ينتظر لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، ومع هذا الاستحقاق تفتح "اندبندنت عربية" ملف رؤساء الجمهورية في لبنان على مرحلتين قبل الطائف وبعده. هذه الحلقة من حلقات رؤساء ما قبل الطائف مع عهد الرئيس كميل شمعون.
فبعد انتهائه من إلقاء خطاب القسم أمام مجلس النواب بعد انتخابه في 22 سبتمبر (أيلول) 1952، لم ينسَ الرئيس الثاني للجمهورية كميل شمعون أن يوجه التحية لحميد فرنجية الذي كان ينافسه قبل أن ينسحب له ويؤمّن فوزه في تلك الانتخابات. قال شمعون "إنني أختم كلامي بعبارة شكر صادرة من صميم قلبي إلى الزميل الكريم الأستاذ حميد فرنجية للعواطف النبيلة التي أبداها في هذه الآونة الأخيرة وفي هذا الاجتماع، ولا ريب فإن الأستاذ حميد فرنجية قد برهن، مدة توليه مصالح البلاد العامة، عن تلك الخصائل التي نعرفها جميعاً والتي تجعله من قادة الرأي العام في البلاد". وكان شمعون بدأ خطابه هذا بتوجيه تحية إلى الشعب اللبناني "في مثل هذه الأيام وما يليها، من عام 1943، هبّ شعب لبنان ثائراً، يعلن إرادته ويؤكد عزمه أن يعيش حراً مستقلاً، فكان نضاله في سبيل هدفه نضالاً رائعاً موفقاً، وكان له ما أراد. وبالأمس، هبّ شعب لبنان ذاته ثائراً، يعلن إرادته ويؤكد عزمه، أن يعيش حياة صالحة لائقة بمواهبه وفضائله، فكان نضاله في سبيل هدفه نضالاً رائعاً موفقاً، وسيكون له ما يريد. وإذا كانت ثورة لبنان الأولى اصطبغت بدماء الشهداء الذكية، فإن ثورة لبنان الثانية تميزت، في أيامها الثلاثة التاريخية، بأنها لم تُرَق فيها نقطة واحدة من دماء الشعب."
عندما كان كميل شمعون يقول هذا الكلام لم يكن يعلم أن عهده سينتهي بعد ستة أعوام بثورة مسلحة وبدماء وبصراع كبير حول لبنان واستقلاليته وقراره الحرّ في ردّة على ما حصّله من استقلال في الثورة الأولى التي تحدث عنها شمعون أيضاً. كان على لبنان أن يبدأ بدفع ثمن الدفاع عن استقلاله في ظل تغيرات كبيرة في العالم العربي في ظل الدور الكبير الذي لعبه الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
صحيح أن الرئيس بشارة الخوري ارتضى التنازل عن الحكم عندما أيقن أن الطريق بات مقفلاً أمامه وأنه لا يمكنه أن يستعين بالجيش في ظل إمساك قائده الجنرال فؤاد شهاب بقرار تحريكه ورفضه التصدي للتظاهرات الشعبية، وصحيح أيضاً أن شهاب الذي ترأس حكومة انتقال السلطة في 18 سبتمبر 1952 استطاع أن يؤمن الأجواء الهادئة لانتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية خلال ثلاثة أيام وأمّن انتقال السلطة.
رئيس بأبعاد دولية
وصل كميل شمعون إلى الرئاسة حاملاً تجربة سياسية غنية. أتى من بيت متواضع واستطاع أن يتسلق سلّم المسؤولية بجدارة نائباً ووزيراً ووزيراً مفوضاً في بريطانيا وحاملاً قضية لبنان والقضية الفلسطينية إلى منبر الأمم المتحدة في العام 1948 ليلقّب بفتى العروبة الأغرّ. مثل بشارة الخوري تدرّج محامياً في مكتب الرئيس إميل إده ولم يمنعه ذلك من دعم بشارة الخوري في العام 1943، وكان وزيراً إذ اعتقل معه في قلعة "راشيا" وخرج معه في المعركة التي تحدث عنها في خطاب قسمه.
تسلم شمعون الرئاسة اللبنانية وحكم من قصر "القنطاري" الذي كان مقر بشارة الخوري أيضاً قبله. عندما كان يلقي خطاب القسم ويعد الناس بما سيفعله ويتعهد به، لم يكن قد مضى إلا شهران فقط على ثورة "الضباط الأحرار" في مصر والإطاحة بحكم الملك فاروق. ولم يكن قد ظهر أي بعد ستأخذه هذه الثورة التي كان ظاهرها الرئيس المعين اللواء محمد نجيب وقائدها الفعلي البكباشي جمال عبد الناصر. بين العام 1952 بداية عهد شمعون ونهايته في العام 1958 ستكون هناك جولات بين الرئيس اللبناني الواعد والحالم والرئيس المصري الطامح لتغيير الأنظمة في العالم العربي. وكانت في الوقت نفسه سوريا تعيش مرحلة اضطرابات وانقلابات وكان الرجل القوي فيها عندما تسلم شمعون الرئاسة العقيد أديب الشيشكلي الذي ستكون له علاقة مباشرة مع شمعون.
منذ تسلم الرئاسة، اهتزت علاقة شمعون مع كمال جنبلاط رفيقه في الثورة التي أسقطت الرئيس بشارة الخوري. سيفترق الرجلان حتى التناقض. لم يكن شمعون يرغب في أن يكون له شريك مضارب وموجّه في الحكم. كان بحكم المناصب التي تولاها يدرك الأبعاد التي يمكن أن يبلغها كرئيس للجمهورية. هكذا أراد أن يكون لبنان على مستوى العلاقات الندية العربية والدولية وهكذا أصبحت بيروت تستضيف رؤساء ومؤتمرات وصار شمعون صديقاً وحليفاً لرؤساء ودول. من الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود في السعودية، إلى الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، إلى الملك حسين في الأردن، والملك فيصل في العراق، وصولاً إلى تركيا وباكستان والدول الأوروبية.
على عهد شمعون مثلاً كان الملك سعود يزور لبنان، أياماً عدة، ويجول في بيروت ويصلي في الجامع العمري ويذهب إلى بعلبك وصيدا، وكان بإمكان الملك حسين أن يشارك في سباق للسيارات. وكان بإمكان شمعون أن يلبي دعوات كثيرة لزيارة دول كثيرة. كان لبنان على عهد شمعون وطناً واعداً بمزيد من النمو والازدهار فتدفقت عليه المشاريع والأموال وزاد عدد المصارف والفنادق. وشقت الأوتوسترادات، وأنشئت المصانع وبنيت معامل الكهرباء الأولى.
عهد الازدهار والصدام
ولكن في السياسة لم ينج العهد من المشكلات في نصفه الثاني. نتيجة نجاح شمعون ومحاولته تكوين قوة سياسية معتمداً على شخصيات تحالفت معه وتجمعت حول العهد، نشأت في المقابل معارضة بدأت صغيرة ثم أخذت تكبر. وبدأت سلمية ثم صارت تتحول مسلحة. هذا التحول لم يكن عفوياً وبفعل الجهود المحلية بل نتيجة تدخلات خارجية من خلال الدعم الآتي من سوريا ومن الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
في العام 1956 عندما كان لبنان يشهد ازدهاراً كبيراً حصل الاعتداء الثلاثي على مصر عندما شنت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل هجوماً رفضاً لتأميم قناة السويس، وفي العام 1954 تسلم عبد الناصر السلطة في مصر وذهب محمد نجيب إلى السجن وبدأ نجم الرئيس المصري الجديد يصعد في العالم العربي في محاولة منه لمدّ نفوذه إلى عدد من الدول. كان قراره تأميم قناة السويس بعد انتهاء مدة عقد تشغيلها الممنوح للشركة الفرنسية التي شقتها بعد 100 عام على افتتاحها محاولة منه لإظهار قوة حضوره العربية على خلفية استعادة الحقوق العربية من المستعمرين. بدأ "العدوان الثلاثي" في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، وانتهى في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بتدخل الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية وبانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية وإرسال قوات دولية.
نتيجة هذه الحرب، انعقدت قمة عربية في بيروت بناء على دعوة من الرئيس شمعون، في 13 نوفمبر، وحضرها رؤساء 10 دول، وصدر عنها بيان ختامي أجمع فيه القادة على "مناصرة مصر ضد العدوان الثلاثي وفي حال عدم امتثال الدول المعتدية لقرارات الأمم المتحدة وامتنعت عن سحب قواتها، فإن الدول العربية المجتمعة ستلجأ إلى حق الدفاع المشروع عن النفس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نجحت القمة ولكن علاقة شمعون مع عبد الناصر اهتزت لأن شمعون لم يعلن مباشرة إدانته لكل من فرنسا وبريطانيا. واستغل عبد الناصر تكريس قرار التأميم ليزيد من نفوذه في العالم العربي. كان يدعم الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي ويدعم النظام القائم في دمشق بعد الانقلاب ضد العقيد الشيشكلي الذي سمح له بمغادرة سوريا فلجأ إلى لبنان، واحتمى داخل السفارة السعودية قبل أن ينتقل بطائرة إلى خارج لبنان. كان عبد الناصر بدأ يعتمد على رجله القوي في سوريا عبد الحميد السراج وعلى سفيره القوي في لبنان عبد الحميد غالب. في المقابل، كان لبنان مسرحاً لمرور عملية تحضير لانقلاب في سوريا، ولكن المحاولة انكشفت وكان من الطبيعي أن ترتد على لبنان سلباً. كان بدأ تزويد المعارضة اللبنانية بالسلاح.
الثورة و"المارينز" والتسوية
واتهم شمعون بأنه يحضر لتجديد ولايته وبأنه راغب وساع للدخول في "حلف بغداد" الذي تريد من خلاله الولايات المتحدة مواجهة عبد الناصر. كان هذا الحلف يشمل العراق وتركيا وإيران وباكستان، واتهم لبنان والأردن بأنهما يرغبان بالانضمام إليه لمواجهة المد الشيوعي في المنطقة العربية والإسلامية. وبحكم الحملة عليه، اتهم شمعون بأنه زوّر انتخابات العام 1957 النيابية التي سقط فيها رموز المعارضة ككمال جنبلاط وصائب سلام وحصلت تظاهرات قبل الانتخابات واجهتها قوات الأمن بقوة.
في 22 فبراير (شباط) 1958 حصل تحوّل كبير في العالم العربي من خلال إعلان الوحدة بين مصر وسوريا. صار عبد الناصر رئيس البلد الواحد المكون من قطرين. وزاد تهديده للعهد الشمعوني المعارض لهذه الوحدة والخائف من رغبة عبد الناصر بإسقاطه وجعله القطر الثالث في الوحدة. في السابع من مايو (أيار)، تم اغتيال الصحافي اللبناني المعارض لشمعون نسيب المتني واشتعلت الثورة بينما كان شمعون يستمر في افتتاح المشاريع الكبيرة ويفجر أول عبوة في مشروع بناء سد الليطاني وإنشاء بحيرة القرعون.
واشتعلت الثورة وتحولت مسلحة وانقسمت بيروت خطوط تماس وتدفقت الأسلحة إلى المعارضة عبر الحدود مع سوريا. في تلك المرحلة كان لدى شمعون موفد أميركي يمثل الرئيس دوايت أيزنهاور، وآخر يمثل وكالة الاستخبارات الأميركية إلى جانب السفير الأميركي، وذلك من خلال تأكيد الاهتمام الأميركي بلبنان. في 14 يوليو (تموز)، حصل ما لم يكن بالحسبان، كانت الثورة في لبنان ولكن الانقلاب حصل في العراق وأطاح العقيد عبد الكريم قاسم النظام الملكي. في اليوم التالي، كانت قوات "المارينز" تنزل إلى البرّ اللبناني دعماً لحكم الرئيس شمعون وتنفيذاً لمبدأ أيزنهاور الذي كان ينص على دعم أي دولة يتهددها التمدد الشيوعي.
وأنهى تدخل "المارينز" الثورة، ونتيجة الاتصالات مع عبد الناصر تم التوصل إلى تسوية تقضي بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وتم ذلك في 31 يوليو، وفي 23 سبتمبر، تسلم الرئاسة من كميل شمعون الذي غادر قصر القنطاري ليعيد بناء مستقبله السياسي خارج الرئاسة. خرج من الرئاسة ولكنه لم يخرج من الصراع على الرئاسة، أسس "حزب الوطنيين الأحرار"، وبنى داراً في السعديات عند ساحل الشوف (جبل لبنان)، وكان رئيساً للجبهة اللبنانية خلال الحرب وبقي رئيساً لها حتى وفاته في العام 1987.