أصبحت العودة للتاريخ الحديث واستحضاره والتقاطع معه إحدى سمات الرواية العربية المعاصرة، وهذا التوجه العام نراه ماثلاً في العديد من روايات الكاتب المصري ناصر عراق والتي كان آخرها "الأنتكخانة" الصادرة عن دار الشروق في القاهرة. والحقيقة أن روايات ناصر عراق التي بلغت 11 ظلت متراوحة بين الرواية التي تتقاطع مع التاريخ، ولا أقول إنها التاريخية، وتلك التي تطرح قضايا راهنة، ويمكن أن نذكر تمثيلاً لهذين النوعين رواية "الأزبكية" الفائزة بـ "جائزة كتارا" ورواية "العاطل" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وها هو عراق يتقاطع في "الأنتكخانة" مع أشد فترات مصر الحديثة توتراً، والتي شهدت تزايد النفوذ الأجنبي لدرجة وجود وزيرين إنجليزي وفرنسي يراقبان سياسة الحكومة المصرية بذريعة المساعدة في سداد الديون التي تراكمت بسبب رغبة الخديوي إسماعيل في بناء مصر الحديثة حتى تصبح، كما توهم "قطعة من أوروبا".
ولهذا فإن الحكم على سياسته كان ملتبساً، إذ أشاد بعضهم بما أنشأ من مشاريع ضخمة، بينما عارضه كثيرون لأنه أغرق مصر في ديون لم تستطع سدادها، ناهيك عن إهماله لأدنى حقوق الشعب مما جعلهم دائماً تحت خط الفقر كما أشارت الرواية في أكثر من موضع. هذه المواقف المتباينة لسياسة إسماعيل والرؤى المختلفة لها دفعت الكاتب إلى بناء الرواية على تعدد الأصوات واختيار شخصيات مصرية مثل أحمد أفندي كمال عالم الآثار، والموظف في "الأنتكخانة"، ورمضان المحمدي النجار الذي استطاع من خلال غواية الخادمات سرقة بعض قطع الآثار من منزل هنرى بروغش الألماني الذي أسس مدرسة "اللسان المصري"، ومن منزل مارييت باشا المشرف على الأنتكخانة، وبيعها بعد ذلك لبنيامين الفرنسي - اليهودي الذي يقوم بتهريبها خارج البلاد.
ومن الجانب الأوروبي يتناوب السرد هنري بروغش وجوزفين ديوري التي قامت بالسرد مرتين، بينما قام بالسرد ثلاث مرات كل من رمضان المحمدي وهنري بروغش وأحمد أفندي كمال الذي أخذ مساحات أوسع في المتن السردي العام.
الشخصية المحورية
هذه الملاحظات المبدئية تدلنا على أن أحمد أفندي هو الشخصية المحورية في هذه الرواية، وهو شخصية ثرية حقاً ومتعددة الأبعاد وتنأى عن أن تكون شخصية مسطحة ذات بعد واحد، فهو عالم آثار ويعيش حياة زوجية مستقرة وله طفلان علي وقمر، واهتماماته السياسية محدودة ويرى في إسماعيل بانياً لمصر الحديثة ويقدر مشاريعه، لكن قناعاته هذه تهتز من خلال ابن خالته الضابط الذي أطلعه على ما يحدث في الجيش ومن خلال "الخواجات" الذين يعترضون على بذخ الخديوي وقصوره والموازنة الضخمة المخصصة لشخصه والتي تعادل ثلاثة أضعاف موازنة وزارتي التعليم والصحة، والإقطاعات الواسعة التي يمتلكها مقارنة بالمستصلح من الأراضي المصرية، بينما يعاني الشعب الفقر والبؤس وقلة رواتب صغار الموظفين وتعطيل حصولهم عليها لشهور طويلة.
وكما اهتزت قناعته بالخديوي تهتز حياته الأسرية بمجرد رؤية جوزفين الفرنسية التي قدمت إلى مصر للعمل في "الأنتكخانة" التي أصبحت أقرب إلى مؤسسة عامة تجمع العديد من الجنسيات المصرية والفرنسية والألمانية، مما أتاح آلية المقارنات الدائمة وتباين الرؤى، سواء على المستوى العام أو الخاص.
فيض من المفاجآت
فقد ظل أحمد أفندي على سبيل المثال دائم المقارنة بين زوجته المصرية زينب وجوزفين المثقفة الرشيقة التي تبدو كما وصفها كأنها نازلة من السماء، وظل يحلم بها أحلاماً تمزج بين الروحي والحسي، وتتم خطبتهما بالفعل لكنها تتركه فجأة وتسافر مع أندريه الشاب الفرنسي الذي زلزل كيانها منذ لقائهما الأول في حفل خطبتها لأحمد أفندي، إذ تصف ذلك قائلة "شعرت برجفة لذيذة تسري في أوردتي وشراييني، فكأنه طيف يلوح في أسطورة رومانسية أو كائن نوراني هبط من سماوات الرجولة المتقدة أو عبر تواً بوابة الفردوس، ولما صافحني ولمس أناملي وهو يرمقني بعينيه الزرقاوين الجريئتين انهارت مقاومتي".
ثم تسافر معه إلى فرنسا بعد أن تترك رسالة مع مارييت باشا تشكر فيها أحمد أفندي على أيامها السعيدة معه، وهنا تتبدل رؤية أحمد أفندي لها ويراها مثل الحيّة التي لدغته في غفلة منه، لكن فيض المفاجآت لا ينتهي، فبعد فترة وجيزة تعود جوزفين طالبة العفو بعد أن غدر بها أندريه، فيرفض أحمد أفندي على رغم حبه الشديد لها قائلاً إنه "لا يرعى الزهور الذابلة".
التوازي والتناقض
لقد آثرت سرد ما سبق لأنه يمثل في تصوري علاقة مصر بالقوى الأجنبية، مصر التي انخدعت بكل ما هو غربي حتى تمكنت إنجلترا وفرنسا تحديداً من الهيمنة عليها، لكن مصر تستشعر الخطر المقبل فتثور على يد ضباطها وفي مقدمهم أحمد عرابي الذي تزعم الثورة أيام الخديوي توفيق بعد عزل إسماعيل، وعلى يد الجمعية الوطنية التي ترأسها جمال الدين الأفغاني وكان من أعضائها محمد عبده وسعد زغلول وعرابي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هناك إذاً "بنية تواز" بين التجربة الشخصية لأحمد أفندي في انخداعه وتمرده، وتجربة مصر العامة في انخداعها أو تحديداً انخداع الخديوي إسماعيل بالغرب وتمردها ومقاومتها، مما يمنح الرواية ثراء واضحاً، ولهذا لم يكن مستغرباً أن يتناسى أحمد أفندي همومه الذاتية بانشغاله بالهم العام كما يبدو في قوله "إن عظمة الحاضر لا تقل عن جلال الماضي، وإن أبناء مصر الحاليين خير خلف لخير سلف، وتضاءلت جوزفين حتى باتت نقطة قلقة في صدر يتعافى".
وعلى النقيض من ذلك نجد ما يمكن أن نسميه ببنية "التناقض" على مستوى الشخصيات والأماكن، فرمضان المحمدي هو نقيض أحمد أفندي كمال، إذ اقترف موبقات شتى في سبيل الحصول على المال، مثل سرقة الآثار وبيعها وخداع الخادمات وقتل اثنتين منهن في النهاية، مستورة وصابحة، اللتين دفنهما في حديقة منزله الواحدة بعد الأخرى، ثم محاولة قتل نبوية بعد تمردها عليه، لكنها استطاعت قتله في اللحظات الأخيرة.
لقد كان نهم رمضان للمال بلا حدود حتى إنه فكر في قتل أبيه البخيل لكي يرثه ويحقق أحلامه، كما تبدو بنية التناقض بين الخديوي الذي يبني 30 قصراً فخماً تكلفت الملايين من الجنيهات بينما الشعب يئن جوعاً ويتعذب كما لاحظت جوزفين، وبين الخديوي بوصفه حاكماً شرقياً مستبداً تراقب عيونه الجميع، فالحاكم الشرقي، كما يقول هنري بروغش، "لا يطمئن على عرش من دون أن يبث الخوف في نفوس الجميع وليس الطامعين وحسب"، وبين دعاة الديمقراطية والملكية الدستورية من أعضاء الجمعية الوطنية الذين "صاغوا اللائحة الوطنية التي ترفض تدخل أوروبا في شؤون مصر كما ترفض استبداد الخديوي"، بما يؤكد تداخل الهم الوطني والسياسي.
مدينة غير متجانسة
والحقيقة أن أعضاء هذه الجمعية لم يرفضوا مظاهر التمدن الأوروبي في العلوم والصناعات وتدبير شؤون الحكم على أساس دستور عصرى يعزز الحرية والديمقراطية، لكنهم نفروا، كما يقول الأفغاني، من "الخلاعة والانحلال والمكر الذي يسري في بلدانهم"، في حين كان الأوربيون يرون، وهذا ما يتوافق مع رؤية الجمعية الوطنية، أن مشاريع الخديوي كما يقول هنري بروغش تخدم قلة محدودة ولا تكفي شعباً يقترب من 6 ملايين إنسان، وأنه غير ملم بعلم الأولويات وأنه مؤمن تماماً بأنه هو شخصياً محور الكون والعليم بكل شيء.
كما تظهر بنية التناقض في عشق الأوروبيين تماثيل مصر القديمة ودرسها وتعامل كثير من المصريين معها بوصفها "أوثاناً ينبغي تحطيمها حتى لا يؤمن بها الناس فيكفروا بالواحد الأحد كما تطالب عقيدتهم". إن كل ما سبق جعل من القاهرة، كما ترى جوزفين، مدينة غير متجانسة، "فهناك قاهرة الحاكم وحاشيته من أهل مصر وأوروبا، وهي مناطق باذخة تشي بالعظمة والجلال، لكن هناك قاهرات أخرى يزحف فيها الفقر والعوز وأكوام القمامة"، ولا أحد يستطيع في الصحف المصرية أن يشير إلى هذا وإلا تعرضت الجريدة للإيقاف وجر أصحابها إلى السجون، على عكس الصحف الفرنسية والإنجليزية التي كانت بحماية دولها قادرة على معارضة سياسة الخديوي.
كما تقوم بنية الرواية على مجموعة من التقنيات الفنية يأتي في مقدمها توظيف المونولوغ الداخلي الذي تكرر في أكثر من موضع، ومن ذلك مثلاً ما دار في خلد هنري بروغش بعد اختفاء "مستورة" الخادمة، إذ استخدم منولوغاً طويلاً يقوم بدوره على الأسلوب الإنشائي الاستفهامي، مما يدل على حيرته وعدم قدرته على الوصول إلى يقين، ومنها الصورة المشهدية، ولعل أوضح مثال لها هو حفل خطبة أحمد أفندي لجوزفين التي بدا فيها التأثر بالسينما من حيث وصف الشخصيات وحركتها وأقوالها وتعبيرات وجوهها، ومنها تضمين الرسائل بين جوزفين وصديقتها الفرنسية "ماري"، وتوظيف تقنية الحلم حين رأى أحمد أفندي جوزفين على سطح الأهرامات وكأنها ملكة أسطورية، وتضمين بعض آيات القرآن والأمثال الشعبية.
إن ناصر عراق يمتلك القدرة على العودة للتاريخ القريب نسبياً، لا لينقله بل ليضيف إليه ويخلع عليه رؤيته الخاصة بعد إسقاطه على القضايا الراهنة.