يستعد اتحاد المهن الحرة في لبنان لاتخاذ خطوة جرئية، من خلال الادعاء على المصارف التجارية أمام القضاء المحلي. وستتجه كل نقابة من نقابات المهن الحرة للادعاء بشكل مستقل على المصارف التي أودعت فيها أموالها، التي هي عبارة من اشتراكات المنتسبين، وتمويل نظام التقاعد، والأموال الخاصة بتأمين الخدمات للمنتسبين، لأن النظام القضائي في لبنان لا يتيح الاشتراك بين أطراف مختلفة للادعاء على جهة محددة. وستضع تلك الدعاوى أطرافاً عدة على المحك، فالمصارف مطالَبة بإثبات ملاءتها وإعادة الودائع إلى أصحابها، والقضاء مطالب بقبول الدعاوى والنظر سريعاً بها، في حين يفترض أن تكون السلطة مستعدة لتطبيق القرارات وحماية الطرف الضعيف في ظل الانهيارات.
في المقابل، ترفض أوساط "جمعية المصارف" التعليق على توجه نقابات المهن الحرة إلى مقاضاة المصارف التجارية وتكتفي بمضمون البيانات الرسمية التي تصدرها في أعقاب اجتماعاتها الدورية، وليس لديها أي موقف في المرحلة الحالية خارج إطار ثوابتها المعلَنة.
النقابات تتحرك بما تيسر
وقيد الانهيار الاقتصادي حرية الحركة لدى النقابات وعرقل تقديماتها للمنتسبين والمتقاعدين. ويشكو نقيب الأطباء في شمال لبنان محمد صافي من احتجاز أموال النقابات في المصارف ما أدى إلى عجزها عن دفع المعاش التقاعدي للمنتسبين إليها كما أن جميع المداخلات والمراجعات لم تؤد إلى نتيجة، من هنا "لم يعد أمام النقابات إلا اللجوء إلى القضاء". ويضيف صافي "نحن لا نطالب بسحب كل أموالنا المودَعة، ولكن على الأقل أن تدفع المصارف المعاشات التقاعدية للمنتسبين إلى النقابة، وهي أموال قليلة مقارنة بحجم الأموال المودعة في الحسابات لدى المصارف"، واصفاً الوضع بـ"المؤسف للغاية".
ويلفت صافي إلى أن "لنقابة الأطباء في طرابلس 10 ملايين دولار موزعة على خمسة مصارف، ويقع على عاتق النقابة دفع معاش تقاعدي لـ130 طبيباً و100 أرملة طبيب، حيث يبلغ ما يتوجب صرفه 500 مليون ليرة لبنانية". ويضيف "نضطر حالياً لتقسيط المبلغ مما يزيد من معاناة المتقاعدين أكثر وأكثر في ظل الظروف الصعبة، كما أن ليس بإمكاننا زيادة التقديمات الحالية التي أصبحت ضئيلة لأنها محددة بالعملة الوطنية". كما يتحدث صافي عن التأمين الصحي، فالاشتراك عن العام الماضي شارف على الانتهاء، و"قد نتوقف عن تجديده لعدم القدرة على تسديد المبالغ التي ستكون لاحقاً بالدولار الأميركي (الفريش أو الجديد)، لأن قيمة البوليصة 200 ألف دولار سنوياً"، يدفع الواقع الراهن النقابات إلى دراسة زيادة الاشتراكات وتقاضي جزء منها بالدولار لسد الفجوة التي خلقها انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار.
خريطة طريق للحلول الممكنة
ويضع اتحاد نقابات المهن الحرة فكرة التوجه للادعاء على المصارف المتخلفة عن سداد ديونها، في إطار إيجاد حلول للمشكلات التي أظهرها الانهيار المالي والاقتصادي. ويشير المحامي عن "اتحاد نقابات المهن الحرة"، كريم ضاهر "نحاول إيجاد حلول من خلال القانون، وقد بدأ المسار في بداية عام 2022 في يناير (كانون الثاني) عندما كلفت نقابة المحامين في بيروت فريقاً من المحامين وأنشأت لجنة للحفاظ على حقوق المودعين".
ويتحدث ضاهر عن "خريطة طريق لإيجاد مخرج من واقع يحاصر المودعين والودائع في لبنان، وقد اجتمعت مجموعة من الخبراء الاقتصاديين ورجال القانون في محاولة لوضع خطوات منهجية للعمل ووضع خطة متكاملة من أجل حلول موضوعية". ويضيف أن "الخطة سعت لإيجاد حلول على صعيد الاقتصاد الكلي، الماكرو، وتحديد كيفية إعادة الودائع ضمن مهلة زمنية محددة، وعلى الصعيد الميكرو- الجزئي- الحد من استنسابية المصارف وتأمين تسهيلات إضافية للمودعين ريثما نصل إلى حلول متكاملة للأزمة"، متابعاً "لم نوفر أي جهد من أجل الوصول إلى حلول توافقية، وقطعنا مراحل عدة، من مراسلة السلطات التنظيمية المختصة، وتحديداً حاكمية المصرف المركزي، ولجنة الرقابة على المصارف، وطلبنا من الحاكم تطبيق صلاحياته ومسؤولياته في ما يتعلق بإعادة تنظيم القطاع المصرفي قبل انتهاء الودائع بالكامل".
ويؤكد المحامي ضاهر أن "حاكم مصرف لبنان طبق القانون 110 في السابق عندما وضع يده على جمال تراست بنك والبنك اللبناني الكندي الموضوعين على قائمة أوفاك الخاضعة لرقابة وزارة الخزانة الأميركية"، متسائلاً "أليس من واجب مصرف لبنان أن يضع يده على المصارف الأخرى حالياً التي تقاعست عن واجباتها". ويلفت ضاهر إلى أنه "ليس المطلوب إعلان إفلاس المصارف وتصفيتها، وإنما تغيير مجالس الإدارة، بما يمنح القانون من سلطات تنظيمية، إلا أن المصرف المركزي ولجنة الرقابة لم يستجيبا للطلبات المتكررة".
كما اتجهت النقابات في مسار مستقل نحو الحكومة والرئاسات ومجلس النواب، ويقول ضاهر "طلبنا منهم إقرار تدابير بحق الجهات المتخلفة عن واجباتها، وطالبنا بإقالة حاكم المصرف المركزي بسبب التقصير بواجباته، إلا أن الحكومة لم تتجاوب. والأمر نفسه كان من قبل النواب حيث لم يتجاوب أحد، فما كان من الاتحاد إلا أن توجه مباشرة إلى المصارف للطلب منها تحسين ظروف المودعين، وباءت المفاوضات مع المصارف بالفشل لأنهم لم يقروا أي تدابير عملية".
اتحاد المهن الحرة في مواجهة المصارف
ويضم اتحاد نقابات المهن الحرة في لبنان نحو 140 ألف منتسب، وتأثر هؤلاء بصورة مباشرة من الانهيار التام الذي تشهده البلاد وتخلف المصارف عن القيام بموجباتها. وحالياً يبرز توجه في أوساط نقابات المهن الحرة لمقاضاة المصارف بعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، ويرى ضاهر أن "النقابات تستند إلى القانون 2/67 فهو يحدد مباشرة أصول التدقيق بحسابات المصارف، والإجراءات الواجبة في حال تخلف المصارف عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين"، لافتاً إلى "أن بعض المصارف شعرت بدقة المسألة وتتجه إلى مفاوضة بعض النقابات كل على حدة، من أجل رد جزء من ودائعها، وثنيها عن رفع الدعاوى"، كاشفاً أن "نقابة المحامين في بيروت أكدت للمصارف التي حاولت مفاوضتها أنها لن تقبل باستعادة حقوقها بصورة مستقلة، وأنها ستنتظر إلى حين حصول آخر مودع على حقوقه باعتبارها رأس حربة في الدفاع عن الحقوق". ويؤدي تطبيق القانون 2/67 إلى عزل مجالس الإدارة الحالية للمصارف، وتعيين مجلس إدارة جديد يمثل فيها المودعون، كما تصل إلى الحجز على أموال أعضاء مجلس الإدارة والمديرين، ويتم رفع السرية المصرفية عن حساباتهم وتحويلاتهم في الداخل والخارج".
ويرى ضاهر أن "كشف السرية المصرفية عن حسابات المديرين ورؤساء مجلس الإدارة سيؤدي إلى كشف حركة الأموال والتحويلات في الفترة السابقة واللاحقة لتاريخ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 (تاريخ اندلاع الانتفاضة الشعبية) وهو أمر لا مصلحة لهم فيه، لأنه خطوة نحو تحديد المسؤوليات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بوابة إعادة الهيكلة
ويعتقد ضاهر أن "تطبيق القانون 2/67 يفتح الباب أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهو إجراء يتوجب على السلطة التشريعية العمل عليه عاجلاً، وأن تكون بصورة موضوعية عادلة". ويكرر ضاهر "نحن لا نريد تفليس المصارف، وإنما إقالة إداراتها الحالية، تمهيداً لتحديد المسؤوليات، وتصنيف الودائع بين مشروعة وغير مشروعة، وصولاً إلى المساءلة. وفي وقت لاحق تقدم الدولة ضماناتها للودائع بما لا يؤثر على أصولها أو حقوق المواطنين". ويطالب ضاهر القضاء بقبول الدعاوى والسير بها، لعدم قراءة الاعتكاف بأنه يهدف إلى العرقلة ومنع سير الدعاوى الراهنة، مؤكداً أن "الدعوى حقبة من حقبات خريطة الطريق، وفي حال عدم تجاوب القضاء سيتجه الاتحاد إلى إجراءات تصعيدية تتراوح من الاعتصام إلى التظاهر أمام منازل القضاة، وتسمية المعرقلين وفضحهم، وإضافة إلى مجموعة من التدابير التصعيدية في وجه القضاء والدولة".
ويتطرق ضاهر إلى تفاصيل تقديم الدعاوى، "ففي لبنان هناك 58 مصرفاً في المقابل هناك 18 نقابة، وكل نقابة من النقابات لديها حسابات في أكثر من مصرف، حيث تقوم كل نقابة بتقديم دعاوى على عدد محدد من المصارف التي احتجزت الأموال الخاصة بها. وقد تأثرت الإجراءات بعض الشيء بسبب توقف العمل في قصور العدل، وإضراب المساعدين القضائيين".
وعن إمكانية "تفاوت موقف القضاة تجاه قبول أو رد تلك الدعاوى ضد المصارف"، يجيب ضاهر "علينا أن نضغط على المصارف، وكنقابة محامين لا يمكننا البقاء في حالة المراوحة التي مرت عليها ثلاث سنوات من دون أن يقوم أي أحد بإجراء قانوني أو تنظيمي. كما ممارسة المصارف اتصفت بالاستنسابية في رد مئات الملايين من الدولارات المحتجزة".
الانهيار أطاح كل شيء
في موازاة حماسة بعض النقابات لمقاضاة المصارف تتحفظ أخرى عن السير في ذات التوجه، حيث يبرز موقف نقابة خبراء المحاسبة، فهي لا تختلف مع باقي النقابات في تحميل المسؤولية للمصارف والمصرف المركزي والسلطة السياسية، ولكنها تعتقد على لسان النقيب عفيف شرارة أن "الإمكانيات لمعالجة الانهيار في لبنان باتت ضئيلة، كما أن هناك شبكة مصالح بين المكونات المالية والسياسية تؤثر على القضاء، بما يقطع الباب أمام أي محاولة. من هنا يطالب شرارة باتجاه نقابات المهن الحرة إلى "وضع خطة تعاف مستقلة عن تلك التي تضعها الحكومة، وإعادة تكوين المالية العامة". وتنطلق الحلول بحسب شرارة من "تشخيص الوضع وتحميل المسؤوليات عن عجز بلغت قيمته 100 مليار دولار، عن اقتراض الدولة من المصارف بفوائد تصل إلى 40 في المئة، وتبديد الودائع واستمرار الهدر بغطاء سياسي". ويأسف شرارة لأن "الأزمة عمرها ثلاث سنوات، وحتى اللحظة لم يتحرك أحد خطوة واحدة نحو الحل، ولو كانت الحكومة تريد الحد من الأزمة، كان يجب أن تتخذ المبادرة في الفترة الأولى عندما كان في حيازتها 35 مليار دولار، بدل التوجه إلى صندوق النقد الدولي لاقتراض ثلاثة مليارات دولار".
ويشكو شرارة من أن ثلاثة آلاف محاسب، لديهم خمسة آلاف موظف في مكاتبهم، متضررين بسبب عدم قدرتهم من الوصول إلى 15 مليون دولار يملكونها موزعة على ثمانية مصارف، كما أن هناك 200 متقاعد محرومين من حقوقهم. ويتخوف نقيب خبراء المحاسبة على مصير آلاف من العائلات في حال لم يتم السير في تشخيص الأزمة والبدء في تقديم الحلول التطبيقية العملانية.