أعادت الفاجعة التي هزت قبل أيام قليلة منطقة قروية في ضواحي مدينة الفقيه بن صالح بالمغرب إلى الواجهة نقاش المآسي والكلفة الإنسانية الباهظة لما بات يسمى "قوارب الموت" التي تقل مهاجرين غير شرعيين نحو الضفة الأوروبية.
وغرق زورق مطاطي كان يحمل 46 شخصاً، بينهم أب وابنه القاصر معظمهم من منطقة الفقيه بن صالح "الهامشية"، كانوا يعتزمون عبور البحر من مدينة الجديدة صوب التراب الإسباني بسبب اشتعال النيران في المحرك.
وتترقب الأسر القروية بمنطقة الفقيه بن صالح تسلم جثث أبنائها، علماً أن العدد النهائي للضحايا والمفقودين لم يعلن بعد.
قبل ذلك بأسبوع فقط استقبلت عائلات مكلومة في مناطق أخرى جثث عدد من الشباب الذين لقوا حتفهم بسبب انقلاب قارب وسط المحيط الأطلسي عندما كانوا يهمون بالعبور إلى إسبانيا ومن ثم إلى أوروبا.
إحصاءات غير رسمية
تذهب أرواح كثيرين سدى في عرض البحر ليتحول الحلم ببلوغ "الفردوس الأوروبي" إلى مأساة تكابدها العائلات المفجوعة بالدرجة الأولى، ثم خسارة المجتمع والبلاد برمتها شباباً يعتبرون عماد المستقبل.
وتكبد "قوارب الموت" التي تحمل مهاجرين غير شرعيين مغاربة أو مواطنين من دول أفريقيا جنوب الصحراء خسائر إنسانية فادحة تمس الحق في الحياة وتقدر أحياناً بمئات ضحايا الهجرة غير الشرعية كل عام نظراً إلى عدم وجود تقارير رسمية.
وتفيد منظمات إسبانية غير حكومية بأن "زهاء ألف شخص لقوا حتفهم خلال النصف الأول من العام الحالي عبر مسارات وطرق هجرة مختلفة عبر المتوسط والأطلسي نحو الأراضي الإسبانية".
ووفق التقارير الإسبانية غير الرسمية ذاتها "فإنه من بين 978 وفاة بسبب الهجرة غير الشرعية براً وبحراً تم تسجيل وفاة 118 سيدة و41 طفلاً عندما كانوا يحاولون بلوغ السواحل الإسبانية".
وفي شأن إحصاءات إحباط محاولات الهجرة غير الشرعية من الجانب المغربي "تم إجهاض 14746 محاولة خلال الربع الأول من عام 2022، كما فككت 52 شبكة إجرامية لتهريب المهاجرين خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي".
كلفة إنسانية
ويبدو أن الكلفة الإنسانية لـ"قوارب الموت" لا تضاهيها كلفة أخرى، خصوصاً بالنسبة إلى العائلات التي فقدت أبناءها في محاولات الهجرة عبر البحر من المغرب إلى الضفة الإسبانية.
هذه الكلفة الإنسانية عبر عنها الحاج عبدالمعاطي، والد أحد ضحايا "قارب الموت" الذي انطلق من مدينة الجديدة قبل غرقه بسبب احتراق المحرك بالقول لـ"اندبندنت عربية" إن "غياب الابن هو أفدح ثمن يمكن تصوره بسبب غرقه وسط البحر في ظروف مأساوية"، وتابع "أن ابنه لم يخبره بموعد صعوده على القارب المطاطي بهدف الهجرة عبر البحر إلى إسبانيا، على الرغم من أنه كان يعلم برغبته الملحة في ذلك بدافع إغراءات بعض أصدقائه الذين نجحوا في الهجرة غير الشرعية وكانوا يرسلون له صورهم من هناك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد الوالد المكلوم أنه "لا يمكن الشعور بما يحس به بعد أن تنامى إلى علمه من طرف بعض الناجين خبر انقلاب القارب الذي كان ابنه على متنه برفقة آخرين"، مبرزاً أن "الأسرة كلها تعيش على أمل العثور على الجثة لتعيش على ذكرى الضياع والخسارة".
مقتل أب وابنه
ومن المشاهد المفجعة التي عرفتها رحلة "قارب الموت" مقتل أب وابنه القاصر المنحدرين من دوار قروي يدعى "رواجح" في ضواحي الفقيه بن صالح ليتحول حلم الأب وفلذة كبده بالهجرة إلى حيث يمكن تحقيق "غد أفضل" إلى كابوس مفزع.
ويروي نشطاء محليون في المنطقة المفجوعة كيف كان الأب قريباً من ابنه الذي لم يبلغ عمر 18 سنة بعد، وكانا يتقاسمان كثيراً من الهموم والمشكلات والأنشطة أيضاً.
ووفق النشطاء، فإن الأب والابن كانا يخرجان أحياناً للمشاركة في مسيرات تنادي بمحاربة التهميش في المنطقة التي ينتمون إليها وأيضاً لفك العزلة عنها، كما سبق أن حضرا وقفات احتجاجية تطالب بالحق في الماء الصالح للشرب جراء آفة الجفاف التي ضربت المنطقة برمتها.
ويبدو أن القدر أراد للأب وابنه أن يتقاسما حتى لحظات الموت في أحد مشاهده المأساوية وهو الغرق وسط البحر في ظلمة الليل بعدما قررا ركوب الحافلة لتقلهما من منطقة الفقيه بن صالح إلى مدينة الجديدة حيث كانت نقطة الانطلاق نحو "المجهول".
وكتب الناشط المحلي صلاح وراد تدوينة على موقع "فيسبوك" في شأن هذه القصة "فجأة توقف الأفق والحلم والزمن وتوقف محرك القارب، وتحولت الأحلام الوردية إلى كوابيس بعد أن التصقت الأجساد المرتجفة للابن وأبيه".
ضحايا لقمة العيش
يرى مراقبون أن الذي يجمع الفواجع الإنسانية لحوادث الهجرة هو انتماء الضحايا إلى مناطق مهمشة اقتصادياً ومحرومة من التنمية الاجتماعية على شاكلة منطقة الفقيه بن صالح وخريبكة وسطات وبني ملال وتنغير وغيرها.
ويبدو أن التهميش الاقتصادي لا يزال هو الحافز الذي يدفع الشباب المغربي خصوصاً إلى الهجرة وهو ما عبر عنه الفرع المحلي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمنطقة "سوق السبت" بالحديث عن ظاهرة "إغلاق المعامل والمصانع واستنزاف الفرشة المائية للمنطقة".
وطالبت الجمعية المسؤولين محلياً وإقليمياً بالعمل على خلق فرص شغل حقيقية وبرامج تنموية فعلية وضرب كل من يسهم في تشجيع ظاهرة الهجرة السرية التي تخلف "ضحايا لقمة العيش" بيد من حديد.
يقول مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان عبدالإله الخضري لـ"اندبندنت عربية" إن هناك أزمة حقيقية بسبب تواصل نزيف الأرواح جراء الهجرة عبر "قوارب الموت" إلى الضفة الأوروبية وأشار إلى أن "السياسات العمومية في البلاد صنعت واقعاً غير ضامن للحياة الكريمة، بالتالي يجب تدارك الموقف وإيجاد حلول حقيقية لمعضلة البطالة وضغوط الحياة التي يتخبط فيها الشباب المغربي قبل فوات الأوان".
واسترسل الخضري أن "هذه المأساة تتكرر للأسف بين الفينة والأخرى ولا يلوح أي حل حقيقي في الأفق لهذه المشكلة"، متسائلاً "إلى متى يبقى هاجس الهجرة يسيطر على نفوس وعقول الشباب المغربي بهذه الوتيرة وهذه المخاطرة؟".
الحكومة المغربية من جهتها سبق أن صرحت عبر ناطقها الرسمي مصطفى بايتاس أن "الرباط تعمل على تعبئة إمكانات مهمة جداً لمراقبة جميع سواحل المملكة بهدف محاربة الهجرة غير الشرعية".