منذ الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، دخل العراق في أزمة سياسية عميقة وصلت إلى ذروتها بعد استقالة كتلة التيار الصدري، وهي الكتلة الشيعية الأكبر في البرلمان، في يونيو (حزيران) الماضي. ولم تنعكس الانتخابات التي جاءت بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، في تشكيل حكومة جديدة، حيث شكك ممثلو الميليشيات الموالية لإيران بنتائجها من أجل البقاء في السلطة. فبالنسبة للأحزاب الشيعية الخاسرة، جاءت نتائج الانتخابات بمثابة صدمة. ورداً على ذلك، تشكلت جبهة موحدة، وهي "الإطار التنسيقي"، الذي يضم كل القادة الشيعة الرئيسيين باستثناء الصدر، للطعن في النتائج بناءً على مزاعم بالتزوير.
وقد أثرت الاستقالة الجماعية للكتلة الصدرية في العملية السياسية في العراق، حيث استُبدل نوابها بنواب من "الإطار التنسيقي"، واحتدم الصراع بين المتنافسين فى البرلمان والشارع، من خلال تعارض مطالب كل طرف. وفي وقت مثلت الانتخابات البرلمانية المبكرة، حلاً للتخلص من الحكومة التي سارت ضدها تظاهرات المواطنين طوال العام الماضي، قد تؤدي الأزمة السياسية المحتدمة حالياً إلى عودة الحركة الاحتجاجية الشعبية.
وتنقسم الأحزاب الشيعية إلى معسكرين متنافسين، "الصدريين" و"الإطار التنسيقي"، وبفعل هذا الاتقسام يمر العراق في أسوأ وأطول أزماته السياسية منذ سنوات. وعلى الرغم من الغضب الشعبي، لم يحدث تقدم في المأزق السياسي في العراق، إذ لا يزال المعسكران الشيعيان في العراق عالقين في منافسة محصلتها صفر. ولا يبدو أن أي منهما على استعداد لتقديم تنازلات لإنهاء الأزمة المستمرة منذ 10 أشهر.
وأطلق متظاهرو "الإطار" اعتصامهم في بغداد يوم الجمعة 12 أغسطس (آب) الحالي، بعد أسبوعين من اقتحام أنصار الصدر البرلمان وبدء احتجاج مفتوح أولاً داخل المجلس التشريعي، ثم خارجه. وأعلن "الإطار" الموالي لإيران إنه سينفذ اعتصاماً إلى أجل غير مسمى لتسريع تشكيل حكومة جديدة. وكان مناصرو الصدر يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة جديدة، بعدما رشّح "الإطار التنسيقي" وزير العمل السابق محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء. وكان الصدريون مُنعوا، بسبب امتلاك "الإطار التنسيقي" الثلث المعطل في البرلمان، من اختيار رئيس للوزراء بالتحالف مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا يحتشد أنصار الصدر ضد ترشيح رئيس وزراء جديد، وتمثل هذه الاحتجاجات شرخاً سياسياً يتفاقم بين الكتل الشيعية المتنافسة في العراق. وطالب الصدر المحكمة الفيدرالية بحل البرلمان فوراً لفشله في تشكيل حكومة. كما طالب الحكومة الحالية بتنظيم انتخابات مبكرة. لكن بموجب المادة 64 الفقرة الأولى من الدستور العراقي، يتطلب حل البرلمان طلباً من رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو ثلث المجلس التشريعي، يليه تصويت الغالبية المطلقة في البرلمان. ثم يجب على الرئيس أن يدعو إلى انتخابات مبكرة في غضون 60 يوماً من الحل.
وفي ظل التنافس بين القوى السياسية الشيعية يتوارى إلى الخلف سخط المواطنين، والذي من المحتمل أن يعود إلى الواجهة في حال تم التوصل إلى حكومة جديدة وعانى منها العراقيون مثلما عانوا في السابق، فستكون العودة مرة أخرى إلى الاحتجاجات الشعبية وليس مخيمات اعتصام المتنافسين السياسيين.
إن الأزمة السياسية بالعراق تعكس فشل كل من إيران والولايات المتحدة في بناء نظام سياسي ينتج حكومة عابرة للطوائف والأعراق تحمي سيادة البلاد. ويعاني العراق من النظام السياسي الذي تمت هندسته بعد سقوط نظام صدام حسين، إذ أعيد تأسيس نظام الحكم على أساس طائفي هو ضمان تصعيد وتمكين الشيعة في عراق ما بعد الغزو الأميركي من خلال الانتخابات.
إن الأزمة السياسية بالعراق هي إنعكاس لأسلوب الإقناع المعياري والقيمي الذي اعتمدته إيران في معظم الحالات والذي كان الأنجح في إنتاج تبعية وتأثير في سياسات الدول التي تمارَس بداخلها، حيث حرصت على انتقال المعايير والقيم عبر عملية التنشئة الاجتماعية للنخب والجماعات في الدول التي تعتبرها مجالها الحيوي. وأدت عملية التنشئة الإيرانية المعقدة تلك والتي من ضمنها إعادة بناء النظام السياسي لتلك الدول على أسس تضمنه حليفاً، إلى إعادة تعريف المصالح الوطنية للدولة التابعة في إطار النظام المعياري والقيمي للدولة المهيمنة. كما أدت إلى تحول في سياسات تلك الدول على النحو الملائم والمتوافق مع سياسات وقيم إيران، كما اتضح في حالات العلاقة مع الجماعات الشيعية بالعراق و"حزب الله" في لبنان.
وتم تفعيل أدوات التنشئة الاجتماعية لتحقيق الإقناع الأيديولوجي عبر الاتصال بالنخب الموجودة بالدول التابعة من خلال تأسيس تلك الجماعات. وتم أيضاً التأثير في عملية تنشئة النخب من خلال عمليات إعادة الإعمار الداخلي، حيث تدخلت إيران مباشرةً في الدول الأخرى وسعت إلى تحويل مؤسساتها السياسية والأمنية. ومثل هذا التدخل المكثف، لم يحدث إلا في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين عام 2003. هنا سعت إيران إلى نقل مبادئها المعيارية والقيمية إلى المؤسسات السياسية والأمنية العراقية والتحكم بالعملية السياسية التي لا تزال مصابة بالشلل. وقد يؤدي النظام السياسي القائم منذ عام 2003 إلى تعدي مرحلة الانسداد السياسي إلى المواجهات المسلحة.