يختصر تعريف منظمة "اليونيسكو" للتراث الشفهي بأنه "أنواع هائلة من المنقولات الشفهية بما في ذلك الأمثال والألغاز والحكايات والأساطير والخرافات والأغاني الملحمية والقصائد والسحر والأناشيد والأغاني والعروض الدرامية التي تنقل المعرفة والقيم الثقافية والاجتماعية والذاكرة الجمعية وتصون الثقافات".
ونظراً إلى أهمية هذا التراث لشعوب العالم وضعت مجموعة من المواثيق الدولية والأممية عن الهيئة العامة للأمم المتحدة. وألحقت بها الأيام الأسابيع الدولية للاحتفال بالثقافات المحلية واللغات الأم وحقوق الشعوب البدائية بالحماية مادياً وثقافياً والحفاظ على التقاليد والعادات التي تمتد جذورها إلى أزمنة مغرقة في القدم ومنعها من الاندثار.
عولمة الثقافات المحلية
"العولمة" الناجمة عن تصغير العالم بعد ثورة الاتصالات والإنترنت والإعلام والإعلان والصورة والفيديو كانت ذات تأثير كبير في اختفاء ثقافات محلية بالكامل قبل أن يسارع سكان محليون إلى استعادتها وتعليمها للأطفال للحفاظ عليها جيلاً بعد جيل، كما هي حال سكان أميركا الأصليين وسكان أستراليا الأصليين وسكان جزر المحيط الهادئ الذين استدركوا سريعاً وبمساعدة المنظمات الدولية ذوبان ثقافاتهم في بحر العولمة، هذا قبل أن تتمكن العولمة نفسها من توسيع تلاقح الثقافات وإضاءة كنوز معرفية تقليدية ومحلية لم تكن معروفة، وعرض مشاهد الطقوس والاحتفالات إلى أنحاء العالم.
وأسهمت العولمة في انتشار التراث الشفهي الخاص بكل شعب، ومن هذا التراث قصص الأطفال الخيالية التي يتشابه كثير منها بين الثقافات، سواء في قصص الشعوب التي تسكن قرب البحر والسواحل والمستقاة من الخيال البحري وعالم البحار وأمواجه وعواصفه واتساعه وحيواناته وأسماكه التي تتحول في قصص الأطفال إلى وحوش وحوريات وسفن وقلاع وأنواع من الكائنات الغريبة أو قصص شعوب الغابات التي تدور حبكتها حول الغابة بخطرها وبحنوها على الكائنات التي تعيش فيها أو قصص أطفال شعوب الإسكيمو سكان المحيط القطبي المتجمد أو قصص شعوب الصحارى التي تقدم إلى الأطفال كما لو أنها دروس تحضيرية لهم في مواجهة الحياة المقبلة، وفي تعلم الدروس عبر تنشيط خيالهم وإعطائهم أمثلة لما قد يواجهونه في الواقع بينما يكبرون.
في العالم الحديث ظهرت قصص الأطفال الخيالية المرتبطة تارة بالحضارة المدنية والسكن في المدن الكبيرة حول العالم، وهي قصص تختلف بدورها من مدينة إلى أخرى، فقصص أطفال الولايات المتحدة خلال القرن الـ20 دارت حول الأبطال الخارقين من مختلف الأنواع والأشكال والقوى الفائقة الخيال، بينما دارت قصص الأطفال في أوروبا حول استعادة أبطال الملاحم الإغريقية والإلياذة والأوديسة، وكذلك في الهند وشرق آسيا حيث تعود الأساطير الهندية والصينية على شكل أفلام سينمائية ضخمة الإنتاج ولكنها تنجح في تحقيق أهدافها في استعادة أمجاد الماضي.
قصص أطفال حوض المتوسط متشابهة تقريباً، فهي تعود إلى جذور مشتركة بين شعوب حوض المتوسط الجبليين منهم والسواحليين، وتتناول في أغلبها أبطال يجوبون البحار وآخرون يعيشون في غابات الجبال المطلة على الساحل.
الأساطير وتطور المجتمعات
بحسب الكاتب مارتن بوشنر من "BBC future" كان الإسكندر المقدوني يمتلك سلاحاً يماثل سلاح جيشه الضخم وبسالته، وهو إلياذة هوميروس التي تعلم عبرها القراءة والكتابة، ويقال إنه كان ينام جنباً إلى جنب مع نسخته من هذه الملحمة الطويلة التي تروي أمجاد الأجداد.
يعتبر شعراء وأدباء حول العالم أن ملحمة الإلياذة الإغريقية كان لها دور في تشكيل وتكريس ثقافة المجتمعات الأوروبية بأكملها على مدى قرون، وكان لها دور في تأكيد أخلاقيات هذه المجتمعات في أزمنة السلم والحرب. وبرأي هوارد كاناتيلا الباحث في علم الاجتماع الثقافي فإن الملاحم التاريخية التي تترك أثراً في الشعوب التي تتوارثها إنما تمجد أنواعاً مختلفة من الخيارات الأخلاقية مثل الشجاعة والتضحية والبسالة وهزيمة الأعداء ونشر أخلاقيات تقديس آلهة هذه الملاحم وأبطالها التي تحدد ما هو الخير وما هو الشر، ومن هو الصديق الصالح ومن هو العدو البربري الذي يعيش بلا قواعد وأخلاقيات تردعه عن الأفعال الشريرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين تشرع الجدات بقراءة القصص للأطفال في كل ثقافات العالم فإنها تبدأ بجملة "كان يا ما كان في قديم الزمان". وهذه الجملة تفتح مباشرة مخيلة الأطفال بدءاً من سن الثالثة حين يبدأون طرح الأسئلة حول كل شيء، الأمر الذي يوقع الأهل في الضجر أو الحيرة بسبب هذه الأسئلة التي لا يعرفون إجاباتها، وهي الفترة نفسها التي يبدأ فيها الأطفال سماع القصص الخيالية التي ترويها الجدات أو الأمهات من الذاكرة المتوارثة أو من كتب الأطفال الحديثة التي باتت جزءاً أساسياً من الأدب العالمي.
أدب الأطفال الحديث
بات الأدب الموجه إلى الأطفال حول العالم يلقى اهتماماً كبيراً من دور النشر ومن الروائيين والشعراء والموسيقيين، وصارت المؤسسات التي تدعم وتمول مثل هذا الأدب كثيرة ومنتشرة حول العالم، وبعضها بدعم مباشرة من الأمم المتحدة ومؤسساتها التي تعنى بالطفولة، وهناك المؤسسات الثقافية الكبرى التي تمنح جوائز مالية مجزية لمؤلفي قصص الأطفال وأبرزها مؤسسات ثقافية في دول مجلس التعاون الخليجي التي تصدر بدورها مجلات موجهة إلى الأطفال باللغة العربية باتت معروفة لدى جميع أطفال العالم العربي سواء مجلة "ماجد" أو "سامر" أو "العربي الصغير"، وغيرها.
وتنتج آداب الطفل الحديثة عن اندماج علم اجتماع ونفس الطفل، ويقوم بكتابة القصص مؤلفون وباحثون في العلوم الحديثة حول الطفل المعاصر ذي المخيلة المختلفة عن مخيلات أطفال القرن الـ20 السابقين على الهاتف المحمول.
"اليوم نعيش ثورة في تقنيات الكتابة لا تقل أهمية عن اختراع الورق والطباعة في الصين أو إعادة اختراع الطباعة في شمال أوروبا. ويعمل الإنترنت على تغيير طريقة القراءة والكتابة وكيفية انتشار الأدب ومن يمكنه الوصول إليه. نحن نقف في بداية حقبة جديدة من الكتابة والأدب. لا بد أن يتغير العالم المكتوب مرة أخرى بطريقة جذرية"، هكذا يقول مارتن بوشنر أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن والتاريخ والحضارة بجامعة "هارفرد" ومؤلف كتاب "The Written World: The Power of Stories to Shape People" (Random House).
لهذا يتميز أدب الطفل الحديث بالثراء اللغوي والبصري، وصار بعض القصص يأخذ طابعاً تأويلياً، ويحمل أسئلة مفتوحة تسمح بكثير من الاحتمالات في ظل الدعوة إلى التفكير والإسقاط وإشراك الطفل في أبعاد الحكاية. وصارت رسومات كتب الأطفال فناً مستقلاً بذاته، له رواده وإمكاناته وتصنيفاته وأنماطه المختلفة.
كان ميلاد أدب الأطفال عام 1667 في فرنسا، حين جمع الكاتب الفرنسي شارل بيرو الحكايات الشعبية الأوروبية ونقلها من التراث الشفهي إلى الأدب المكتوب. وكانت أول مجموعة قصصية للأطفال هي "حكايات أمي الإوزة" التي تضمنت مجموعة من الحكايات الشهيرة مثل "القط ذو الحذاء، وسندريلا، وذات الرداء الأحمر، والذئب وعقلة الإصبع" وغيرها.
بعدها بأكثر من مئة عام، ظهر كتاب الأخوين جريم "حكايات الأطفال والبيوت" في ألمانيا عام 1812، حيث دون الكاتبان كثيراً من الحكايات الشعبية، وجمعا مزيداً من القصص من أفواه الأمهات والجدات في قرى ألمانيا مثل "بياض الثلج" و"الأقزام السبعة" و"الأميرة النائمة" و"رابونزل".
وقد توالت إصدارات المجموعة في كل مرة مع إضافة قصص جديدة. وترجمت لاحقاً إلى 140 لغة، بما فيها العربية، وأصبحت جزءاً من تراث وأساطير الشعوب الأخرى. وكان المفكر النهضوي العربي رفاعة الطهطاوي قد نقل من اللغة الفرنسية من بين ما نقله إلى العربية قصص "عقلة الإصبع" و"حكايات الأطفال". وكذلك تأثر أحمد شوقي بحكايات الشاعر الفرنسي لافونتين فكانت "شوقياته الصغيرة".
في إنجلترا كانت "أليس في بلاد العجائب" كالبركان الروحي لأدب الأطفال. وقد احتفلت بريطانيا عام 2015م بمرور 150 عاماً على ولادة الكتاب الذي ألفه لويس كارول عام 1865. وظهر في الدانمارك هانز كرستيان أندرسون عام 1835م، الذي جمع وكتب عدداً من القصص من التراث الإسكندنافي مثل "الأميرة وحبة الفول" و"ملابس الإمبراطور" و"البط الدميم" وغيرها.