مع تحسن فرص وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، لخلافة بوريس جونسون في 10 داوننغ ستريت، تختلف وجهات النظر في واشنطن، إزاء ما يمكن أن تكون عليه العلاقة مع أقرب حليف للولايات المتحدة تحت حكم تراس.
وبينما يعشقها المحافظون، ويرون أنها نسخة حديثة من مارغريت تاتشر، لا يثق بها الديمقراطيون المعارضون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذين يخشون من تأثير بروتوكول إيرلندا الشمالية على العلاقة بين الجانبين، ويشكون في تحسن علاقة لندن مع أوروبا كشرط مهم لازدهار العلاقة مع واشنطن، فكيف ستكون العلاقة المستقبلية بين لندن وواشنطن؟
طوبة تاريخية
حينما زارت ليز تراس، وزيرة الخارجية البريطانية، واشنطن في مارس (آذار) الماضي، بعد أيام من الهجوم الروسي على أوكرانيا، أراد الأميركيون تقديم هدية دبلوماسية لها، للفت الانتباه إلى عمق الصداقة التاريخية والتعاون بين البلدين، لكن الهدية، التي قدمتها "الجمعية التاريخية للبيت الأبيض"، وكانت عبارة عن طوبة من منزل الرئيس الأميركي الذي أحرقه البريطانيون عام 1814 في واحدة من أحلك اللحظات ظلمة في تاريخ العلاقات بين البلدين، أثارت علامات دهشة واسعة في الأوساط السياسية الأميركية حول مغزاها.
ومع ذلك استقبلها الجانبان بروح ممتازة، كما وصفها جون روجرز، رئيس المجلس الأطلسي في واشنطن، الذي قال إن الهدية رمز ملائم لمرونة العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهي مرونة قادرة على تجاوز خلافاتنا، والبقاء ملتزمين برؤيتنا الدائمة وروابطنا.
تاتشر الحديثة
ومع استعداد ليز تراس لتحل محل بوريس جونسون بعد نحو أسبوعين، لتكون ثالث رئيسة لوزراء بريطانيا، تبدو العاصمة الأميركية منقسمة في تقييمها لما يمكن أن تقدمه مارغريت تاتشر الحديثة للعلاقة مع الولايات المتحدة، فالمحافظون في واشنطن معجبون بها، والديمقراطيون متشككون في سياستها، بخاصة تجاه أوروبا وإيرلندا الشمالية، وتأثير ذلك على الولايات المتحدة، بينما تتساءل مجموعات بحثية وحكومية ودبلوماسية عن قدراتها الفكرية.
وعلى الرغم من أن تراس كانت تنتمي إلى أسرة يسارية، وشاركت في طفولتها في تظاهرة ضد تاتشر والأسلحة النووية، فإنها استحضرت شخصية "المرأة الحديدية"، كما كان يُطلق عليها، حين وقفت على ظهر دبابة تابعة للجيش البريطاني في أوروبا الشرقية على غرار ما فعلته تاتشر خلال الحرب الباردة، كما ارتدت ملابس تشبه إلى حد بعيد ملابس رئيسة الوزراء الراحلة، ما جعلها الخيار المفضل لدى عديد من المحافظين، الذين يقدسون تاتشر فوق كل القادة الآخرين، وهو ما تردد صداه لدى المحافظين والجمهوريين في واشنطن، بحسب نيل غاردينر، رئيس مركز تاتشر في مؤسسة هيريتيج الأميركية، الذي يرى قدراً كبيراً من الطاقة الإيجابية في تصورات المحافظين الأميركيين حيال ليز تراس التي تحظى بشعبية كبيرة.
رهان على الجمهوريين
وعلى عكس منافسها في داوننغ ستريت، ريشي سوناك، الحاصل على ماجستير إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد الأميركية، وكان يحمل البطاقة الخضراء حتى عام 2021، تمتلك تراس شبكات علاقات أوسع منه في واشنطن، حيث حرصت على تنمية علاقاتها مع نشطاء ومفكرين جمهوريين خلال زياراتها الرسمية المتكررة لمراكز الأبحاث في واشنطن كوزيرة للخارجية، ومن قبل ذلك كوزيرة للتجارة الدولية، وخبيرة اقتصادية قبل دخولها السياسة، حيث عملت تراس في ستة مناصب بوزارات مختلفة، وكانت زائرة منتظمة لواشنطن منذ انضمامها إلى فريق رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عام 2014، حينما كانت تبلغ من العمر 38 عاماً.
ويبدو أن تراس (46 عاماً) تراهن على دعم الجمهوريين، لتمرير صفقة تجارية تنتظرها بفارغ الصبر، بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تحت قيادة بايدن، لتعويض خسارة المزايا التي فقدتها بريطانيا نتيجة "بريكست"، بخاصة أن تراس كانت حريصة على إبرام اتفاق للتجارة الحرة بصفتها وزيرة التجارة خلال إدارة ترمب، لكنها تعاملت مع الأمر باعتباره مسألة من الدرجة الثانية منذ أن وافق الكونغرس على مسار سريع للتوصل إلى اتفاق.
مناورات تجارية
لكن هذا قد لا يكون كافياً، بحسب لوك كوفي، المستشار السابق بوزارة الدفاع البريطانية والخبير في معهد هدسون حالياً، الذي يرى أن الأمر سوف يتطلب تغييراً في البيت الأبيض لكي يفتح أبواب صفقة تجارية مع تراس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك، فإن لدى تراس مجال للمناورة في السياسة التجارية، حتى لو كانت إدارة بايدن لا تزال تعاني حساسية تجاه صفقة ثنائية بين الحكومتين، فقد وقعت المملكة المتحدة أول اتفاقية تجارية على مستوى الولايات مع ولاية إنديانا في مايو (أيار) الماضي، وتهدف إلى توقيع اتفاقيات حكومية مع خمس ولايات جمهورية إضافية بحلول نهاية عام 2022، وهي تكساس وجورجيا وتينيسي وأوكلاهوما وساوث كارولينا، إضافة إلى ولاية ديمقراطية واحدة هي كاليفورنيا، بينما تحاول الحصول على 19 اتفاقية أخرى تغطي الحواجز غير الجمركية والاستثمارات في التكنولوجيا، وقطاعات أخرى.
براغماتية تراس
وعلى الرغم من اختلاف التقييمات في واشنطن حول شخصية تراس التي يراها البعض محافظة تحركها القيم، وبينما يعتبر آخرون أن دوافعها أيديولوجية، فإن المستشارين المقربين منها يرونها براغماتية، وأن عمل إدارة بايدن معها سيعمل لصالحها، لأنها ببساطة ليست بوريس جونسون، الذي ذرف البيت الأبيض القليل من الدموع على تراجعه السياسي. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن البيت الأبيض سوف يحتضن تراس بالنظر إلى ملفات أخرى لا تبدو فيها المصالح متوائمة.
تشعر إدارة بايدن وأعضاء الكونغرس بالإحباط، بسبب رعاية تراس لتشريع في البرلمان هدفه إعادة كتابة بروتوكول إيرلندا الشمالية من جانب واحد، وهو المحور القانوني الذي يتعامل مع الحدود والمصالح الإيرلندية وعلاقات بريطانيا الأوسع مع الاتحاد الأوروبي بعد مغادرتها الكتلة، الأمر الذي يثير القلق في واشنطن، لأنه يضر بمصالحها مع أوروبا وعبر الرئيس جو بايدن ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، مراراً عن مخاوفهم من أن سياسات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستقضي على السلام، الذي جرى تحقيقه بشق الأنفس في إيرلندا الشمالية.
علاقة خاصة ذات مسارين
ويعتقد بعض المحللين السياسيين في واشنطن أنه طالما استمر بايدن في البيت الأبيض، فإن علاقة بريطانيا الخاصة مع الولايات المتحدة، سوف تستمر في العمل على مسارين، الأول هو العمل مع تراس على أنها موالية لبوريس جونسون.
ومن المرجح أن تستمر في سياسات ونبرة حكومة جونسون، وهذا يعني أن المسار الأول للعلاقة سيبقى دافئاً ولن يتغير، بغض النظر عمن يتولى المنصب في داونينغ ستريت، لأن التعاون الدفاعي يوفر الاستقرار للعلاقة الخاصة، كما ستحافظ التحديات الإقليمية والاقتصادية من الصين وروسيا على إبقاء تحالف لندن وواشنطن الجيوسياسي قائماً.
لكن المسار الثاني في العلاقة وهو المتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فسوف يكون أكثر برودة، حيث يتوقع دبلوماسيون أن يكون تعامل حكومة تراس مع البروتوكول، هو أول اختبار رئيس للعلاقات بين البلدين، بخاصة مع عدم وجود علاقة سابقة مع بايدن يمكن الرجوع إليها، لكن إذا أصبحت تراس رئيسة للوزراء، فمن المحتمل أن تلتقي بايدن في سبتمبر (أيلول) المقبل، عندما تزور الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تحديات أكبر
وتعتبر فران بورويل، كبيرة الباحثين بالمجلس الأطلسي في واشنطن، أن التحدي الذي يواجه تراس هو بناء محادثة بناءة مع الاتحاد الأوروبي بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية ومسائل أخرى. لكن مجتبى الرحمن، المدير الإداري لمجموعة أوراسيا في أوروبا، يرى أنه ما لم تصلح تراس العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فإن الصداقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لن تزدهر.
ولا يستبعد نيل غاردينر، رئيس مركز تاتشر في مؤسسة هيريتيج فاونديشن، أن تكون هناك توترات بين لندن وواشنطن بشأن قضية بروتوكول إيرلندا الشمالية، بصرف النظر عمن سيشغل منصب رئاسة الوزراء في 10 داونينغ ستريت.
علاقات أوثق
ومع ذلك، أوضح أحد أعضاء فريق حملة تراس لموقع "بوليتيكو" الأميركي، أن ليز تراس تتمتع بعلاقة جيدة مع نظرائها الأميركيين، وأنهم عملوا معاً بشكل جيد خلال فترة عملها كوزيرة للخارجية، لا سيما خلال الرد على الغزو الروسي لأوكرانيا، ولهذا ستواصل تراس كرئيسة للوزراء، العمل بشكل وثيق مع الحلفاء الأميركيين.
وما قد يساعد تراس في توثيق علاقتها مع واشنطن، مواقفها الحازمة في الشؤون الدولية، فهي تتبنى في تعليقاتها العامة شعار: "كن قاسياً، تحصل على السلام"، وفي خطاب ألقته في المجلس الأطلسي في مارس الماضي تحت عنوان "انتهى عصر الرضا"، أشادت تراس بالعقوبات غير المسبوقة ضد الأفراد والمنظمات الروسية، وإن اعتبرت أن ذلك لم يكن استجابة سياسية كافية، حيث بدت أشبه بمثلها الأعلى تاتشر، وقالت للجمهور: "علينا أن نعمل بمبدأ أن الشيء الوحيد الذي يفهمه المعتدون هو القوة".
ولهذا السبب يتوقع غاردينر من مؤسسة هيريتيج أن رئاسة تراس ستشهد موقفاً بريطانياً صعباً للغاية تجاه الصين، وأن العالم سيشهد الكثير من التعاون بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مواجهة الصين، بخاصة بعدما سارت فوق حاملات الطائرات البريطانية على غرار الرؤساء الأميركيين، في رسالة أشبه بشكل مخيف لرسالة الملكة إليزابيث الثانية من قصر باكنغهام.
وبينما يعرف بعض الأميركيين تراس من خلال خطابها المنمق عن روسيا والصين، يميل مسؤولو إدارة بايدن إلى رؤية صعودها على أنه أحد أعراض تراجع مستوى القيادة البريطانية، لكن المستشارين المقربين منها يرون أن تراس التي تخرجت في جامعة أوكسفورد العريقة، ليست غبية على الإطلاق، ويهيمن على شخصيتها اعتزازها الهائل ببريطانيا، كما أنها ليست رجعية يمينية كما قد يظن البعض.