ملخص
الشتاء قادم والسوريون ينتظرون برودته بالأغطية والتحايل، ويستعينون بالبلاستيك والتمز والأخشاب.
مع قرب قدوم فصل الشتاء يعاني السوريون أسعار المدافئ الباهظة ومواد استخدامها، لاسيما بعد انقطاع الطرق من لبنان، وتتنوع خياراتهم بين المازوت وأنواع الخشب من سرو وتين وجوز وغيره، وصولاً إلى التمز وقشر الفستق الحلبي وغيره.
ويجد السوري نفسه أمام عشرات الخيارات، لكنها كلها مكلفة وأكثر من باهظة، وتغطية شهر من مصاريفها يتطلب جمع رواتب أشهر أو سنين من العمل.
خيارات وفيرة كثيرة يقابلها انعدام القدرة المادية، بينما يقف المواطن أمام فصل يبدو أنه سيكون قاسياً على أكثر من 90 في المئة من السوريين الذين تصنفهم الأمم المتحدة بأنهم تحت خط الفقر وفي قاعه.
حسبة الشتاء
وعلى وقع أزمة النزوح اللبناني خصوصاً، والوضع السوري عموماً، تشهد البلاد أزمة شح هائل ونقص فادح في المحروقات بمختلف أنواعها، إذ شهدت مادة المازوت ارتفاعاً جنونياً في أسعارها مسجلة نحو 20 ألف ليرة سورية (نحو دولار ونصف دولار) لليتر الواحد، بعدما كان بثلثي دولار قبل أكثر من شهر بقليل.
وفي حين قارب سعر البرميل سعة 100 ليتر حدود 130 دولاراً، وهو ما يعادل مرتب نصف عام كامل للموظف السوري. وإذا رغب أحد في أن يشغل مدفأة المازوت التقليدية ذات الاستهلاك المعتدل لمدة 10 ساعات يومياً وهو رقم أقل من مقبول إذا ما وزع على ساعات النهار فإنه سيستهلك خمسة ليترات مازوت في المدافئ العادية، أي 100 ألف ليرة سورية، مما يعني سبعة دولارات، وهو نصف المرتب الشهري لأجل يوم تشغيل واحد.
الفكرة هنا هي أن أشهر الشتاء القاسية هي نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) ومارس (آذار)، أي خمسة أشهر، وبحسبة بسيطة سيكون الاستهلاك الأدنى 150 ليتراً شهرياً، ما مجموعه 750 ليتراً في الأشهر الباردة، وهذا يقود إلى رقم مدفوع حصيلته 15 مليون ليرة سورية (ألف دولار)، وهذا الرقم يحتاج جمعه إلى سنين طويلة في سوريا وأعمال إضافية كثيرة.
الشتاء قادم
مع كل يوم يقترب فيه الشتاء، ترتفع أصوات المواطنين مطالبين الحكومة الجديدة بتأمين مواد التدفئة لهم محملين إياها مسؤولية تقصير تاريخي في التعاطي مع المواد الأساسية التي كانت حتى وقت قريب خطوطاً حمراء يمنع تجاوزها.
ذلك التقصير هو ما دفعهم إلى البحث عن وسائل تدفئة بديلة، قد تبدو بدائية في بعض الأحيان، كالحطب من أشجار السرو والسنديان والتين والجوز، وغيرها وروث البقر والأغنام، وبقايا بزر الزيتون المضغوط الذي يسمى "التمز".
بدورها ارتفعت أسعار هذه المواد إلى حدود باتت خيالية هذا العام، مما دفع عائلات كثيرة إلى التوجه وجمع الأحطاب المتكسرة أو حتى قطع الأشجار الحرجية أو تجميع البلاستيك والنايلون والمخلفات من القمامة لإضرام النيران فيها.
مادة عزيزة
قال فؤاد الجار، أحد سكان بلدة السوداء الجبلية في ريف مدينة طرطوس الساحلية، والوالد لطفلين، إن المناخ البارد سيتطلب أكثر من ألف ليتر من المازوت هذا الشتاء وليست لديه طريقة لتأمين تلك الكمية، واصفاً المادة بـ"العزيزة" حتى في السوق السوداء. ويضيف "ليس سهلاً أن تسكن في الجبال المرتفعة، وأن تمن عليك الحكومة بمخصصات مدعومة هي 50 ليتراً في الشتاء فقط، كيف سنتدبر أمورنا؟ لدي صغار بحاجة إلى الدفء".
حلول بديلة
كذلك الأمر بالنسبة إلى مفيدة نصيران، ربة الأسرة القاطنة في منطقة القدموس شديدة الارتفاع في جبال اللاذقية - طرطوس، وهي أم لخمسة أطفال، وزوجها موظف في إحدى مديريات الحكومة في منطقة الشيخ بدر القريبة. وتقول إنه "قبل عام 2020 حصلنا على المازوت بيسر وسهولة، وفي عام 2021 أحرقنا الملابس القديمة لنتدفأ، في عام 2022 استعنا بمدافئ الحطب، في عام 2023 استخدمنا مدافئ التمز وهي مخلفات الزيتون، هذا العام كل شيء باهظ الثمن، وفي كل لحظة منذ شهر أغسطس لا أفكر سوى باحتضان أطفالي ومد الغطاء فوقنا إلى أن ينقضي الفصل المرير، أو أن نترك المنطقة كلها ونتجه إلى الساحل، إذ يكون الجو أكثر دفئاً، ولكن يبدو هذا الخيار مستحيلاً في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حلاوة الروح"
روت "أم نادر"، وهي أم لثلاثة أطفال معاناتها مع كل شتاء. وقالت السيدة السورية المتحدرة من غوطة دمشق الشرقية، إنها تجمع منذ الشتاء الماضي، كل ما أمكن توفيره من عبوات ورقية وبلاستيكية وأكياس وكراتين وصحاحير خضار كرتونية وورقية وفلين وبلاستيك ونايلون، ثم تقوم بوضعها في أكياس بلاستيكية أكبر وتحكم إغلاقها. وأضافت أنها جمعت "أية عبوة بسكويت أو شيء بلاستيكي يمكن الاستفادة منه، ويمكن العثور عليه بوفرة في الشارع أو كمخلفات في محال بيع الخضراوات والبقالة"، وتابعت "كذلك أجفف قشور البصل والخضراوات العفنة وأضعها في أكياس، وكلها يمكن إضرام النار فيها للتدفئة في الشتاء، ومع كل ذلك، فهذا لا يكفي ولا يفي بالغرض".
سنفعل كما كل عام
استعرض المهندس الفني زاهي الحموي مدفأة منزله الخاصة بزهو شديد، متباهياً بأنها من أفخم أنواع المدافئ المعروفة في سوريا التي كانت تستخدم قبل الحرب بكثرة وقبل غلاء ثمن المازوت. وقال ضاحكاً "الآن إذا أردت تشغيلها فإن كلفة المازوت ليوم واحد ستعادل مرتبي الشهري كاملاً، فأعتقد أنني سأتجه لبيعها، وأكثر من يرغب بها من الشراة هم أصحاب المقاهي لأن بإمكانها تدفئة مكان واسع، وهي خيار أوفر لهم من استجرار الكهرباء لأجل المكيفات، أما أنا وأسرتي فسنفعل كما كل عام، سنلف أنفسنا بالأغطية وفي ساعتي التغذية بالكهرباء اليتيمتين سنشغل المدفأة الكهربائية".
نشيط وكسول
مازن العلبي، مشرف حسابات في أحد البنوك الخاصة، ينتهي دوامه في الخامسة ظهراً، لكنه ارتأى منذ سنوات أن يلجأ إلى حيلة توفر له الدفء مع زيادة أجره، وعن ذلك يقول إن "الدوام الإضافي هو الحل". يستفيد مازن من كونه عازباً ويقطن وحيداً في دمشق، يشرح عن ذلك، "بدل أن أعود للمنزل في الخامسة وأتجمد من البرد، قررت أن أطيل دوامي حتى الثامنة مساء، وهكذا أتقاضى ساعات إضافية وأحظى بالدفء أكثر، وحين أخرج من الوظيفة أذهب مع الرفاق إلى مقهى لديه مدفئة ونظل حتى منتصف الليل"، ويكمل "ثم أعود للمنزل الذي يبدو كمنزل أشباح دونما دفء، فألبس نصف الخزانة وأضع فوقي بضعة أغطية وأظل أتقلب من البرد إلى أن أغفو وأذهب إلى العمل في الثامنة، وغالباً أصل قبل زملائي، فصاروا يلقبونني بالأنشط وهم لا يعرفون قصتي". إلا أن نشاط مازن ذلك ينتهي في الصيف، ولا يعود إلا في الشتاء، فيصير كسولاً، ويحير زملائه، كما يصف حاله مبتسماً.
ألف دولار للأساسيات فقط
ونسي قسم واسع من الأسر السورية أشكال المدافئ، وتحالفت مع ثيابها الأكثر سمكاً ومع أغطية المعونات للدفئ في شتاءات مريرة تمر سنوياً على بلد فقد إنتاجه الغازي والنفطي.
وقد يكون من المستحيل تعميم الأمر، فبعض منهم ينعمون بالدفء طوال الوقت، منهم في مكان عمله، وآخرون مقتدرون على شراء أية مادة للتدفئة.
وأكد الخبير الاقتصادي عبدالرحمن جبرة أن "الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى ما بين 800 إلى 1000 دولار شهرياً لتأمين المعيشة الأساسية لا المرفهة، في حين تمنح الحكومة رواتباً متوسطها 20 دولاراً فقط"، وأضاف "مع تزايد الالتزامات تزيد تقديراتنا لحاجات الأسرة وخصوصاً في الربع الأخير من كل عام، إذ أشهر المؤن والمدارس والمازوت وخلافه، والحكومة أذن من طين وأخرى من عجين".
وعلى رغم التقديرات الأممية بأن 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر إلا أن اقتصاديين سوريين يقولون إن النسبة وصلت إلى 99 في المئة فعلياً، وقد يبدو هذا واضحاً في عشرات النواحي من حياة السوريين الذين باتوا لا يجدوا ما يأكلونه بعد أن صارت حتى الفلافل "طعام الفقراء"، حلماً بعيد المنال لكثيرين منهم.