت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" أوسع الصحف الروسية انتشاراً، ذكرت في معرض حديثها عن مسيرة باكاتين والأسباب التي جعلته يحظى بثقة رئيس الدولة غورباتشوف، أنه كان مبالغاً مغرقاً في تأييده لسياساته الإصلاحية. ونقلت الصحيفة عن الكاتب والمؤرخ الروسي ألكسي كولباكيدي ما قاله حول إن مثل هذا التأييد المطلق لتلك السياسات لم يكن يعني سوى الانحياز لانهيار الاتحاد السوفياتي.
ورداً على سؤال الصحيفة حول إذا كان مثل هذا الموقف لا بد من أن يضع صاحبه في موقف العداء لكوادر جهاز "كي جي بي"، قال كولباكيدي إن سياسة الانضباط والتسلسل القيادي كانت تحتفظ لرئيس الجهاز بوضعيته، لكن ذلك لم يكن ليمنع انتقادات الكوادر المرؤوسة لباكاتين، إذ ألقت على كاهله بكل تبعات ما حل بالدولة والجهاز من كوارث، وذلك يعود أيضاً إلى أن باكاتين لم يكن "رجل استخبارات محترفاً"، بل كان سليل الأجهزة الحزبية.
إصلاح الجهاز
أما عن إصلاح جهاز "كي جي بي"، فأشارت الصحيفة إلى أن باكاتين حاول خلال الفترة غير الطويلة لرئاسته للجهاز أن يبتعد به من المركزية والعقائدية، وهو ما وضعه في صف واحد مع غورباتشوف وساعده الأيمن ألكسندر ياكوفليف الذي جرى توجيه الاتهام إليه من جانب حزبيين ورجال أمن، بالعمالة وبسقوطه في شباك الاستخبارات المركزية الأميركية. ولعل ذلك ما جعل كثيرين من رجال الأمن والاستخبارات المحترفين يكتفون بتصنيفه كواحد من أصدقاء الولايات المتحدة، في النسق الأعلى للسلطة السوفياتية وهو ما جرى تأكيده، استناداً إلى تسليمه وثائق وخرائط "شبكات الاستماع والتنصت" التي كانت زرعتها أجهزة الاستخبارات السوفياتية بين جدران المبنى الجديد للسفارة الأميركية في موسكو، قبل أن يهدمه الأميركيون ويعيدون بناءه من جديد.
ومن اللافت في هذا الصدد أن السلطات الأميركية حرصت على أن تستورد كل مواد البناء اللازمة للمبنى الجديد من الولايات المتحدة، فضلاً عن رفضها الاستعانة بأية عمالة روسية أو سوفياتية، كما أنها لم تسلم المبنى الجديد إلى السفارة السوفياتية في واشنطن، إلا بعد الانتهاء من بناء المقر الجديد لسفارة واشنطن وتشغيلها في موسكو.
وعلى الرغم من كل هذه الأجواء العدائية ضد فاديم باكاتين، فإنه لم يفعل مثلما فعل كثيرون، ومنهم عدد من جنرالات "كي جي بي" ووزراء من أمثال أندريه كوزيريف، وزير الخارجية ممن لاذوا بالفرار إلى الولايات المتحدة، حيث لا يزالون يقيمون هناك يواصلون حملاتهم العدائية ضد الزعيم الروسي فلاديمير بوتين وسياساته، فيما هرب آخرون إلى ألمانيا وبريطانيا وعدد من البلدان الغربية.
وثمة من يقول في موسكو إن مثل هذا الموقف من جانب باكاتين، يظل يحظى بتقدير خاص من جانب بعض الكوادر الأمنية التي لا تزال تعزو ذلك إلى أن باكاتين، ربما يكون فضل البقاء قريباً من أحضان الوطن، يقيناً منه أنه كان حريصاً على "النضال من أجل الديمقراطية" و"السياسات الإصلاحية" ورافضاً للديكتاتورية وسلطة الحزب الواحد والمركزية المطلقة، فضلاً عن خشيته من معاملة غير كريمة من جانب السلطات الغربية، واحتمالات اضطراره إلى مواجهة ما ربما يكون في غير حساباته.