"أغنى دولة وأفقر شعب"، بهذه العبارة اعتاد الليبيون أن يتندروا بمرارة على واقعهم، فعلى الرغم من مرور ستة عقود على بداية استخراج النفط والغاز لم تتغير حالهم، في مفارقة غريبة تزيد آلامهم كلما زاد فقرهم في واحدة من أغنى بلاد العرب والقارة السمراء، بالأرقام وعلى الورق.
أرقام لا تعكس الواقع
وواقعياً لا يبدو لمن يزور ليبيا ولا يعرف عنها كثيراً أنه يسير على أرض تسبح فوق بحيرات من النفط والغاز، كونها تمتلك أعلى احتياط نفطي مؤكد في أفريقيا والتاسع على مستوى العالم بواقع 41.5 مليار برميل، وخامس أكبر احتياط مؤكد من الغاز الطبيعي في أفريقيا يقدر بنحو 1.4 تريليون متر مكعب، بينما لا يزال سكانها يتلقون خدمات ضعيفة ويعانون الأمرين من سوء البنى التحتية، على الرغم من آلاف المليارات من الدولارات التي حصلتها الدولة من مبيعات الطاقة على مدى 60 عاماً.
واحتفلت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا بالذكري الـ 60 لتصدير الشحنة الأولى من النفط الليبي إلى العالم في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 1961، بعد ثلاثة أعوام من اكتشاف الحقل الأول من نفط البلاد عام 1958.
وغير اكتشاف الذهب الأسود حال البلاد وموقعها على الخريطة الدولية رأساً على عقب، إذ كانت ليبيا قبل النفط مقسمة إلى ثلاث ولايات (برقة وطرابلس وفزان)، وتعاني التخلف الاقتصادي والاجتماعي بمختلف مظاهره، وفيما كانت الزراعة والرعي الحرفتين الرئيستين لمعظم السكان، كان الاقتصاد استهلاكياً أكثر مما هو إنتاجي، والواردات أعلى من الصادرات، وكان تمويل العجز يأتي من المساعدات الأجنبية عبر برامج الأمم المتحدة ووكالاتها الخاصة في ميادين الصحة والتربية والعمل والزراعة وميادين أخرى، حتى اكتشاف النفط وتصديره عام 1961.
وسعت الحكومة الليبية في زمن الملك الراحل إدريس السنوسي إلى الاستفادة من الثروة النفطية في تحقيق تنمية شاملة، وحققت نقلة واضحة في الحياة الاقتصادية ومخرجاتها الاجتماعية.
وفي أواخر العهد الملكي وبعد فترة وجيزة من ظهور النفط، قفزت ليبيا بسرعة من خانة ثاني أفقر دولة في العالم إلى دولة غنية وبدأت وضع الخطط الاقتصادية لاستثمار الثروة الجديدة، فانطلقت بخطة خمسية حققت خلالها قفزة على مستويات عدة، وافتتحت الجامعات وشقت الطرق وشرعت في تنفيذ مشاريع إسكانية ضخمة وشيدت المستشفيات والملاعب الرياضية، وبدا أن ليبيا في طريقها فعلاً لتصبح "سويسرا الشمال الأفريقي"، كما كتبت إحدى الصحف المصرية نهاية الستينيات.
متلازمة المال والفساد
الخطة الضخمة التي وضعتها المملكة الليبية خلال الستينيات للنهوض بالبلاد، ورصدت لها مبالغ طائلة لم يسمع بها من قبل، حفزت على ظهور الفساد في المشاريع التي انطلقت بسرعة على الرغم من أن الملك إدريس السنوسي الذي يسميه الليبيون حتى اليوم بـ "الملك الصالح"، عرف بالتقشف والنزاهة. وقال عنه الراحل مصطفى بن حليم الذي تقلد وزارات عدة في عهد المملكة، "لم تكن له مدخرات أو أموال، وحينما طرد من ليبيا عاش إلى يوم وفاته على نفقة الحكومة المصرية".
ولكن ذلك لم يمنع من انتشار الفساد في مفاصل الدولة الليبية في ذلك الوقت، وطاولت التهم بعض حاشية الملك والمقربين منه في قضايا رشى واختلاسات تناولتها الصحف حينها بشكل مفصل.
وثائق أميركية
ويعتبر مشروع "طريق فزان" الذي شرعت فيه الحكومة الليبية خلال الستينيات أبرز مثال على حجم الفساد في المشاريع الحكومية في ذلك الزمان حتى إنه وثق لدى الاستخبارات الأميركية، وقد رفعت السرية عن تلك الوثائق في الـ 11 من أغسطس (أب) 2020.
وورد في الوثائق الاستخباراتية الأميركية أن "ثلاثة من أصل الستة الجدد المختارين لمناصب في مجلس الوزراء هم أعضاء في لجنة المالية والاقتصاد، وهي اللجنة التي كان من المرجح أن تشن هجوماً على الحكومة بفعالية في قضايا الفساد".
وأضافت الوثائق، "تركزت الاتهامات حول الرشى والمخالفات التي شابت تعاطي الحكومة مع مشروع طريق فزان باهظ الكلفة، وعلى الرغم من الفضيحة السابقة فإن رئيس الوزراء محمد عثمان الصيد والملك إدريس يصران على استمرار الشركة الليبية نفسها (مملوكة لعبدالله عابد السنوسي ابن عم إدريس السنوسي) في تنفيذ طريق فزان تقريباً بالنمط المخطط له سلفاً".
وذكرت أن "الحكومة تعاني نقطة ضعف كبيرة بسبب المحسوبية الفاضحة التي يمارسها كبار المسؤولين نظير الرشى التي يتلقونها من بعض شركات النفط الغربية الكثيرة العاملة في ليبيا، ففي مارس (أذار) 1961 طرحت الحكومة بشكل غير متوقع مناطق امتياز نفطية وأغلقت على الفور العطاءات بمجرد أن تلقت عروضاً من شركتين مهدتا الطريق بدفع اللازم، وتعاون مسؤولون من الحكومة الاتحادية مع مسؤولين من الولايات للحصول على مبالغ خاصة وضخمة من الشركات لتمكينها من مد خطوط الأنابيب".
وعلى الرغم من فضائح الفساد التي تكررت خلال السنوات الأخيرة من زمن المملكة الليبية، إلا أن كثيراً من الليبيين يعتبرون عهدها أفضل العهود من ناحية استثمار الثروات القومية وفق خطط واضحة كان من الممكن أن تجعل ليبيا في حال أفضل، لولا تعثر كل ذلك في سبتمبر (أيلول) 1969 عندما استيقظت البلاد على انقلاب عسكري على الحكم الملكي بقيادة ملازم شاب اسمه معمر القذافي خلال العام الذي حققت فيه ليبيا أعلى موازنة عبر تاريخها، وقد خصص ثلثاها لمشاريع التنمية وارتفع معدل الدخل 17 في المئة عن العام 1960 من 120 إلى 375 ديناراً، وكان ذلك مبلغاً كبيراً.
الاستخدام السياسي للنفط
يقول أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية جمال الشطشاط إن "أهم ما مميز علاقة نظام القذافي بالقطاع النفطي هو تسخير إيراداته للاستخدام السياسي، خصوصاً في علاقاته الدولية التي بدأت بتأميمه وطرد الشركات البريطانية والأميركية تأسياً بما فعله نظام جمال عبدالناصر في مصر، ثم استخدام جزء كبير من هذه الإيرادات في دعم حركات التمرد على مستوى العالم، خصوصاً في الدول التي يعاديها مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي وحركات مماثلة في أفريقيا والقارتين الأميركيتين".
ورأى أن "انشغال القذافي بمعاركه الخارجية جعله يدير ظهره للتنمية الداخلية، وعانت ليبيا تبعات العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على نظامه بعد حادثة لوكربي، وتعطلت كل المشاريع التنموية وانخفض مستوى الدخل وغادر الحكم من دون ترك أي مشروع كبير إلا مشروع النهر الصناعي الشهير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من تردي البنية التحتية ومستويات التعليم والصحة في زمن القذافي بشكل ملاحظ إلا أنه يحسب له تحقيق أعلى مستوى دخل سجل في ليبيا حتى الآن وذلك عام 2008، بمعدل أكثر من 14 ألف دولار في العام، على الرغم من أنه رقم متوسط عالمياً وضعيف مقارنة مع الدول المصدرة للنفط على مستوى العالم.
ويقول الشطشاط، "على الرغم من محدودية عدد السكان في مقابل ثروات البلاد، عانى الاقتصاد الليبي ظاهرة البطالة خلال عهد القذافي، إذ بلغت خلال التسعينيات حد 30 في المئة، لكن انخفض مستوى البطالة خلال السنوات الأخيرة لحكمه على خلفية ارتفاع أسعار النفط، الأمر الذي منح السلطات فرصة تعزيز النفقات العامة وبالتالي إيجاد فرص عمل جديدة للمواطنين".
وتابع، "كما عانى الاقتصاد الليبي ظاهرة عدم تسجيل نتائج غير لافتة في عدد من المؤشرات الدولية، إذ نال المرتبة الـ 100 من بين 139 بلداً في تقرير التنافسية الاقتصادية للعام 2010.
ولم تحقق ليبيا ترتيباً إيجابياً على مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية، إذ حلت في المرتبة الـ 146 من بين 178 بلداً في تقرير مدركات الفساد للعام 2010".
عقد الثورة
وبعد سقوط نظام القذافي عانى الليبيون أسوأ المستويات المعيشية التي عرفوها منذ بداية ظهور النفط، بسبب الصراعات السياسية والعسكرية وتضخم مستويات الفساد بشكل مرعب وتفتت الدولة وانقسامها.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي فإن نصيب الفرد في ليبيا خلال العام 2021 قدر بحوالى 3700 دولار فقط، في مقابل 4 آلاف دولار عام 2020، بينما كان خلال عامي 2018 و2019 يصل إلى حوالى 7800 آلاف دولار.
وتردت الخدمات العامة في ليبيا خلال تلك السنوات أكثر من أي وقت مضى خصوصاً في قطاعي الكهرباء والصحة، وعانى الليبيون أزمات اقتصادية غير مسبوقة بالنسبة إليهم، أبرزها شح السيولة المالية في المصارف وانقطاع البنزين وغيرها من المحن التي عززت المفارقة العجيبة للشعب الفقير في الدولة الثرية.