لا يزال أهل النوبة في مصر يحتفظون باعتقاداتهم الراسخة في مشاركة الجن لهم عوالمهم، وفي الزواج منهم أيضاً، بل إنهم يظنون أن للنهر ناساً هم أقرباء لهم، ولذا حين يبنون بيوتهم يوجهون أبوابها ناحية النيل، ويلقون بعض طعامهم فيه، ليتشاركوها مع أقاربهم. وهم لا يتداولون الحكايات العجائبية إلا كحقائق ثابتة، مثل حكاية "كلايا شلشل" الجنية، التي كانت تداوم على حضور أفراح النوبيين، واكتسبت لقب شلشل من ذلك الصوت الذي تصدره أساورها الذهبية حين تشارك في الرقص والتصفيق في الأعراس، لكن طيبتها تحولت إلى غضب حين أرهقها فضول الناس وأسئلتهم فباتت تثير رعبهم. أما "إير - كابي" فهو الغول أو الجني الشرير، وتعني هذه الكلمة ذات المقطعين في اللغة النوبية، "أنت - أأكل" فتحيل إلى معنى "أأكلك"، وهي الدلالة المتفق عليها في قاموس الدلالات النوبي من قدرة الغول على التهام البشر.
هذه الثقافة النوبية التي تزخر بأساطير الجن، ويؤمن أصحابها بالعوالم غير المرئية إيماناً لا يقبل التشكيك، كان لها أكبر الأثر في الكاتب المصري النوبي حجاج أدول، فكانت الغرائبية سمة لكثير من أعماله مثل "رحلة السندباد الأخيرة" و"بهاء الدين السقا في بلاد الغيلان" و"الأمير دهشان والجارية الطيبة" و"هضبة المساخيط "وغيرها، لكن الغرائبية عند أدول ليست محض خيال، وإنما هي مرآة تعكس صورة صادقة للنفس والواقع، فتظهر مواطن العطب في كل منهما. ترصد النقص وتكشف المخبوء وتوثق تاريخاً يكرر في دوراته المتعاقبة الوجوه والأفعال والخطايا، وهذا ما تثبته روايته "بلدة ترمس" الصادرة أخيراً عن دار "بدائل".
تناسل الحكايات
تبدأ رحلة السرد باستهلال تراثي يتماس مع الحكايات الشعبية وتراث "ألف ليلة وليلة"، أي "كان يا ما كان في سالف العصر والأوان"، يمهد لما يغلف النسيج الروائي من صبغة أسطورية، ويحيل إلى زمن ماض وضارب في القدم، اتخذه الكاتب فضاءً للأحداث يتسق مع تلك الصبغة. وكما جهل الزمن جهل الفضاء المكاني ليكون هذا التجهيل منفذاً لتمرير الإسقاطات والرؤى. كذلك اعتمد في بنائه -كما الحال في عديد من أعماله الأخرى- على التضمين في السرد، فانطلق من حكاية إطارية رئيسة ثم توالدت من رحمها حكايات عدة.
تدور أحداث "الحكاية الأم" حول الفتى ترمس النجار، الذي يعيش في قرية فقيرة "بلدة ترمس" تفصلها بحيرة عن عالم الجن، لكن الفتى الذي يحلم بعبور البحيرة إلى الجانب الآخر، حيث يعيش الجن، من أجل أن يمد جسوراً بين كلا العالمين، يواجه أهوالاً قبل وبعد رحلته، كادت تودي بحياته وعرضته للدفن حياً في مكعبات الثلج.
من هذه الحكاية سلك الكاتب تفريعات حكائية لا تنفصل عن المناخ العام للسرد، وتتصل بالحكاية الأم، من بينها حكاية حنون الغنية، وحكاية الحالمة، وحكاية الحالم المعطوب الدماغ. وعبر ثنائية الإنس والجن أبرز مقارنات ضمنية بين كلا العالمين نكأ عبرها جراح الواقع، وكشف ما تزخر به النفس من تناقضات، تتراوح بين الخير والشر، الحب والحقد، القبح والجمال. ففي البلدة الإنسية الفقيرة والضعيفة تعيش النساء مكسورات الخاطر تحت ضغط الرجال واستكبارهم، ولا حق لهن في الحب ولا في الاختيار. أما في مملكة الجن القوية فالملكة امرأة، ومفجرة الثورة ضد الظلم، ووراثة العرش أمومية وليست ذكورية، ويكفل القانون للمرأة الجنية أن تحب وأن تمنح حمايتها لأي كائن تقع في حبه، فلا يمسه أذى ولا سوء.
وعبر هذا التباين وتلك المقارنات مرر أدول إسقاطات تحيل إلى ذكورية المجتمع، وواقع المرأة الذي تعاني فيه قهر واستعلاء الذكور بمباركة الشيوخ والأكثرية من النساء، كما أنه جعل مثل هذا القهر أو الاستعلاء قريناً لضعف القرية وتخلفها، بما يشي برغبة ضمنية في الانتصار للمرأة، لا سيما أنها لعبت دوراً محورياً في تحريك الأحداث، فكانت الحبيبة هي المنقذة لترمس من عقاب الجن، وكانت أمه سبب عودته إلى قريته كي يمنح أهلها مفتاح سعادتهم. وفي عالم الجن كانت الأم الجنية سبب نجاة وليدها المعطوب الدماغ من قانون المملكة الظالم، الذي يطعم المرضى والمشوهين من الجن الخليط لمحرقة تونورو. وهكذا بدت المرأة طيلة رحلة السرد مرادفاً للحب والتضحية والنجاة.
سلطة القانون
لم تكن المرأة وحدها هدفاً للمقارنات الضمنية التي عقدها الكاتب بين عالم الجن وعالم الإنس، وإنما أبرز مقابلات أخرى بين العالمين، لا سيما في علاقة السلطة بالقضاء. ففي بلدة ترمس سيق الشاب المغامر الراغب في عبور البحيرة واختراق عالم الجن إلى ميدان العقاب بالقرية، وأذله الحاكم عقاباً على حلمه بلا سند ولا قانون ولا محاكمة، أما في مملكة الجن فوحده القانون يقرر مصائر الرعايا من الجن، وحتى المغامرين بدخول المملكة من البشر. وعلى رغم تعاطف الملكة التي أحبت في شبابها بشرياً فلم تستطع إنقاذ ترمس أمام سلطة القضاء. وأمام السلطة القضائية نفسها لم يستطع القاضي تنفيذ رغبته وحكمه بدفن ترمس في مكعبات الثلج، بعد أن أعلنت فتاة جنية حبها له واستغلت ما يكفله لها قانون المملكة -الذي يقدس الحب- من حماية من تحب... "المرأة إن أعلنت أن مخلوقاً ما دخل قلبها وصار في حمايتها فعلى قبائل الجن أن تستجيب لحقها ولا تضر هذا المخلوق الذي أحبته، فهو من لحظة إعلان الغرام صار في حماية قلب امرأة، وقلب المرأة مقدس" ص 38.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى جانب إسقاطاته مرر الكاتب فلسفته ورؤاه حول الخيال، الذي يعده طريقاً وحيداً للارتفاع والقوة التي تفوق حتى قوة الجن، بينما يبقى الإنسان قيد الدونية والفقر حين لا يعمل عقله، ولا يطلق لخياله وذكائه العنان.
مفارقات زمنية
عمد أدول إلى التنوع في استخدام الزمن، فزاوج بين الاستباق والاسترجاع، فاستبق بتشييع جنازة ترمس النجار وعودته الثانية إلى قريته "ميتا"، ثم ارتد إلى شبابه ومغامرته بالعبور من قريته إلى مملكة الجن، وفي الحكايات الفرعية سلك النسق نفسه، فبينما استبق بالغنية "كهلة"، ذات المكانة في قريتها، عمد إلى استرجاع الأحداث في طفولتها وشبابها ليصل إلى النقطة التي بدأ منها السرد. الأمر نفسه اتبعه في حكاية هنون الحالمة، الجنية التي بدأت حكايتها بذهابها إلى عالم البشر لتلد وتموت، ثم سلك الكاتب "الفلاش باك" عبر صوت الشخصية في حوارها مع العجوز الغنية، عائداً إلى حياتها في عالم الجن، وإلى الأحداث التي آلت في نهايتها للبداية نفسها. وهكذا مضى بالسرد -في كل حكاية- في نسق دائري، باستثناء حكاية الحالم المعطوب الدماغ، التي تدفقت أحداثها في نسق طبيعي، وجمع كل تلك الحكايات، التي تشاركت فضاء مكانياً واحداً، ونسلاً ممتداً من فرع واحد، عبر سرد مركزي لراو عليم، فحقق للنسيج وحدته، كما حقق التشويق عبر حيله الاستباقية، وأكسب السرد مزيداً من الجاذبية بانتهاجه تكنيكاً بصرياً ولغة مشهدية. وعلى رغم اعتماده اللغة الفصحى السلسة فقد نثر كلمات من اللغة النوبية أنعشت النسيج، وجسدت حضور النوبة داخل النص، مثل عبارة "آي إكا دولي" وتعني أحبك. واستفاد الكاتب من غرابة اللغة النوبية وعدم المعرفة بها فجعلها لغة سكان مملكة الجن.
الفساد والتحول
ومثلما مرر أدول كثيراً من الإسقاطات على معاناة المرأة في واقع معطوب، يهمشها ويقهرها وينسف حقها في الحب والاختيار والتحقق والميراث، تطرق إلى كثير من المشكلات الاجتماعية الأخرى مثل الطبقية وفساد الحاكم وفساد بطانته والصلات المستترة بين المال والسياسة واستغلال النساء والمارقين من رجال الشر والعصابات، من أجل غاية واحدة هي تحقيق مزيد من الثراء... "في مجال المال وما يدور من اتفاقات سرية يساعد في تنفيذها مماحكات وممارسات الجنس، فالملاهي والمواخير وعصابات الإجرام في بلدتنا بلدة ترمس وفي كل أنحاء البشر لها صلات بالمال والأعمال" ص 119. واستخدم التناص مع الموروث الديني في ما يتصل بشعور الجن المخلوق من النار، بالتفوق على الإنسان المخلوق من طين. وكان هذا التناص شرارة الصراع، الذي احتدم في عالم الجن بين من انحازوا لرفض دخول البشر إلى عالمهم ومعاقبة المتسللين بالدفن في مكعبات الثلج حتى لا يلوثوا سلالة الجن، ومن انحازوا للسماح للبشريين بدخول المملكة والاستفادة من خيالهم.
أما التحول فكان سمة بعض الشخوص المحورية بالنص، لا سيما النسائية مثل شخصيتي "عطا" و"حنون"، اللتين استحالتا من منكسرتين إلى متمردتين، واجهتا مجتمعاً ذكورياً، واستطاعتا التغلب على عرف يسجن المرأة خلف جدران منزلها، ويسمح للرجل بالاستيلاء على أموالها. ولم يكن التحول سمة للشخوص وحسب، إنما كان سمة للوعي الجمعي في مجتمعات الإنس والجن، فبينما تغيرت النظرة الدونية للمرأة في مجتمع الإنس تغيرت النظرة الدونية للجن الخليط في مجتمع الجن. ومرر الكاتب عبر هذا التحول رسالة ضمنية أخرى مفادها أن الإرادة وحدها تقف دوماً وراء التغيير.