يرتحل الروائي السعودي يوسف المحيميد (1964) في روايته "رجل تتعقبه الغربان" (دار العين) في الزمن ما بين الحاضر والماضي والمستقبل، متتبعاً أوبئة واقعية وأخرى وليدة أفكار متزمتة، وحروباً مرت بها أجيال عدة من عائلة نجدية خلال ما يزيد على 100 عام، وفي مركزها نكبة عام 1948 التي بدت عصية على النسيان حتى بعد مرور 10 عقود على وقوعها بحسب سرد الرواية الذي يبدأ من عام 2048 وينتهي به.
استحوذ وباء كورونا الذي كان في ذروة انتشار موجته الأولى عام 2020 على معظم متن الرواية من خلال سرد ذاتي يتولاه "سليمان الزارع" وسرد خارجي يمسك بدفته راو عليم. تبدأ الرواية بالمستقبل، تحديداً عام 2048، إذ يعيش "سليمان الزارع" مع ابنته وحفيديه في "مدينة بيضاء ميتة". ومن "سليمان" نفسه نعرف أنه يعاني شظف العيش في تلك المدينة التي تهاجمها عواصف ثلجية لضآلة راتبه التقاعدي، فضلاً عن معاناته خوفاً مرضياً من الغربان، حتى إن الناس عرفوه بالرجل الذي تتعقبه الغربان. وهنا إحالة إلى نعيق تلك الطيور، خصوصاً حين تحوم حول جثث تخلفها الأوبئة والحروب، أو حتى في الأحوال الطبيعية ما يعتبر في الثقافة العربية نذير شؤم. وربما تشير مفردة الغربان كذلك إلى معتنقي الأفكار الظلامية والوشاة في تعقبهم للمستنيرين والناجحين في عملهم. يقول "سليمان الزراع" وهو يتذكر بعد أعوام من إحالته على التقاعد، زميلاً في عمله السابق فيقول "لم تعد الغربان هي تلك الطيور التي تحلق وتنعب طول الوقت، بل حتى زميلي في العمل تضعف ساقاه وتحمران أحياناً ثم ينحني نحو الأرض شيئاً فشيئاً، وينبت حول ذراعيه ريش أسود، فتصبح مشيته في الممرات كمشية غراب يبحث في الأرض، أهرب منه من دون أن أفضي إليه بوساوسي، لكن الآخر... الغراب يلاحقني بصوت غير مفهوم، صوت غامض يشبه النعيب" صـ 180.
تقنية الحلم
تحضر تقنية الحلم كثيراً في ثنايا السرد الذاتي بما يناسب حال بطل الرواية المهجوس دائماً بالشرور التي تحيط بواقعه والتي لطالما عاناها جده وأبوه وعمه، فضلاً عن أن لغة السرد احتفت كثيراً بالمجاز في بيئة غلبت عليها سمات البداوة لأعوام طويلة سبقت الطفرة التي أحدثها اكتشاف النفط والانفتاح على الحداثة بمختلف تجلياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. يقول الراوي العليم، مثلاً، وهو يصف حال البلد الذي يعيش فيه "سليمان" في عزلة كان يظن أن فيها خلاصه "لم تكن ندف الثلج الكبيرة التي تتأرجح كريش طيور بيضاء تتوقف طوال الليل، تلك التي يخيل له أنها جثث طيور مرمية كلما تنبه ليلاً مترنحاً نحو الحمام، وهو يفكر: يا للكآبة". بعد عامين من نهاية الحظر الذي فرضته إجراءات محاصرة وباء كورونا، كان "سليمان" لا يزال يعيش تحت وطأة مطاردة "الغربان الحقودة" له، وهو أمر لا تخفى رمزيته، فقرر أن يعتزل العالم ويبقى في بيته، "حتى جاءت اللحظة المناسبة ذات ليل خريفي، فغادر خلسة بصحبة ابنته هديل، حيث الغربان نائمة، سار تاركاً بيته وشجرة التوت، ورائحة أبيه وذكريات الطفولة والصبا".
"لا عيون إلا بعد جدري"
يفتتح المحيميد روايته باقتباس دال من الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد (1946) "أيها الغراب / كف عن نعيقك / جنازة تمر"، وبالمقولة النجدية "لا عيون إلا بعد جدري، ولا عيال إلا بعد حصباء"، وبقول جاك لندن (1876 -1916) "الأنظمة المتوارية تنهار مثل رغوة. نعم – رغوة ومتوارية. كل كدح الإنسان على الكوكب كان مجرد رغوة". تتألف الرواية من تسعة فصول "مدينة بيضاء ميتة/ فبراير 2048"، "كيف أحرك يدي الحجرية/ مارس – فبراير 2020"، "تفاصيل منسية/ ضارج – الرياض 1939"، "سجين خلف زجاج نافذة في ملحق خارجي/ الرياض 2020"، "أوراق منسية في زمن بعيد/ الرياض – فلسطين 1945 – 1950"، "يطرقون رؤوسهم كما السجناء/ الرياض 2020"، "الجنود في حقل الذرة/ الرياض – فلسطين 1948 – 1949"، "أعد المنظار الروسي إلى جرابه القديم/ الرياض 2020" و"الحكاية دائرة تتكرر مايو 2048".
ثم يرتد السرد إلى عام 2020 في شكل دفتر مذكرات كتبها أيام سليمان خلال فترة انتشار وباء كورونا، وفيه يسجل أن "مدينة البهجة والمتعة (الرياض) صارت موحشة، ناسها يخرجون من منازلهم حذرين كلصوص، كماماتهم أقنعة تخفي ملامحهم، وقفازاتهم تنذر بجريمة محتملة"، "لم تكد الرياض تنهض من غفوتها التي استمرت ثلاثين عاماً، حتى لزم أهلها منازلهم بإرادتهم" صـ 17.
"مدينة بيضاء "
كان "سليمان الزارع" وقت وباء كورونا يعيش في أحد أحياء الرياض مع والده المسن وابنته التي طلق أمها لسوء معاملتها لوالده ووالدته قبل أن تتوفى وكان يعمل في شركة استثمارية ولم يكن في وفاق مع مديره في العمل. تزامن ذلك مع ظهور وباء كورونا الذي ما لبث أن تسبب في موت أبيه. ويدفعه نداء المؤذن "صلوا في رحالكم" إلى تذكر ما روته له جدته عن قرى نجد في زمن الطاعون، كما يتذكر أن جده لأبيه مات بالحمى قبل 100 عام. ثم يعود ليتأمل ما فعله وباء كورونا... "الرياض صامتة رغم الظهيرة، بيوتها مثل خرائب مهجورة وناطحاتها المتناثرة تقف كشواهد قبور" صـ 44.
يقلب في صندوق أوراق جده التي يستدل منها على ما سببه انتشار مرض الجدري في الرياض عام 1939... "لم تعد الديكة تؤذن فجراً من أسطح المنازل الخفيضة، وإنما بضعة غربان تنعب إذ تحط على شرفات الطين"، ويتذكر مقولة صارت تتردد في نجد "لا عيون إلا بعد جدري ولا عيال إلا بعد حصباء". كانت للمدينة في ذلك الوقت تسع بوابات، وقد اجتمع على ناسها الفقر والحجر. وفي زمن سابق، تحديداً عام 1918 الذي أطلق عليه "عام الرحمة" عانى الناس الحمى الإسبانية. وهكذا تتداعى الذكريات ومنها ما عانته البلاد من جراء اشتعال الحرب العالمية الثانية، فتوقفت رواتب الموظفين وارتفعت الأسعار... "الناس ما صارت تثق بالريال العربي، بخاصة التجار، صاروا يبدلون ريالاتهم بجنيهات"، فيما شيوخ يحرمون البرقيات "لأنها بدعة وسحر ومن عمل الجن"، أما اللاسلكي فهو "شرك بالله"، وأجهزة الراديو كانت تشترى سراً قبل التصريح رسمياً باقتنائها، والفونوغراف "يحرم استخدامه وتداوله وتتم مصادرته وإتلافه عند ضبطه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن يظل البلد الذي فر إليه "سليمان" غير محدد الاسم ولكن الراوي العليم يصفه في الأخير بصفات تدل عليه بما يشبه الصدمة المروعة، فالأحداث تنتهي تحديداً في مايو (أيار) 2048، فيما يقطع حديث البطل المهزوم بلا مبرر مقنع، "صخب المتظاهرين بجدائلهم القصيرة وقبعاتهم الصغيرة المستديرة السوداء، وقد مروا أمامه حاملين لافتات وأعلاماً زرقاء وبيضاء، وهم يغنون احتفالاً باليوم الوطني المئة لبلادهم". إنها بلا شك إسرائيل التي حارب عمه "حمد" مع متطوعين من بلده قبل 100 عام من أجل ألا تظهر إلى الوجود، وعاد أحدهم مجروحاً من تلك الحرب ليحكي عن "خيباتها وخياناتها" وعن أنها اندلعت ولن تتوقف أبداً.
في ذلك البلد الذي تتوسطه "مدينة بيضاء ميتة"، بوصف الراوي العليم، يدرك "سليمان" متأخراً أنه محتقر بين ناسها... "أنا مجرد رجل حقير، لم يستطع أن يحافظ على شيء، بما في ذلك بلاده التي انفرطت بين يديه بغتة كمسبحة في هاوية" صـ 181.