"لا يوجد شيء أكثر فاعلية لمعرفة الحياة الثقافية للعرب من قراءة الصحف، بخاصة المجلات الأدبية التي مثلت دائماً مجالاً لا بديل عنه للمفكرين للتعبير عن أفكارهم". هكذا استهلت المستشرقة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو، تقديمها للترجمة العربية لكتاب "الغرب في الثقافة العربية من 1876 إلى 1935". الكتاب من تأليف ماريا آفينو، وترجمه عن الإيطالية إلى العربية حسين محمود ولمياء الشري (المركز القومي للترجمة – القاهرة). ولاحظت دافليتو أن نشر الأعمال الغربية مترجمة إلى العربية، أثَّر في الحياة الثقافية للعرب، مشيرة إلى أنه من خلال التحليل الدقيق لأربعة من أهم المجلات في فترة الإحياء والنهضة، قدمت لنا المؤلفة صورة بانورامية شاملة للحياة الثقافية لدول مثل مصر وسوريا ولبنان، في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وفي الواقع – تضيف دافليتو - عبَر مثقفو ذلك الوقت عن مصالح عالمية، وكانوا مهتمين بشكل خاص بما كتبه الأوروبيون؛ إذ كانوا يقرأون ويوثقون ويختارون الأعمال المراد ترجمتها، وحاولوا من خلال التقارير والمراجعات والملخصات وترجمات الأعمال الغربية الكبيرة نشر فكر "الآخر"، الذين كانوا يرغبون في مواجهته.
ورأت دافليتو أنه نتيجة لهذا الواقع الثقافي الجديد، انطلق نقاش حيوي بين المحافظين والمجددين وبين مؤيدي الحداثة والتقليديين، المعنيين بالتأثيرات الثقافية واللغوية، وأيضاً السياسية والاجتماعية للثقافة الغربية على العالم العربي. وأوضحت أنه إذا كان هناك ازدهار للمجلات السياسية والقومية والاجتماعية والثقافية في جميع أنحاء الشرق الأدنى، فإن هذا لا يرجع فحسب إلى الدور الكبير للترجمة، ولكنه يُعزى أيضاً إلى نشاط النشر مع ميلاد مئات من دور النشر، التي هدفت إلى تسليط الضوء على الأدب قومي، من خلال الترابط مع الآداب الأخرى، وبصورة خاصة مع روح أولئك الذين يتطلعون إلى المستقبل بحرية من دون تصورات مسبقة.
بيروت والقاهرة ودمشق
أما المؤلفة فقد لاحظت في مقدمة الكتاب أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، اكتسبت بيروت ثم القاهرة، وبشكل تدريجي، هويتهما بوصفهما مركزين للثقافة العربية، وأصبحت القاهرة، على وجه الخصوص، وبعد فترة طويلة من الركود الثقافي الذي استمر بداية من عام 1870، نقطة مرجعية للمثقفين من جميع أنحاء العالم، أو على الأقل العالم العربي الشرقي، وبدأت فترة مملوءة وغنية بالاختمار الثقافي والأدبي.
ومن أجل تتبع تطور الجدل القائم حول العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، والتي تطورت بفضل انتشار الأدب الغربي في العالم العربي، عمدت آفينو إلى فحص المجلات التي صدرت في منطقة الشرق الأوسط اعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر، واختارت هذه المنطقة؛ "لما مارسته من تأثير لا شك فيه على النهضة العربية، والتي انطلقت من هناك وعمَّت بعد ذلك سائر أنحاء الشرق العربي"، بحسب ما ذكرته في مقدمتها للكتاب. أما دور المناطق الأخرى فقد "اقترب من الصفر، أو كان مقتصراً على جهود فردية لمفكرين التقطتهم صحف مصر أو لبنان". وراعت المؤلفة اختيار المجلات "القادرة على توفير رؤية أوسع لحالة الثقافة القومية العربية وتطلعات المثقفين العرب في تلك السنوات". وتحقيقاً لهذه الغاية، لم يؤخذ في الاعتبار "سوى بعض الدوريات الأكثر ثقة، والتي لم تعبر بشكل ما عن وجهة النظر الرسمية لكل اتجاه وتوجه فكري فحسب، لكنها تركت المجال لجميع القوى الموجودة على الساحة".
أربع مجلات
وهذه الدوريات هي: "الهلال" (ما زالت تصدر حتى اليوم)، "المقتطف"، "الجامعة"، و"المقتبس". ولاحظت المؤلفة أن الدوريات الثلاث الأولى حاولت تقديم رؤية واسعة ومفصلة للمشهد الثقافي في السنوات التي حدَّدتها الدراسة. وأوضحت أن تلك المجلات اكتسبت مكانة كبيرة في المجال الأدبي بحيث يتاح للباحث من خلال فحصها أن يفهم توجهات الثقافة العربية خلال فترة النهضة. وظلت جريدة "المقتطف" التي تأسست عام 1876، كما لاحظ الباحث راؤول مكاريوس "المجلة الثقافية العربية الأولى على مدار ثلاثة أرباع القرن". ثم أصبحت "الهلال" التي تأسست عام 1892 نقطة مرجعية للمثقفين في المنطقة، حيث وجدوا فيها مكاناً جاهزاً للترحيب بأفكارهم، وعلى رغم عدم تمتع جريدة "الجامعة" 1899، بحياة طويلة مثل "المقتطف" و"الهلال"، إلا أنها أظهرت خلال عمرها الذي لم يتجاوز العشر سنوات، اهتماماً كبيراً بالأدب والثقافة الأوروبية، الأمر الذي جعل من فرح أنطون (مؤسسها) رائداً لنشر الثقافة الغربية في العالم العربي، وهو فضلٌ اعترف به بعض المهتمين، وأنكره بعضهم الآخر. لذلك تم تحليل مجلة "الجامعة" باعتبارها "عملاً جديراً بالثناء قام بالترويج للمجال الأدبي". أما في ما يتعلق بـ "المقتبس"، فقد كان اختيارها "إلزامياً بطريقة معينة"، بحسب وصف المؤلفة التي لاحظت أنها "كانت المجلة المرموقة الوحيدة، وإن لم تكن المجلة الوحيدة بشكل مطلق التي تنشر في دمشق في تلك السنوات. لذلك تمت دراستها لأنها – كما تقول آفينو- كانت تحمل صوت المثقفين في المنطقة السورية اللبنانية في أوائل القرن العشرين.
بانوراما ردود الأفعال
وتقدم المجلات المختارة صورة شاملة إلى حد ما لما كان عليه نشر الأدب الغربي في العالم العربي، بخاصة لأنها ظهرت في هذا السياق، "لتكون أكثر انفتاحاً وسرعة لجهة تقديم المستجدات الناشئة من الخارج مقارنة بالمجلات الأخرى". وفي الوقت ذاته تقدم لنا هذه المجلات بانوراما أكثر وضوحاً لردود الأفعال التي أثارها هذا النشر (وبخاصة حركة الترجمة) في الأوساط الثقافية في تلك السنوات، مفسحة المجال للمحافظين ومؤيدي الحداثة للتعبير عن أفكارهم. وكان لإدخال أنواع أدبية جديدة (الرواية والقصة والمسرح) مختلفة عن الأنواع التقليدية، آثارٌ دقيقة على اللغة. ومن ثم فتحت الحركة الهائلة للترجمة العلمية والأدبية نقاشاً حول الحاجة إلى صياغة كلمات جديدة وتحديث اللغة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاءت الدراسة في ستة فصول: "لقاء الشرق والغرب في القرن التاسع عشر"، "المجلات الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين"، "نشر الأدب الغربي"، "ترجمات الأعمال الغربية في المجلات الأدبية"، "ترجمة وتطور اللغة العربية"، و"الترجمة في النقاش الفكري". ولاحظت المؤلفة أن عدداً كبيراً من الأعمال الغربية المترجمة والمقترحة على الجمهور من خلال النشر العربي، إلى جانب الاهتمام المتزايد بالأدب الأوروبي، أثارت ردود أفعال بعض المثقفين والكتاب الذين أظهروا خوفاً عميقاً من هذه الظاهرة التي عرفت من خلال بعضهم بـ "التفرنج" والذي كان سينتهي بحرمان الثقافة العربية من هويتها الخاصة، والأمر الخطير فيه هو وجود أنواع أدبية كلاسيكية، وفي مقدمتها الشعر، يتم التعبير فيها عن الطبيعة الأصيلة للعرب.
مناقشات حيوية
في جميع المجلات المختارة، وبصورة خاصة في "الهلال"، كانت المناقشات حيوية بين أعضاء المجموعتين اللتين كانت تهيمنان على المشهد الثقافي في ذلك الوقت، وهما: الحداثيون أو المجددون، والمحافظون. وكانت علاقة الثقافة القومية مع الغرب قيد المناقشة دائماً، "كما كانت طرق وخصائص وحدود التأثير بالنسبة إلى الحداثيين شرعية تماماً، بل كانت مرغوبة حقاً لدعم تطور الأدب العربي، بينما كان المحافظون يرفضون ذلك". كان مصطفى صادق الرافعي من أولئك الذين عارضوا بشدة الأطروحات التي صاغها سلامة موسى عن الطبيعة الغربية للعرب والعلاقة العميقة بين الثقافتين العربية والغربية. وتدخل طه حسين غير مرة للتحذير من تجاوزات الرافعي إزاء الحضارة الغربية. وفي عام 1922، أكد اللبناني أنيس المقدسي وجود حضارتين متميزتين وقام بتحليل العناصر المميزة لكل منهما. واعتمدت الحضارة الغربية في تصور المقدسي على ثلاثة أركان هي: العلم والنظام الاقتصادي، وروح التعاون، وكان هذا العامل الأخير هو الذي "ضمن نتائج رائعة للغربيين: لقد تعاونوا مع بعضهم البعض في ضوء الأهداف التي حددوها لأنفسهم، وهذا أعطاهم سبيلاً للتقدم". وكانت الحضارة الشرقية، بحسب المقدسي تقوم على "المدنية الروحانية التي لم تنشأ على مبادئ المادة، بل ظهرت وامتدت وسمت بالعواطف وسادت على العالمين بالدين" (ص243). بينما فضَّل منصور فهمي، بدلاً من الحديث عن الشعوب، تقسيم البشرية إلى مجموعتين: شرقية وغربية. وأصرَّ فيليب حتي عام 1925 على وجود حضارة شرقية وأخرى غربية، ونفى وجود اختلاف بيولوجي أو فطري، كما ادعى بعض الغربيين (من بينهم ألفريد تينيسون وروديارد كيبلينغ) "من أجل تبرير نظرياتهم العنصرية وإضفاء الشرعية على السياسة الإمبريالية للقوى الغربية".
نعيمة والبستاني وزيدان
ومن جانبه اعتبر ميخائيل نعيمة أن "العلامة على الجهل المطلق تتمثل في الرغبة في البحث عما ينقص الإنسان الذي يطمح إلى الكمال. الشرق فقط هو من له القدرة على تحديد هذا الهدف النبيل المسبوق الذي يدعو إليه جميع البشر". وعلى رغم أن نعيمة محسوب ضمن الحداثيين، إلا أنه تبنى الموقف الأكثر نقداً للغرب؛ "الذي يقوم وجوده على أساس بحث عقلاني وعلمي، ليست لديه حقيقة لتعليم الشرق، ولكن فقط تخمينات صالحة لفترة زمنية محدودة، حتى يتم استبدالها بتخمينات علمية أخرى، حيث أن الشرق هو مستودع الحقيقة، لأنه أسس وجوده على الإيمان الديني". أما جورجي زيدان فقد أكد أن ترجمة سليمان البستاني للإلياذة إلى اللغة العربية ضمنت ما أسماه "النهضة الأخيرة"، في سياق نهضات سابقة حققها العالم العربي.
ويبدو أن البستاني مع هذه الترجمة كان يلبي رغبات العديد من المثقفين العرب في تلك السنوات، الذين كانوا مؤمنين بأن حركة الترجمة الحديثة كانت لها مهمة ملء الفراغ الذي تركه مترجمو العصر العباسي، "الذين تجاهلوا التراث الأدبي اليوناني الكبير". وزيدان نفسه، يسرد في مقال نشر عام 1896 الكتب الغربية التي اعتبرها ثمينة، والتي تضمن ترجمتها المزيد من الإثراء للأدب العربي، وتضمنت بالتحديد رائعة هوميروس الذي أطلق عليه زيدان وصف "أستاذ جميع الشعراء". ورأى زيدان أن ترجمة عيون الشعر الغربي من شأنها أن تضمن مزيداً من التألق والازدهار لفن الشعر، وبخاصة الملحمي منه، ويمنح حياة جديدة للقصيدة العربية بفضل الأغراض الجديدة الأصيلة التي ستدخل عليها، معتبراً أن الهدف الأهم بالنسبة إليه هو "المعرفة التي يمكن اكتسابها من خلال هذا الشعر، المعرفة بعادات الأمم التي ولد هذا الشعر من رحمها، وتراثها وأحوالها التاريخية والجغرافية".
طه حسين وسلامة موسى
وعندما قارن طه حسين بين الحضارة اليونانية والثقافة العربية الجاهلية، لاحظ أنه في كلتا الحالتين كان هناك دور أساسي يلعبه الشعر والشعراء، من حيث تأهيل دولهم للتقدم والتطور الفكري الذي حدث تباعاً من خلال تحفيز النشاط العقلاني. ورأى سلامة موسى في تراث اليونان الثقافي سر تفوق الغربيين في جميع القطاعات، وفي كل مظهر من مظاهر الروح الإنسانية. لقد كانت دراسة اليونانيين هي التي غرست في الغرب حب البحث في الأدب والعلوم والدين الذي دفعهم لتحرير أنفسهم من الثقافة العقائدية التي ظهرت في العصور الوسطى. سمحت لهم حرية النقد أيضاً بتحرير أنفسهم من خرافات الماضي، والتمرد على الروابط التي فرضتها القوة الدينية على البحث والعودة إلى اعتبار الإنسان مقياساً لكل شيء.
وخلص سلامة موسى إلى أن دراسة النصوص اليونانية الكلاسيكية "هي وحدها التي ستعطي الإنسان العربي الشعور بكرامته، وهو ما لم يسبق له مثيل في العصور القديمة، وسيؤدي به إلى تأكيد حقه في الحرية في جميع المجالات، الحرية التي كانت الفرضية التي لا غنى عنها لتقدم المجتمع". كانت النتيجة الثورية - تقول المؤلفة - التي لا مفرَّ منها بالنظر إلى الافتراضات التي توصل إليها سلامة موسى، أنه إذا أراد المرء أن ينشئ أدباً عربياً حديثاً بنفس أهمية الأدب الأوروبي، يجب بناؤه على الأدب اليوناني، مع نبذ الارتباط بالثقافة العربية الكلاسيكية"! بالنسبة إلى موسى أيضاً فقد كان حتمياً إقامة مثل هذه العلاقة مع الثقافة اليونانية، بحيث يمكن استخدامها أساساً لبناء الثقافة العربية الحديثة.