لا تخلو حفلات الزواج أو "الختان" في الجزائر من نمط موسيقي يجذب المدعوين كما المارة و"المتطفلين"، ليس بسبب صخبها، بل لآلاتها المستخدمة والألبسة التي يرتديها أعضاء الفرقة، إنها "الزرنة" التي يختلف أداؤها من منطقة إلى أخرى كما تتنوع أصولها، غير أن الجميع يتفق على ضرورة حضورها الأفراح.
حضور فرقة "الزرنة" من ضروريات المناسبات السعيدة لدى العائلات الجزائرية، وسواء شاركت الموسيقى العصرية أو الشعبية تبقى "الزرناجية" كما يفضل السكان تسميتها، تصنع الحدث وهي علامة افتخار بالانتماء إلى السكان الأصليين للمدينة المعنية، وعلى رغم أن هذا النمط الموسيقي لا يتطلب آلات كثيرة وإنما قطعتين، إلا أن ما يثير الإعجاب طريقة الأداء ثم نوعية الطرب وأخيراً لباس أفرادها.
اسم "الزرنة" مستلهم من آلة "الصريانة" الهوائية الموسيقية ذات الأصل الفارسي، وهي تتألف من قصبتين أو مزمارين، تعمل بالنفخ بواسطة الفم، وتتميز بصوت عال، وتنتشر في شمال العراق وتركيا وأذربيجان وسوريا وإيران، وفي البلقان حيث تحمل اسم "زرلا"، لكن الفرقة التي تطرب المستمعين في الأفراح بالجزائر أضافت الطبل ليتم تشكيل ثنائي لا يفترقان، كما أدخلت قطع موسيقية أخرى من صنف المزامير والطبول.
نمط فريد وإيقاع خفيف
يقف أفراد الفرقة وهم بلباس جزائري تقليدي أصيل يتكون من طربوش على الرأس وقميصين الأول أبيض خفيف، والثاني فوقه يطلق عليه "السترة" أو "البدعية" بلون أحمر في كثير الأحيان مصنوع من قماش "القطيفة"، وسروال دائري معروف بـ"سروال عرب" أو "التستيفة"، حيث يطغى على قطع الألبسة تلك طرز بالخيط الذهبي، وفي القدمين حذاء تقليدي أو "البابوش" يكون في الغالب أبيض اللون.
النمط الموسيقي الذي تقدمه "الزرنة" يمزج بين صوت المزامير ودق الطبول، وهو إيقاع فريد خفيف مستلهم من التراث الجزائري العريق، وارتبط بالفنان "منصور بوعلام" المعروف بـ"بوعلام تيتيش" المولود سنة 1908، إذ لا يمكن تجاهل اسمه عند الحديث عن الموسيقى الشعبية، فهو مؤسس فرقة "الزرنة" في عاصمة البلاد، ولا يكاد يكون هناك طرب سواء في القاعات أو الشوارع أو الأفراح إلا ويذكر "تيتيش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول أستاذ التاريخ عبد المومن بوعلي لـ"اندبندنت عربية"، إن تاريخ ظهور "الزرنة" في الجزائر يعود إلى العهد العثماني، وكانت ذات طابع رسمي مخصص للدايات والملوك والطبقة البرجوازية في أوقات معينة، قبل أن تتحول إلى طابع اجتماعي ترافق جميع أفراد المجتمع دون استثناء، مشيراً إلى أن هذا الفن صمد منذ عشرات السنين لأن العائلات الجزائرية العريقة حرصت على توريثه جيلاً بعد جيل.
ويرى بوعلي، أنه في زمن الوجود العثماني بالجزائر، كانت نوبة "الزرناجي" التي تستمد أصولها من العصور القديمة، موسيقى خاصة بالدايات، ترافقهم خلال الاحتفالات الرسمية في القصر، وأثناء الاستقبالات والسهرات التي تنظمها حاشية السلطان، وحسب الروايات فإن التسمية جاءت من سيد علي زرناجي.
مكانة عسكرية
وأخذت "الزرنة" عقول الجزائريين وجعلتهم يطلقون شعراً ويتداولون أقوالاً، مثل "من لم تعزف الزرنة تحت شرفتها وهي تخرج عروساً من بيت أهلها لا تزال بكراً"، و"العرس للأهل والزرنة للجميع"، و"الزرنة هدية الجيران والناس"، و"الزرنة تبطل العين والحسد عن العرسان لأنها تلهي الجميع عن التركيز معهما والانشغال مع الفرقة"، وغيرها مما قيل عن هذه الموسيقى والفرقة.
وليست الحفلات وحدها من ترافقها "الزرنة"، لكن الاستعراضات العسكرية أيضاً، إذ تحضر خلال زيارات الرؤساء والملوك، وتعزف فرحاً وترحيباً بالضيف الذي حل بالجزائر، ما جعل الجهات المعنية تخصها بفرقة عسكرية دائمة كبقية الوحدات تقدم وصلات من هذا النمط الموسيقي، لكن بشكل عصري خلال المناسبات الوطنية والتاريخية.
يوضح رئيس فرقة "الزرنة"، بلقاسم بوتقة، أنه توارث هذا النمط الموسيقي أباً عن جد، حيث كان جده الذي يحمل الاسم نفسه يمارس هذا الفن الشعبي في الأعراس والحفلات منذ سنة 1890، ثم ورثه أبوه ليصل إليه ويصبح يحمل بدوره لقب "الزرناجي"، مشيراً إلى أنه منذ صغره كان يذهب مع أبيه إلى الأعراس وكان يعشق هذه الموسيقى، لا سيما الجو البهيج الذي تصنعه والفرحة التي ترسمها على وجوه المدعوين.
وقال إن "الزرنة" لا تزال مطلباً ملحاً في أعراس بعض العائلات، بل وتفضلها في كل مناسباتها، حيث تمتع الحضور بخفة إيقاعها وقدم أغانيها لأنها مستمدة من الفولكلور الجزائري.