تواجه فرنسا أزمة طاقة محتملة هذا الشتاء على رغم تطمينات الشركة التي تدير شبكة الكهرباء في البلاد "آر تي إي" بأن الإمدادات ستعود إلى معدلاتها المعقولة في الشهرين المقبلين.
وشهدت فرنسا أزمات طاقة متعددة هذا الصيف جعلتها تتحول من مصدر للكهرباء للدول المجاورة في أوروبا إلى مستورد نتيجة نقص الإمدادات لشبكتها من محطات توليد الطاقة.
ويرجع سبب الأزمة إلى المشكلات والأعطال وأعمال الصيانة المؤجلة منذ فترة إغلاقات وباء كورونا في المفاعلات النووية التي تشكل المصدر الرئيس لتوليد الطاقة الكهربائية في البلاد.
ولطالما تفاخرت فرنسا بأنها تولد 70 في المئة من إنتاجها من الطاقة الكهربائية بواسطة محطات تعمل بالطاقة النووية، بحيث تعد أكبر بلد في العالم ينتج الطاقة بالمفاعلات النووية تليها الولايات المتحدة ثم السويد.
ولدى فرنسا 56 مفاعلاً نووياً في محطات لتوليد الطاقة وتملك شركة الطاقة الوطنية التابعة للدولة "إي دي إف" تلك المحطات وتعد الشركة مورداً رئيساً للطاقة لشبكات دول مجاورة مثل بريطانيا وألمانيا وغيرهما عبر خطوط الربط التبادلية مع شبكات تلك الدول.
لكن في الفترة الأخيرة توقف أكثر من نصف المفاعلات بمحطات الطاقة الفرنسية، إما بسبب الأعطال أو ارتفاع درجات الحرارة (وأيضاً انخفاض منسوب الأنهار نتيجة الجفاف، إذ تستخدم المياه في تبريد المفاعلات) أو عمليات الصيانة المؤجلة.
هبوط إنتاج وارتفاع أسعار
نتيجة تلك الأعطال التي أوقفت ما يقارب 30 مفاعلاً نووياً في محطات الطاقة الفرنسية انخفض إنتاج الكهرباء في البلاد إلى أدنى مستوى له خلال 30 عاماً، وذلك في وقت تواجه أوروبا كلها أزمة طاقة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة حرب أوكرانيا وتوقف معظم إمدادات الغاز الروسية التي تعتمد عليها محطات طاقة كثيرة في الدول الأوروبية لتوليد الكهرباء.
ونتيجة تعطل المفاعلات، بالتالي نقص الإمدادات للشبكة الفرنسية، ارتفعت أسعار الطاقة بشدة لتصل إلى أعلى مستوياتها في شهر أغسطس (آب) الماضي عند 1073 دولار (1100 يورو) للميغاواط في الساعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويخشى المحللون في أسواق الطاقة من ألا تتمكن فرنسا من إنتاج ليس ما يكفي من الطاقة للوفاء بالتزامات شركة "إي دي إف" تجاه الدول المجاورة فحسب، بل حتى تجاه متطلبات استهلاك الطاقة في البلاد ذاتها خلال الشتاء المقبل.
وتشير الأرقام التي أصدرتها شركة تحليل بيانات أسواق الطاقة "إن آب سيس" في يوليو (تموز) الماضي إلى أن فرنسا فقدت مكانتها كأكبر دولة مصدرة للطاقة في أوروبا لتحل محلها السويد التي لا تمتلك أسطولاً من المفاعلات النووية بالقدر ذاته مثل فرنسا.
واضطرت البلاد إلى شراء الكهرباء بأسعار مرتفعة من بريطانيا وإسبانيا وألمانيا وحتى سويسرا وانخفضت صادراتها من الطاقة الكهربائية بمقدار النصف تقريباً ويتوقع ألا تتحسن الأوضاع فيها قريباً.
وأرغمت شركة "آر تي إي" المشغلة للشبكة الفرنسية على إصدار بيان تطمئن فيه أن لا يوجد خطر من انقطاع كامل للكهرباء في أشهر الشتاء المقبلة، لكنها لم تستبعد بعض الانقطاعات في أوقات الذروة.
وفي مقابلة مع شبكة "سي إن بي سي" الأميركية قال رئيس إدارة الاقتصاد وأبحاث الجيل القادم في شركة "يوليوس باير" نوربرت رويكر "من المفترض أن تعود معظم المفاعلات النووية للعمل قبل الشتاء، أي بحلول شهر نوفمبر (تشرين الثاني) أو على الأكثر ديسمبر (كانون الأول)، بالتالي إذا صدقنا ما أعلنته الشركة المشغلة للشبكة فإن الأمور لن تكون بغاية السوء، يجب ألا نتشاءم تماماً، وإن كان من المهم الاحتياط إلى أنه سيكون من الصعب عودة كل المفاعلات المعطلة للعمل في الوقت المحدد".
مشكلة فرنسا
في محاولة لحماية المستهلكين الفرنسيين من ارتفاع أسعار الكهرباء بالتجزئة للاستهلاك المنزلي وضعت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون سقفاً لارتفاع أسعار الطاقة للمنازل بحيث لا تزيد على نسبة 15 في المئة سنوياً بدءاً من العام المقبل ويمثل ذلك صعوداً عن معدل الزيادة هذا العام الذي كان سقفه أربعة في المئة للكهرباء وصفراً في المئة للغاز.
يرى مدير شؤون أوروبا في شركة الاستشارات "يوراسيا غروب" مجتبى رحمان أن ذلك الدعم الحكومي، وهو الأكبر في أوروبا، سيزيد الضغط على الوضع المالي للحكومة الفرنسية التي تستعد لمعارك عدة بشأن الموازنة في البرلمان، وقال رحمان في مذكرة له "سيعتمد الأمر على عاملين، الأول نجاح برنامج الحكومة للتقشف في استهلاك الطاقة (وهو اختياري للبيوت وإجباري للمؤسسات العامة والشركات)، والثاني هو الطقس، ففصل شتاء قارس البرودة بعد فصل صيف شديد الحرارة والجفاف سيمثل ضغطاً هائلاً على إمدادات الطاقة في البلاد".
وبحسب تحليل مجتبى رحمان، فالتوقعات تزيد على 65 في المئة أن الرئيس ماكرون سيحل البرلمان منتصف العام المقبل، لكن فقط في حال تأكده من أن تحالف الوسط الذي يقوده يمكن أن يحقق غالبية في الانتخابات، ومن شأن أزمة طاقة في فصل الشتاء أن تزيد مشكلات الرئيس ماكرون وحكومته وتحالفه الحزبي.
وأضاف رحمان أن "شتاء غضب واضطرابات ليس المقدمة المثالية للاستعداد لانتخابات عامة".
انعكاس على أوروبا
من شأن استمرار مشكلات إنتاج الطاقة في فرنسا التأثير السلبي ليس في المستهلكين الفرنسيين فقط، بل في الشبكات الأوروبية التي اعتادت شركة "إي دي إف" الفرنسية الحكومية أن تغذيها في أوقات الحاجة وذلك في وقت تتعرض شبكات الدول الأوروبية لضغوط شديدة نتيجة نقص الإمدادات بسبب مشكلات واردات الغاز من روسيا.
وبينما عادت بلاد عدة لتشغيل محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم على رغم الانبعاثات الكربونية الهائلة منه التي تتعارض مع التزامات تلك الدول بأهداف مكافحة التغير المناخي، فإن فصل الشتاء ربما يشهد أزمة طاقة في أوروبا كلها.
لذا قررت ألمانيا استمرار تشغيل المفاعلات النووية الثلاثة لديها في محطات توليد للطاقة على رغم نهاية عمرها الافتراضي مع ما يحمله ذلك من مخاطرة.
كذلك غير الرئيس الفرنسي موقفه من توسعة استخدام المفاعلات النووية في توليد الطاقة، ففي بداية حكمه وعد بالتخلي تدريجاً عن المفاعلات النووية لمصلحة المصادر المتجددة مثل الشمس والرياح، لكنه الآن تحت ضغط تعطل المفاعلات والظروف المناخية القاسية وحرب أوكرانيا وما صاحبها من عقوبات على روسيا وعد ببناء سبعة مفاعلات جديدة وربما مضاعفة هذا العدد.
لكن التأثير الأهم هو أن أزمة الطاقة الحالية في فرنسا تثير الجدل بشأن إمكان الاعتماد على الطاقة النووية في توليد الكهرباء، خصوصاً باعتبارها مصدر طاقة من دون انبعاثات كربونية.
في مقابلته مع "سي إن بي سي"، قال نوربرت رويكر "في رأيي أن علاقة فرنسا بالطاقة من المفاعلات النووية مهمة جداً لأنها تظهر إيجابيات وسلبيات الوقود النووي في مجال الطاقة بشكل عام، نعم هو منخفض الانبعاثات الكربونية، لكنه ليس عملياً بالمعنى الاقتصادي، فقد احتاجت فرنسا إلى تأميم شركة إي دي إف لتتمكن من تشغيل المفاعلات بدعم حكومي، صحيح أنها توفر الطاقة أكثر، لكن حتى ذلك ينتفي مع توقف المفاعلات بالأسابيع والأشهر".
بالتالي سيكون لشتاء غضب فرنسي نتيجة انقطاع الكهرباء تأثير في قرار دول أوروبية أخرى تفكر في إنتاج الطاقة بمفاعلات نووية كبديل للغاز والنفط من روسيا، كما أنه سيعني أيضاً أن دول العالم في سعيها إلى مكافحة التغير المناخي ستكون مضطرة إلى استبدال الطاقة النووية بالطاقة من مصادر أخرى مثل الشمس والرياح.