Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ورحل غورباتشوف

لا يمكن أن يكون وحده المسؤول عما آل بالبلاد من مصائب وكوارث يتابع العالم حتى اليوم تبعاتها

غورباتشوف والرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان (رويترز)

رحل ميخائيل غورباتشوف الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي السابق عن 91 سنة بعد رحلة طويلة مع المرض. له ما له وعليه ما عليه. رحل مشيعاً بكثير من النقد من أنصاره ومعارضيه على حد السواء، وإن ترددت تقديرات تقول إنه يستحق موقفاً مغايراً، وهو الذي فتح أمام شعبه والعالم أبواباً كانت موصدة في زمن "الستار الحديدي"، صوب "الحرية" و"الديمقراطية" و"الاقتصاد الحر"، وغير ذلك من الشعارات التي ثمة ما يؤكد أنها تظل تفسيرات لما يحتدم اليوم من صراعات، وما جرى ويجري من حروب وكوارث بين جنبات الفضاء السوفياتي السابق.

ولد غورباتشوف في إحدى قرى الجنوب الروسي، في 2 مارس (آذار) 1931 لعائلة فلاحية حددت كثيراً من ملامح طفولته وشبابه، وانضم مبكراً إلى الحزب الشيوعي السوفياتي، فكانت له الغلبة والريادة بين أقرانه مدعوماً بوسام "الراية الحمراء" الذي سرعان ما فتح له أبواب العاصمة موسكو وجامعتها الحكومية، وخبر منذ الصغر كل مراحل العمل الحزبي التي سرعان ما حملته إلى النسق الأعلى للسلطة عضواً في المكتب السياسي للحزب خلال سنوات معدودة، وها هو في مارس 1985 ينتخب أميناً عاماً للحزب متجاوزاً كثيراً من أركان الحزب وأعمدته الرئيسة ممن كانوا يقفون متأهبين لاقتناص هذا الموقع بعد طول انتظار، ولم يمض من الوقت كثير حتى أعلن أصغر أعضاء المكتب السياسي سناً عن توجهاته الإصلاحية التي عرفها العالم تحت اسم "البيريسترويكا" (إعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية)، بكل ما كانت تعنيه من أبعاد قلبت موازين القوى والأوضاع في الاتحاد السوفياتي وخارجه "رأساً على عقب".

وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، في أبريل (نيسان) من العام نفسه، أعلن غورباتشوف عن ضرورة إعادة البناء واعادة النظر في برنامج الحزب، وتحت شعارات تنادي بضرورة التمسك بتقاليد فلاديمير لينين والتمسك بخططه السياسية الحزبية وتنمية مجتمع الاشتراكية المتطورة، طرح أفكاراً مغايرة تقول إن "البيريسترويكا" تنبع من إدراكنا بواقع عدم الاستفادة الكافية من الإمكانات الهائلة للاشتراكية". وأشار إلى إنجازات "ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى"، قائلاً إن "أعمال لينين والقدرة اللينينية للاشتراكية ظلتا معيناً لا ينضب للفكر الخلاق والثورة النظرية والبصيرة السياسية". وتحدث غورباتشوف عن السنوات الأخيرة للينين وأنه كان يرى أن "الاشتراكية والديمقراطية لا تنفصمان".

الحرس القديم وتاتشر

رسم غورباتشوف صورة وردية لم تكن سوى مقدمة لتطورات مغايرة، تساقط معها رفاق الأمس ممن كانوا يسمون "الحرس القديم"، مفسحين الطريق أمام من خَاَلهُم غورباتشوف سنده نحو التغيير المنشود، جاء بأسماء على غرار الكسندر ياكوفليف وإدوارد شيفارنادزه ممن سرعان ما أفضوا به إلى "السقوط" في شرك أضواء الخارج ونجومه، ومنهم مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا التي سرعان ما أعربت عن فرحها وحبورها، زافة في رسالة شخصية إلى الرئيس الأميركي السابق رولاند ريغان نبأ "اكتشافها العبقري"، بقولها إنها وجدت من "نستطيع الركون إليه"!

 

 

وفي هذا الصدد، نذكر ما كشفت عنه السلطات البريطانية بموجب القوانين التي تحدد فترة ثلاثين عاماً لسرية وثائقها، من أخبار الزيارة التاريخية التي قام بها غورباتشوف لبريطانيا في 1989 والتي لا تزال موسكو تفرض كل أستار السرية والكتمان على ما جرى خلالها من مباحثات، ومنها ما يقول إن تاتشر أبلغت ريغان بتقديراتها وانطباعاتها بشأن غورباتشوف، التي أوجزتها بقولها إنه "محبوب يتحلى بقدر كبير من السحر والفكاهة. يقيناً إنه الرجل الذي يمكن التعامل معه. أنا شخصياً أحببته". وقد لمسنا كل ذلك خلال متابعاتنا لوقائع الزيارة على الصعيدين الرسمي والشعبي، وما خلصنا من خلاله إلى أن الزعيم السوفياتي يجد في الخارج وفي ما يتمتع ويستمتع به من حسن استقبال وجماهيرية، ما يبدو عوضاً عن عتمة الداخل، وما يبدو مؤشراً نحو انحسار مواقعه وشعبيته بين الملايين من مواطنيه الذين كانوا يعلقون عليه آمالاً تجاوز الكبوة وتبعات ما وصفه بسنوات الركود، والأزمات الاقتصادية الطاحنة. بل وننقل في هذا الصدد عن المفكر السوفياتي ألكسندر زينوفييف ما قاله بشأن اعتبار عديد من تصرفات غورباتشوف، ومنها رفضه زيارة قبر كارل ماركس في لندن وتفضيله على ذلك "الذهاب لزيارة ملكة إنجلترا"، بمثابة "إرهاصات جديدة لمراحل الخيانة". وكشف زينوفييف عن أن لقاء تاتشر مع غورباتشوف كان وراء زيارتها العاجلة إلى واشنطن للقاء ريغان من أجل إبلاغه بأن "غورباتشوف هو ذلك الرجل الذي يمكن التعامل معه". ولم لا، وقد كان غورباتشوف هو الذي سرعان ما عاد عن تصريحاته بشأن دور الاشتراكية ومقررات لينين بخصوص بناء الاتحاد السوفياتي، ليقول إن "بناء النظام الاشتراكي مسألة غير واقعية، وإن هذه القضية مشروع مفتعل، فيما كانت بالنسبة إلينا طوبوية (يوتوبيا) شيوعية فرضتها الدكتاتورية علينا".

اعتراف وانقلاب

أخطاء غورباتشوف كثيرة، وقد اعترف ببعضها في عديد من مقالاته، لكن أهمها وأخطرها بحسب ما يرى كثيرون، قد يتمثل في أنه بدأ سياسة "البيريسترويكا" من دون تصور واضح ومن دون نظرية متكاملة الأركان، كان يمكن أن تكون بديلاً للماركسية اللينينية. أراد غورباتشوف التغيير وتحقيق الجديد من خلال الاعتماد على نظرية فيها كثير من الجمود، ومن خلال أشخاص ينتمي معظمهم، إن لم يكن كلهم، إلى الماضي. اعتمد غورباتشوف منطق التجربة والخطأ، فيما وقع تحت تأثير عوامل خارجية وقوى أجنبية استغلت ببراعة منقطعة النظير أخطاء "المصلح السوفياتي" الذي بهرته "أضواء الغرب"، ليضع العربة أمام الحصان، مفضلاً الإصلاح السياسى، قبل الاقتصادي. وقد تصور غورباتشوف إمكانية إجراء عمليات تجميل للهيكل القائم على اقتصاد دولة عظمى، مترامية الأطراف متعددة القوميات، من دون أن يدرك في حينه أن الإصلاح السياسى، لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي، بل والإصلاح الثقافي في بلد خضع على مدى نحو سبعين عاماً لقهر وتسلط واستبداد سلطة جثمت على أنفاسه وأخمدت صوته، ولعل بداية الإصلاح الاقتصادي هي التي أفضت بالزعيم إلى طريق التقارب مع الغرب، لكنه راح يتغير مع كل تغيير جديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عاد غورباتشوف في كتابه "الانقلاب"، الذي ألفه بعد فشل انقلاب أغسطس (آب) 1991، ليسأل "هل كان المجتمع بحاجة إلى البريسترويكا؟ أم أنها كانت خطأ قاتلاً؟ وماذا كانت أهدافها الحقيقية؟ وهل كان من الضروري البدء في مثل هذه التحولات المشحونة بالأخطار والمخاطر؟".

وفي الكتاب نفسه اعترف بأنه كان يفتقد الخبرة ولم يكن يتوقع النتائج التى يعرفها اليوم، وقال إن "البيريسترويكا لم تكن لتتحقق في فراغ دولي، واعترف بأنه عندما اتخذت الخطوات المحدودة بهدف تصفية المواجهة مع الغرب البالغة الخطورة والباهظة التكاليف التي لم يكن هناك ما يبررها منذ زمن بعيد، تساقطت الاتهامات وكأننا قدمنا إلى الإمبريالية على طبق من فضة ما لم تستطع تحقيقه من طريق القوة وأننا خسرنا الحرب العالمية الثالثة، وفرطنا في مكتسباتنا التي حققناها في الحرب الوطنية، بينما ألحقنا الإهانة بذكرى الملايين من ضحاياها، وأقدمنا على خيانة الأصدقاء والحلفاء، وحطمنا النظام الاشتراكي، وطعنا من الخلف الشيوعية الدولية".

طائرة تقلع بلا مسار واضح

لكن القول الأكثر دقة بشأن موقف غورباتشوف في ذلك الزمان، أوجزه الأديب السوفياتي الراحل فالنتين راسبتين في مداخلته التي "وقف كل أعضاء مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي في مايو (أيار) 1998 أمامها مشدوهين"، إذ قال إن "غورباتشوف يبدو بما يطرحه من تصورات بشأن البريسترويكا، أشبه بقائد طائرة البريسترويكا التي أقلع بها، من دون أن يدري مسار رحلته، أو المطار الذي سيختاره مقصداً للهبوط".

لذلك كله، كانت الأخطاء التي توالت الواحد تلو الآخر... فبعيداً من شقاق الرفاق، وسقوطه في شرك تصفية كثيرين منهم، قبل اندلاع "صراعه" الأعظم مع بوريس يلتسين، كان غورباتشوف استهل سلسلة أخطائه بالسقوط عن طيب خاطر في شرك أضواء الخارج وحملاته الدعائية الإعلامية التي قادتها بامتياز تاتشر بمباركة ورعاية ريغان وآخرين، إلى جانب تجاهل أبعاد المشكلة القومية التي سرعان ما أعقبها خطأ إلغاء "المادة السادسة" من الدستور السوفياتي التي كانت تكفل للحزب الشيوعي وضعيته القيادية وتحظر التعددية الحزبية، فضلاً عن اعتماده اللامشروط على شخصيات ثمة من سارع إلى تحذيره من مغبة الاعتماد عليها، في ضوء ما جرى "تسريبه" من وثائق ومعلومات تقول  بعمالتها لأجهزة المخابرات الأميركية.

ولم يمض كثير من الزمن حتى عاد غورباتشوف إلى تصفية عدد من أركان سياسات الأمس، ومنها "مذهب بريجنيف" الذي كان ينص على مشروعية التدخل في الشؤون الداخلية لشركاء الاتحاد السوفياتي من بلدان  شرق أوروبا وأعضاء "حلف وارسو"، الذي سرعان ما سمح غورباتشوف باتخاذ قرار حله في فبراير (شباط) 1990، بعد تغاضيه عن "سقوط جدار برلين"، وموافقته الصريحة على توحيد الألمانيتين، ولم يكن ذلك سوى استمرار لسياسات أعلن عنها غورباتشوف في خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 1988، اعتبره كثيرون في حينه العلامة الفارقة في مسيرة التحولات والتنازلات التي وصفها بعضهم بأنها "ترقى إلى الخيانة". ومن هؤلاء هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية السابق، الذي أشار في كتابه "الدبلوماسية" إلى أن "غورباتشوف ظهر على منصة الأمم المتحدة في دور أقرب إلى البائس الذي راح يتسول من نظرائه في البلدان الغربية ما قد يكون رداً على مبادرته أحادية الجانب حول تقليص القوات السوفياتية المسلحة بمقدار 500 ألف جندي وعشرة آلاف دبابة".

وكان ذلك مقدمة طبيعية للمحاولة الفاشلة التي قام بها عدد من رفاقه وعرفها العالم تحت اسم "انقلاب أغسطس 1991"، وهي المحاولة التي قال غورباتشوف عنها "مررت بمحنة عصيبة. وتمثل خطر الانقلاب في أن مدبريه كانوا من داخل المجموعة القيادية إلى جانب الرئيس. وكانت الخيانة أصعب ما عشته على الصعيد الشخصي. وسيظل ذلك يلاحقني حتى نهاية العمر".

ليس المسؤول الوحيد

وعلى الرغم مما قيل ويقال عن سلبيات كثير من سياسات غورباتشوف وتوجهاته التي ثمة من يجزم بأنها كانت في صدارة أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فإنه يظل من الثابت، بل ومن المؤكد، أن غورباتشوف لا يمكن أن يكون وحده المسؤول عما حل بالبلاد من مصائب وكوارث يتابع العالم حتى اليوم تبعاتها، بما في ذلك ما يجري من صراع دموي بين أشقاء الأمس في روسيا وأوكرانيا. بل وهناك أدلة وقرائن تؤكد ما قاله غورباتشوف في أعقاب الإعلان عن "الانهيار الكبير"، عن أن "الاتحاد السوفياتي كان من الممكن أن يبقى". وكان غورباتشوف بذل كثيراً من أجل تلافي أخطاء الماضي، والتوجه نحو إصلاح ما أفسده الدهر من خلال "معاهدة اتحادية جديدة" لم تجد، بحسب اعترافات كثيرين، طريقها إلى النور، بسبب مؤامرات الطامحين إلى الانفراد في السلطة في أكبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وفي مقدمتهم يلتسين في روسيا وليونيد كرافتشوك في أوكرانيا. وذلك أيضاً ما توقف عنده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى عرضه لرؤيته الشخصية عن أسباب ما تواجهه بلاده من أزمات ومشكلات يؤكد كثيرون أنها نتيجة أخطاء الأمس، وفي صدارة عدم تدارك الملايين من أبناء شعوب الاتحاد السوفياتي السابق حقيقة ما خلص إليه الرئيس السوفياتي الراحل غورباتشوف حول أن "الاتحاد السوفياتي كان من الممكن أن يبقى". وهو ما يحاول بوتين تحقيقه، وإن كان "على نحو مغاير"!

 

 

ويبقى أن نشير إلى ضرورة الالتزام بما استهللنا به هذا "الرثاء" بكل مفرداته النقدية اللاذعة، من أن "لغورباتشوف ما له، وعليه ما عليه". وذلك يفرض علينا التوقف عند مسؤولية كثيرين ممن يظل تعدادهم عصياً على العد تجاه سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياره والإعلان عن ذلك في أكثر من مناسبة من دون مساءلة آخرين ممن راحوا يتراقصون حول "بقاياه وأطلاله"، مهللين فرحين مبتهجين بإعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش توصل روسيا وأوكرانيا وبيلاروس إلى اتفاق بشأن "إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي" في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1991. هؤلاء الرؤساء، يلتسين في روسيا، وكرافتشوك في أوكرانيا، وفياتشيسلاف شوشكيفيتش في بيلاروس، يتحملون بقدر أكبر كثيراً من غورباتشوف، مسؤولية "ضياع الاتحاد السوفياتي"، مثلهم في ذلك مثل الشيوعيين الذين أهدروا أصوات الملايين من أبناء الشعب السوفياتي تأييداً لبقاء الاتحاد السوفياتي في الاستفتاء الشعبي الذي جرى في مارس 1991، بل وتحولوا إلى مباركة اتفاقات بيلوفجسكويه بوشا والتصديق عليها في برلمانات جمهورياتهم، على مرأى ومسمع من شعوبهم التي لم يخرج منها أحد، سواء أكان ذلك احتجاجاً أو تذمراً، أو فرحة أو ابتهاجا بما آلت اليه مصائر أوطانهم... لينصرفوا جميعهم في وقت لاحق إلى البكاء على اللبن المسكوب.

ولعل الواقع والحقيقة يقتضيان في مثل هذه المناسبة، تذكر ما قاله رئيس كازاخستان السابق نور سلطان نزاربايف، بوصفه الشاهد الأخير الباقي على قيد الحياة من رؤساء الجمهوريات السوفياتية، على عبثية ما دار بين غورباتشوف ويلتسين في مكتب رئيس الاتحاد السوفياتي السابق، عقب الإعلان عن توقيع وثيقة إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي في 8 ديسمبر 1991. لقد أكد نزاربايف أن الصراع الذي احتدم بين يلتسين وغورباتشوف، "لم يكن سوى صراع حول السلطة"، باعتراف يلتسين الذي صرخ في وجه غورباتشوف مشيراً إلى مقعد رئيس الدولة قائلاً "إنه لم يعد مقعدك... إنه لي"!

وذلك ما أذاعته القناة الإخبارية الرسمية "روسيا 24"، في العام الماضي، في إطار "الاحتفالات" بالذكرى الثلاثين لوقوع المأساة، أو قل الكارثة!

المزيد من تحلیل