يبدو أن الجوائح والأوبئة لا تنقضي فعلاً ولا تكتب خواتيمها أبداً حتى عندما نظن أنها اندحرت أو أننا حققنا انتصاراً عليها، فالطاعون مثلاً الذي نشر "الموت الأسود" في أوروبا وآسيا وأفريقيا منذ 700 سنة تقريباً يطل برأسه مجدداً في بحث جديد، إنما هذه المرة بثوب السكري وأمراض التهاب المفاصل والمناعة الذاتية، إذ تبين أن الجائحة تركت خلفها علامة وراثية ما زالت تطرح تأثيراتها في صحتنا حتى الآن.
وفق بحث جديد عرضت تفاصيله وكالة "ساوث ويست نيوز سيرفيس"، يرجع بروز داء السكري ومجموعة أمراض التهاب المفاصل والتصلب المتعدد في الأساس إلى الطاعون نفسه أو "الموت الأسود".
لقد غذى الطاعون الذي اجتاح أوروبا الوسطى جينات وراثية تجعل الناس عرضة للإصابة بأمراض المناعة الذاتية autoimmune diseases التي تنشأ عن خلل في الجهاز المناعي يدفعه إلى مهاجمة أنسجة الجسم نفسها.
ترك "الموت الأسود" بصمته في تطور الجنس البشري من طريق التأثير في طبيعة الاستجابات ضد الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض. عليه، ليس مستبعداً أن تواصل الجوائح السلوك عينه في المستقبل- مع الانعكاسات المترتبة على "كوفيد-19"، كما توضح "ساوث ويست نيوز سيرفيس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال العلماء إن عملية انتقاء طبيعي حدثت بوتيرة سريعة لدى ناجين أفلتوا من قبضة الجائحة، تاركة الأحفاد أكثر عرضة للخطر.
ونقلت "ساوث ويست نيوز سيرفيس" عن الباحث المشارك في الدراسة البروفيسور هندريك بوينار من "جامعة ماكماستر" في أونتاريو الكندية أنه "عندما تطرأ جائحة من هذا النوع – مطيحة بحيوات 30 إلى 50 في المئة من السكان - لا بد من حصول انتقاء لطفرات وقائية تحمي البشر من المرض، لكن الأشخاص المعرضين للإصابة بمسببات الأمراض المنتشرة سوف يلقون حتفهم".
"حتى ميزة طفيفة [في الجينات] تشكل الخيط الرفيع بين النجاة أو الموت. وبالطبع، الناجون الذين وصلوا سن البلوغ سينقلون جيناتهم إلى أبنائهم"، بحسب ما قال البروفيسور بوينار.
تستند نتائج الدراسة إلى 516 عينة من "الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين" (دي أن أي) DNA مأخوذة من أسنان ضحايا ماتوا قبل أو في خضم تفشي المرض في لندن والدنمارك، أو بعد ذلك بفترة وجيزة.
عبر "نافذة" عمرها قرن من الزمان نجح فريق دولي من البحاثة في تحديد اختلافات جينية كانت المسؤولة عن تعيين الأشخاص الذين كتبت لهم النجاة من الفيروس.
جاء بعض تلك الجينات من بقايا جثث عثر عليها في مقبرة جماعية في "إيست سميثفيلد" شرق لندن.
وكشفت سجلات تاريخية وعملية التأريخ بتقنية الكربون المشع عن وفاة أولئك جميعاً بين عامي 1348 و1349.
وأظهر التحليل أن الضحايا الذين حملوا متحورة جينية وقائية تسمى "إيراب 2" ERAP2 ازدادت فرصهم في البقاء على قيد الحياة بنسبة تراوحت بين 40 و50 في المئة.
وقال الباحث المشارك في الدراسة البروفيسور لويس باريرو، من "جامعة شيكاغو" إن "الميزة الانتقائية المرتبطة بالجينة الوراثية المنتقاة من بين أقوى الميزات المسجلة على الإطلاق لدى البشر، والتي توضح كيف أن مرضاً واحداً يطرح هذا التأثير القوي في تطور جهاز المناعة."
على مر الزمن، أخذت أنظمتنا المناعية تتطور لتستجيب بطرائق مختلفة للكائنات المسببة للأمراض. إنها عملية حساسة تتطلب توازناً دقيقاً. بعض المتحورات تفاقم خطر الإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الروماتويدي.
لذا فإن ما كانت ذات يوم جينة وقائية ضد الطاعون في العصور الوسطى ترتبط اليوم بالاستعداد الأكبر للإصابة بهذا المرض أو ذاك.
يذكر أن مرض المناعة الذاتية يعزى إلى عجز في نظام الدفاع الطبيعي للجسم عن التمييز بين خلاياه والخلايا الدخيلة. هكذا، يهاجم الجسم نفسه من طريق الخطأ. وقد حدد العلماء حتى الآن ما يربو على 80 نوعاً من أمراض المناعة الذاتية التي تلحق الضرر بمجموعة واسعة من أعضاء الجسم.
والجدير بالذكر أن الطاعون أكثر الأوبئة فتكاً في تاريخ البشرية، إذ أودى بحياة ما يصل إلى 200 مليون شخص بين عامي 1346 و1353.
ظهر هذا الداء نتيجة بكتيريا "اليرسينية الطاعونية" Yersinia pestis التي نقلتها البراغيث، وانتشر في مختلف أنحاء أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حاصداً ما يصل إلى نصف السكان.
يشير ذلك قليلاً إلى تكيف مناعي مسبق مع الكائن الممرض. في حالات تفشي الطاعون الدبلي اللاحقة على مدى الأربعمئة عام التالية، تراجعت معدلات الوفيات.
ربما مرد ذلك إلى تغير في الممارسات الثقافية، أو تطور طرأ على العوامل الممرضة، أو صفات جينية مقاومة لدى البشر.
وجد الباحثون دليلاً يؤكد الانتقاء الإيجابي للطفرات في جينات متصلة بالمناعة في خضم "الموت الأسود" وبعده.
وحددوا 245 متحورة جينية بدت "شديدة التمايز" عند عقد مقارنة بين العينات المأخوذة من جثث ما قبل "الموت الأسود" وتلك التي تعود إلى ما بعد الجائحة من لندن، وقد تكررت أربع منها في المجموعة الدنماركية.
وكان انتقاء تلك المتحورات بسرعة وكثافة لم تسبق ملاحظتهما في الجينوم البشري.
ربما كان لدى الأفراد الذين حملوا بعضاً منها أو جميعها دفاعات مناعية استجابت بكفاءة لـ"اليرسينية الطاعونية"، ونتيجة لذلك، حظوا بفرص أفضل كثيراً للبقاء على قيد الحياة.
قال البروفيسور باريرو إن تلك المتحورات "مرتبطة بالحماية من (اليرسينية الطاعونية)، وتتداخل مع طفرات جينية متصلة بزيادة التعرض لأمراض المناعة الذاتية".
"يسلط ذلك الضوء على الدور الذي ربما أدته الجوائح الماضية في تشكيل أخطار الأمراض في الوقت الحاضر"، على ما جاء في كلمات البروفيسور باريرو.
عموماً، ما زال "الموت الأسود" يعتبر الحدث الذي حصد الوفيات البشرية الأكبر في التاريخ المسجل، إلى حد أنه أفضى إلى محو مجتمعات بحد ذاتها في بعض المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان.
ونجا من مقصلة الجائحة الأشخاص الذين حملوا نسختين متطابقتين من "إيراب 2" بمعدل أعلى كثيراً من أقرانهم في المجموعة المقابلة [العينات المقارنة].
في البداية، كان الأوروبيون الذين عاشوا في ذلك الوقت معرضين جداً للخطر لأنهم لم يكونوا انكشفوا أخيراً على "اليرسينية الطاعونية".
ومع موجات الجائحة التي حدثت مراراً وتكراراً على مدى القرون التالية، تراجعت معدلات الوفيات.
وأضاف البروفيسور بوينار "إن فهم الديناميكيات التي شكلت جهاز المناعة البشري يمثل المفتاح لفهم كيف أن الجوائح السابقة، على شاكلة الطاعون، تسهم في قابليتنا للإصابة بالأمراض في العصر الحديث"، كما ذكرت "ساوث ويست نيوز سيرفيس".
وخلاصة القول تفضي إلى أسئلة من غير جواب شاف: هل تحمينا جوائح الماضي من أوبئة الحاضر على رغم جعلنا عرضة لأمراض مناعية مزمنة أو داء السكري في أحوال أخرى؟ وهل تتناسل الأوبئة من بعضها وهي تكتب للبشرية النجاة منها؟ يبدو أن البشر غير سواسية أمام الأمراض والجوائح فكل إنسي يحمل في جيناته سمات قد تجعله أكثر هشاشة أو أكثر مناعة أمام الأمراض والفيروسات المستجدة.
ويشار أخيراً إلى أن الدراسة، التي نشرت في مجلة "نيتشر" العلمية، هي نتيجة عمل استمر سبع سنوات وألقى نظرة غير مسبوقة على الجينات المناعية لدى ضحايا "الموت الأسود".