Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سينيكا الرواقي عاش بين عهدي كاليغولا ونيرون وانتحر بأمر الإمبراطور

سرعة في إنجاز المؤلفات الأخلاقية الكبرى والعودة إلى المسرح الإغريقي لتطويره

لوحة من القرن الـ18 تمثل "انتحار" سينيكا (موقع الفيلسوف)

ربما كان من سوء طالع الفيلسوف الروماني الرواقي لوسيوس أنايوس سينيكا (العام الرابع قبل الميلاد والعام الميلادي 65) أنه لم يقيض له تلميذ كأفلاطون يقوم بتخليد ذكراه في حوارات رائعة كتلك التي بها خلد صاحب "الجمهورية" و"الشرائع" ذكرى الفيلسوف الإنساني الأول في تاريخ الفكر الإنساني. فعلى رغم أن نهاية سينيكا أتت بأمر من الإمبراطور المتوحش نيرون وتالياً لتهمة ظالمة اتهم بها الفيلسوف، وأنها كانت أشد وحشية بكثير من نهاية سقراط، لم تتمكن تلك النهاية من استثارة كثير من الأقلام والتعاطف على العكس مما طاول نهاية سقراط. وربما يمكننا النظر إلى هذا الأمر الغريب باعتباره لغزاً آخر من ألغاز التاريخ، أو يمكننا أن ننظر إليه من منظور حديث بالأثر الذي يتركه فعل الدعاية في النفوس على اعتبار أن أفلاطون بدا أقوى ترويجاً لمعاناة أستاذه من كل أولئك الذين تعاطوا مع "انتحار" سينيكا.

بين القصور والمنافي

ولكن قبل أن نتوقف عند التفاصيل المريعة لتلك النهاية لا بد من أن نتساءل مع القارئ عمن كان سينيكا ولماذا خصه الإمبراطور الوحش في النهاية التي سنصفها. منذ البداية لا بد من التأكيد أن سينيكا كان يعتبر في ذروة حضوره الفكري "الموجه الأول للوعي في المجتمع الروماني" هو الذي كان قد انتقل إلى روما، وكان بعد في مستهل صباه. وهو ما إن شب عن الطوق حتى توجه صوب الفلسفة وانتمى إلى الفكر الرواقي في وقت راح فيه يمارس مهنة المحاماة في المحاكم العدلية، ثم ما إن لفتت مرافعاته الأنظار بقوة لغتها وفصاحة بيانها، حتى بات عضواً في مجلس الشيوخ في بدايات عهد كاليغولا بل يبدو أن هذا الأخير قد قربه منه، ولكن ما إن زال حكم كاليغولا بما له وما عليه، وجاء عهد كلوديوس حتى قام هذا، ولأسباب غير مفهومة، بنفيه إلى جزيرة كورسيكا، إذ تقول الأسطورة إنه عاش هناك عيش النساك في مبنى صغير يعلو قمة جبل لا تزال تسمى حتى اليوم باسمه. غير أن هذا الأمر غير مؤكد على رغم وجود الاسم في التداول الشعبي في المنطقة. المهم أن زوجة كلوديوس أغريبينا التي كانت تعرف أسرة سينيكا، استدعته من منفاه في عام 43، وكان قد أمضى فيه ثماني سنوات لتكلفه تأديب ابنها نيرون الذي كان بعد مراهقاً ويحضر لخلافة أبيه كلوديوس على العرش.

الإمبراطورية بين يدي الفيلسوف

والحال أن نيرون سرعان ما تسنم العرش وهو في السابعة عشرة وغير قادر بعد على اتخاذ ما يلزم من قرارات، فهو كان لا يزال بين يدي معلمه، وكان يثق به ثقة تامة، بالتالي بات سينيكا وإلى حد ما صاحب الكلمة الفصل في شؤون الدولة كما في حياة نيرون، بيد أن هذا سرعان ما راح يفضل الاستقلال بقراراته ورأيه ورأى أنه لن يكون قادراً على هذا إلا بانعتاقه أولاً من سيطرة أستاذه الفكرية عليه، إذ بات يشكل بالنسبة إليه نوعاً من ضمير يقف وازعاً في وجه نزوعه إلى الشر الذي راح يلوح عليه باكراً، وبالأحرى كإرث عائلي وصل إليه من كاليغولا من طريق كلوديوس. ولا شك أن سينيكا لم يقف في وجه تلميذه، بل تنحى جانباً وراح يستكمل مشاريع كتابية متعددة كان جلها قد بدأ بكتابته، ثم أجله لانشغاله في تربية تلميذه النجيب. وها هو اليوم ينعتق بدوره وينكب على استكمال النصوص التي سيكون من أبرزها نصوص حول "الغضب" و"الأخلاق" والرحمة" و"ديمومة الحكمة" و"العناية الإلهية"، وصولاً إلى رسالته الجامعة المعنونة "رسالة إلى لوسيليوس حول الكتابات الأخلاقية"، بل إنه لم يكتف بهذه النصوص الأخلاقية على أهميتها في إنجازاته الفكرية وفي تاريخ الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإنساني، وكذلك على دورها في تكوين متن الفكر الرواقي بشكل عام، بل رأيناه في مراحل متفرقة من حياته يعود إلى أمهات المسرحيات الإغريقية مثل "أوديب" و"فيدرا" و"ميديا" و"أغاممنون" و"تييستيس" فيعيد كتابتها، ولكن على ضوء فكره الرواقي فتقدم بحلل جديدة. وكذلك رأيناه يتطلع إلى محاكاة الحوارات الأفلاطونية عبر مواضيع جديدة تتلاءم مع زمنه الذي كانت فيه الأفكار تتصارع بشكل لا سابق له في تاريخ الفكر.

إنجازات ما قبل النهاية

وكان سينيكا يكتب بسرعة وبقوة وكأنه يحدس بأن نهايته باتت قريبة حتى وإن كان لا يزال يجهل كيف ستكون، تماماً كما كان يفعل، بحسب سيرة حياته ومدونيها، حين كان في منفاه الكورسيكي يكتب، بل يبدأ الكثير من المشاريع الكتابية التي سرعان ما يرميها جانبا، وكأنه يخشى أن ينتهي منفاه ويعود إلى انشغالات تلهيه عنها. والحقيقة أن ذلك ما حدث بالنسبة إلى مخاوفه في المنفى، كما سيحدث خلال المرحلة الأخيرة من حياته حين حل عليه فجأة جنون وغضب تلميذه السابق الذي يبدو أنه لم يكن ليستطيع أن يطيق وجود أستاذ أرفع منه مكانة في الإمبراطورية ويعرف كل عيوبه. وعلى ذلك النحو حلت نهاية سينيكا. وكانت نهاية توجها انتحار الفيلسوف بأمر شخصي من الإمبراطور نيرون، وذلك بعد أن وجهت إليه تهمة يبدو أنها لم تثبت على الإطلاق وتحديداً لأنها كانت ملفقة أصلاً، فحواها أنه كان ضالعا في مؤامرة عرفت بـ"مؤامرة بيسسون" تهدف إلى التخلص من الإمبراطور. ولقد أمره هذا الأخير بأن يقتل نفسه عقاباً له على تآمره. وهكذا، وكما فعل سلفه الكبير سقراط قبله بنحو نصف ألفية من السنين، بادر سينيكا إلى إطاعة الأمر ونفذ الحكم على نفسه بنفسه كما تقول الحكاية. وكان الحكم الإمبراطوري يقضي بأن يمزق سينيكا شرايينه بنفسه بواسطة قطعة حديدية حادة، وأمام عدد من المسؤولين الذين يتوجب عليهم مراقبته ومرافقته حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"بيدي لا بيد عمرو"

وهنا ننقل مشهد تلك النهاية التي لا شك أنها كانت أكثر إيلاماً وضراوة من نهاية سقراط، عن مؤرخ عاد إلى هذا الموضوع في القرن التاسع عشر، "في البداية لم تفلح قطعة الحديد في إحداث جرح عميق في ساقي سينيكا أو ذراعيه، فجلده كان جافاً بسبب سوء التغذية ومكوثه جامداً في السجن فترة طويلة، فما كان من بعض الحاضرين إلا أن سارعوا إلى مساعدته وعلى الأقل كيلا تطول فترة آلامه. فتناولوا قطعة الحديد بكل غلظة وراحوا يقطعون لحم وشرايين يديه وساقيه وهو هادئ مستسلم لا تبدر عنه ولا حتى إشارة ألم أو احتجاج، بل إنه نظر حواليه ذات لحظة ليرى زوجته جالسة غير بعيد مذهولة مما يحدث وقد سمح لها الإمبراطور بأن تحضر انتحار زوجها. فالتفت الفيلسوف إلى بعض الحاضرين وطلب منهم إخراجها من المكان. وقد خشي أن تقطع معاناتها شجاعته، ففعلوا وهو يتوسل إليها أن تذهب إلى غرفة مجاورة. وهكذا استعاد قوة بلاغته في لحظاته الأخيرة ودعا رفاقاً له حاضرين ليملي عليهم خطاباً أخيراً وجهه خاصة إلى الأمين ستاتيوس آنيوس، الذي كان قد تعرف عليه وارتبط معه بصداقة طويلة هو الذي كان طبيباً ماهراً وصاحب خبرة طويلة وطلب منه أن يحضر له السم الذي كان قد حضره منذ فترة طويلة، على اعتبار أنه السم نفسه الذي كان يستخدم في أثينا ضد أولئك الذين كما حال سقراط حكم عليهم بالموت. تناول سينيكا هذا المشروب، ولكن من دون جدوى، فقد قاومت أطرافه الباردة بالفعل وأوعيته المنكمشة نشاط السم. فما كان منه أخيراً إلا أن دخل حماماً ساخناً كان قد اغتسل فيه قبل البدء بحفل الانتحار، وهناك بعد أن رش الماء على العبيد المحيطين به صرخ قائلاً، "ها أنا ذا أهدي هذه الرشة المنعشة إلى شهود حريتي الأخيرة"، ثم رمى نفسه في الموقد الملتهب لتخنقه أبخرة الوقود ولا تلوح على وجهه سوى نظرة هادئة لا تعبر لا عن الألم ولا عن الغضب. وهكذا يكون سينيكا الذي عاش طوال حياته فيلسوفاً رواقياً قد أنهى حياته بأهدأ ما يفعل فيلسوف رواقي بدت الأمور معه وكأنه عاش حياة وديعة هانئة هو الذي كانت بداياته مع كاليغولا ونهايته على يد نيرون، والاثنان معروفان بالطبع بكونهما أشرس إمبراطورين عرفتهما الدولة الرومانية، وربما أي إمبراطورية أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة