منذ ما قبل عام 1970 وحين كان يعمل في المسرح والسينما اللبنانيين خلال النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، كان الرائد المسرحي العراقي يوسف العاني يجد سعادة كبيرة إذ يخبرنا أن المسرح العراقي على الرغم من قوته وعراقته سيزداد حضوراً في الداخل وفي العالم المسرحي العربي "بعد حين يوم يعود من موسكو بعد تخرجه في معاهدها المسرحية فنان شاب يدعى قاسم محمد". فالعاني الذي كان قاسم محمد (رحل عام 2021) قد عمل معه باكراً وقبل انتقاله إلى موسكو للدراسة كان مؤمناً بموهبة "هذا الشاب الطموح وثقافته". والحقيقة أن قاسم الذي عاد إلى بغداد في الوقت نفسه الذي عاد إليها يوسف العاني، راح منذ وصوله يسعى لتحقيق توقعات أستاذه. وهو لم يلبث أن أوصل تلك التوقعات إلى ذروتها بعد عامين أو ثلاثة من عودته من خلال ذلك العرض الذي أعده كتابة وأخرجه ليعتبر منذ تقديمه في عام 1973 واحداً من الأعمال – العلامات في تاريخ المسرح العراقي وربما المسرح العربي أيضاً: "بغداد الأزل بين الجد والهزل". وهو عرض عربي/ شرقي خالص جاء كما يبدو "ليحسم" نقاشات كانت محتدمة منذ سنوات في غير مدينة مسرحية عربية، حول التراث وإمكان استخدامه في نهضة عربية ثقافية جديدة تربط بقوة بين الأصالة الإبداعية والحداثة التقنية الفنية. وبهذا أتى هذا العرض البغدادي ينضاف إلى تجارب الطيب الصديقي في المغرب ونظريات يوسف إدريس والبحث عن مسرح السامر في مصر ومحاولات المحترف التجديدية في لبنان ناهيك بتجارب سورية وسودانية وفي عدد من البلدان الخليجية كنوع من الإجابة عن السؤال الذي كان يعتمل في أذهان المسرحيين: كيف نجدد التراث ونوظفه في مسرحنا؟
كلهم كانوا هناك
والحقيقة أن الجواب الذي قدمته "بغداد الأزل..." سرعان ما بدا الأكثر وضوحاً وربما نقول أيضاً الأكثر نجاحاً. ولنقل إنه أتى بسرعة عملاً مناسباً في المكان المناسب، عملاً يستكمل ويطور على أي حال أعمالاً كانت تحمل تواقيع عبدالملك نوري ويوسف العاني نفسه وسامي عبدالحميد وناهدة الرماح، وعشرات غيرهم من كتاب ومخرجين وممثلين ربما وجدوا في هذا اللون الإبداعي المتضافر تماماً مع تلك المدينة، تعويضاً لهم عن عجزهم عن الوصول إلى بعث نهضة سينمائية كانوا يتطلعون إليها. ولا بد أن نبادر هنا إلى الإشارة إلى أن قاسم محمد لم يضطر إلى الذهاب بعيداً للعثور على القماشة التي يطرز عليها عمله الكبير هذا. فالجاحظ البغدادي بامتياز وكتبه العديدة ماثلة هناك في انتظار من يمسرح أجمل نصوصها. والمقامات حاضرة بل ربما حضرت الشخصية المثالية من خلال أشعب أمير الطفيليين الذي كان سلف كبير هو توفيق الحكيم قد كتب عنه نصاً عابقاً بالإحساس المسرحي الاجتماعي– الفني. وإلى ذلك كانت حكايات العيارين والصعاليك والشحاذين من حثالة أهل السوق البغدادية وكرام قومها حاضرة بقوة. وما على قاسم محمد إلا أن يغرف بما يمكنه أن يلائمه مع التقنيات البديعة التي أتى بها في ركاب عودته، هو الذي كان في إمكانه وبكل وضوح أن يعتمد كذلك على قدرات فنية تملأ المكان تمثيلاً وعمراناً وشعراً. ومن هذا كله ولد ذلك العرض– القدوة، ولكن منطلقاً من جوهر الحكي التراثي العربي الذي ما كان من شأنه أن يدور كما حال المسرح الغربي، من حول حكاية واحدة أو موعظة حسنة أو صراعات تدور في رحى الحب والغيرة أو الصراعات العائلية الحادة وما شابه ذلك. كل هذا لم يكن من المواضيع التي اشتغل عليها قاسم محمد وحده ككاتب ومعد أولاً ثم مع رفاقه في العمل من أصحاب الأسماء التي كانت الأكثر رسوخاً في الحياة الفنية العراقية كما لمحنا.
من الماضي إلى حاضر ما...
ولكن لكي يقول ماذا لمتفرجيه؟ ببساطة لكي يحكي عن شذرات من الحياة في السوق التراثية البغدادية. فعلى الطريقة الحكائية العربية العريقة جعل قاسم محمد عرضه عبارة عن مشاهد عديدة بالكاد ثمة ما يربطها ببعضها البعض إلا السوق نفسها. أي إلا المكان الذي دائماً ما كان جوهر الحكايات العربية، في ألف ليلة وليلة وما يدور في فلكها، وغالباً خارج أي اهتمام بالزمان. فعلى الطريقة العربية الحكائية الأثيرة لا تهتم "بغداد الأزل..." بمرور الزمن، بل هي تقصر اهتمامها بشكل واضح بالمكان ولعل العنوان وحده يفصح عن ذلك. والمهم أن "الفرجة" هنا، وبالمعنى المسرحي للكلمة لا تتعلق بحدث معين بل بشخصيات معينة تتحرك في المكان وتحركه، والمكان هو كما أشرنا بغداد وأسواقها. أما الشخصيات فمنتزعة من قطع تراثية ويمكن أن يكون أشعب أبرزها لكن أشعب محاط هنا بمجموعة من شخصيات يمكننا أن نلتقيها في "بخلاء" الجاحظ كما في كتب عديدة أخرى له بحيث قد يبدو ذات لحظة وكأن العرض كله إنما يدور في حمى رصده الدقيق الذي يتخذ عند يد قاسم محمد، ليس فقط سمات بادية المعاصرة، وإنما أكثر من ذلك، سمات بالغة الديمومة، وكذلك الحال مثلاً مع المقامة الدينارية للهمداني والمقامة الحريرية الثالثة والشطار البغداديين الذين يفترض في الأصل أنهم ينتمون إلى حقب متباعدة، لكن عرض "بغداد الأزل..." يجمعهم معاً وكأنهم أبناء زمن واحد ومكان واحد ولكن ليفعلوا ماذا؟ ومن خلال ذلك، ليقولوا ماذا؟
الحياة اليومية لكل الأزمنة
ما يفعلونه على مدى زمن العرض هو ممارسة حياتهم اليومية بطلعاتها ونزلاتها، بخيرها وشرها، بصرف النظر عما قد تفعله بهم الأزمنة، وبصرف النظر عما ينبغي عليهم أن يكونوه في تلك السوق البغدادية التي هم من يشكل عماد الحياة فيها. أما ما يقولونه فليس على تلك البراءة على الإطلاق. ولا يرتبط بالتاريخ وحسب، بل هو نظرة "يشجعون" متفرجهم على أن يلقيها، من خلالهم، ليس على زمنهم هم– مهما كان مفترضاً هذا الزمن– بل على زمنه هو، الزمن المعاصر له الذي يبدو في نهاية المطاف ما يثير اهتمام قاسم محمد ورفاقه وقد صرفوا نظرهم عن مناطحة طواحين الهواء في زمن كانت الرقابة السلطوية والحزبية والتابعة للسلطان الأعلى، حتى داخل العالم الفني نفسه، متنبهة راصدة كل حركة وسكنة. ومن هنا حتى وإن كان من المستحيل النظر إلى "بغداد الأزل..." كعمل سياسي يخترق شفافية الفعل المسرحي ليقول تمرداً ما أو حتى حالة غضب بسيطة، لم يكن من الصعب ملاحظة أن مخرج وكاتب هذا العمل ورفاقه إنما استخدموا التراث لكي يتسللوا من خلاله إلى الأوضاع الاجتماعية وربما الأخلاقية التي لا شك أن المتفرج المعني سيستشف من خلال رؤيتها تعاش على الخشبة أمام ناظريه، ما يمكنه من أن يعتبر نفسه معنياً. والحقيقة أن الجهود التي بذلت هنا، لا سيما من قبل صاحب العمل الرئيس كانت كبيرة وتسير على حبل مشدود وهي تعرف أن السلطة التي تتعامل معها ليست من الغباء بحيث يسهى عنها كثير من توريات العمل ودلالاته، لكنها تعرف كذلك أن تلك السلطة هي من الغرور والثقة بالنفس ما يجعلها تؤمن بأن الوعظ الأخلاقي والنقد الاجتماعي الذي تختبئ المسرحية وراءه لا يمكنه أن يكون موجهاً ضدها. فهل ثمة من يجرؤ على ذلك على أي حال؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور الرقابة في رفعة الفن
وهكذا عبر ألف بهلوانية وبهلوانية، و"بين الجد والهزل" كما أعلن عنوان المسرحية منذ البداية، قال الفن العراقي كلمته، بل نكاد نقول إن تشدد الرقابة والخوف الذي كان يعتري كل فنان في عراق تلك المرحلة، كان لهما الفضل الأول في إقدام قاسم محمد على خوض اللعبة الفنية إلى أقصى حدودها، معبراً بذلك عما قاله فردريك إنجلز في معرض حديثه عن العلاقة بين الفن والرقابة من أن "الرقابة ربما تكون قد أسهمت في دور كبير بل أساسي في تقدم الفنون إذ أجبرت المبدعين لا سيما حين "اضطروا" لممارسة الرقابة الذاتية، إلى اللجوء إلى التجديدات الفنية المواربة أي المتضافرة مع أعلى درجات الإبداع لكي يقولوا ما يريدون قوله". ومن هنا لا شك أن قاسم محمد تمكن عبر هذا العرض الاستثنائي في تاريخ المسرح العراقي، من أن يوصل فن المسرح إلى مستوى إبداعي مدهش...