بعد أقل من شهر على تسلمها مقاليد السلطة، تثير حكومة "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران بقيادة محمد شياع السوداني عديداً من علامات الاستفهام، ففي حين يعتقد متابعون أنها ستمثل منصة لبدء ربيع جديد للفصائل المسلحة يضخم بشكل أكبر من نفوذها في العراق، يرى آخرون أن تلك الجماعات تسيطر منذ سنوات طويلة على غالب مفاصل النظام في البلاد.
بدأ نفوذ الميليشيات الموالية لإيران في التنامي بشكل أكثر صراحة وقوة بعد إنشاء ما يطلق عليه بـ"قوات الحشد الشعبي" عام 2014 لمواجهة تنظيم "داعش"، لكن نفوذ تلك الفصائل توسع بشكل كبير وأدى في النهاية إلى سيطرتهم على مساحات كبيرة في الجغرافيا السنية في البلاد، وتكوين جهاز أمني مواز لسلطة الدولة مثل الواجهة الرئيسة لتوسيع نفوذ طهران في البلاد بشكل عام.
وتتهم الميليشيات المنضوية تحت لواء "الحشد الشعبي" بأنها الذراع الأبرز في قمع أي احتجاجات بالضد من النفوذ الإيراني كما حصل في انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فضلاً عن تمكنهم من السيطرة على كثير من مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى لحظة فرض إرادتهم السياسية بعد انتخابات عام 2018 من خلال وصول رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي إلى السلطة.
ومثلت حقبة عبدالمهدي ما بات يطلق عليه بـ"ربيع نفوذ الميليشيات الموالية لإيران" نتيجة إطلاقه يد تلك الميليشيات في معظم مفاصل الدولة وتحديداً منافذ الاقتصاد والأمن.
بروباغاندا دعائية وتخويف للرأي العام
خلال السنوات العشر الأخيرة، مكن الحضور المسلح الواسع للميليشيات الولائية أحزابها السياسية من السيطرة على مفاصل اقتصادية مهمة، فضلاً عن المناصب الأمنية والسياسية، فيما يرى مراقبون أن الحديث عن "ربيع جديد للميليشيات" يمثل بروباغاندا دعائية تنتهجها طهران لعدم تحميل أتباعها مسؤولية إخفاقات السنوات الماضية على رغم سيطرتهم على ملفات الأمن والسياسة والاقتصاد منذ السنوات الأولى للغزو الأميركي عام 2003.
يعتقد الكاتب والصحافي محمد حبيب أن هذه القراءات والإيحاءات في شأن السيطرة التامة للميليشيات خلال المرحلة المقبلة "تبدو متأثرة بشكل واضح بالبروباغاندا الإيرانية، إذ تسيطر الفصائل المسلحة منذ عشرين عاماً على كل شيء"، مبيناً أن طهران "تسيطر على غالبية الأجهزة الأمنية والاستخباراتية منذ إنشاء النظام السياسي الحالي، فضلاً عن إنشائهم أجهزة أمنية موازية كالحشد الشعبي والأمن الوطني، والسيطرة شبه التامة على القرارات الأمنية والعسكرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف حبيب لـ"اندبندنت عربية" أن حكومة "الإطار" "لن تقدم جديداً فوق الواقع السياسي والأمني الذي تسيطر عليه من الأساس"، مردفاً أنها ستعمل على "تهدئة العراقيين بشكل موقت من خلال استثمار الفائض المالي في خلق مزيد من التعيينات الحكومية وإتخام الجهاز الإداري المترهل أساساً بعدد إضافي من الموظفين".
ويتوقع حبيب أن تكون سياسة "الهروب إلى الأمام" هي السائدة على إجراءات حكومة "الإطار"، مؤكداً عدم وجود "أية ملامح لإجراء إصلاح اقتصادي حقيقي سوى خلق مزيد من التعيينات في أجهزة الدولة".
ويلفت حبيب إلى إمكانية أن تكون غاية الحديث عن سيطرة الفصائل المسلحة على أجهزة الأمن هي "حملة تخويف للرأي العام خصوصاً بعد ارتكابهم المجازر في حق المتظاهرين في أكتوبر 2019"، مبيناً أنه "حتى الآن لا يمكن فهم ما الذي تعنيه زيادة سيطرة الفصائل على الدولة، وما الذي سيسيطرون عليه أكثر مما سيطروا عليه في فترتي عبدالمهدي وحتى الكاظمي".
سيطرة مستمرة على الاقتصاد
لا يبدو الحديث عن الملف الاقتصادي والاستثماري مختلفاً، إذ تحكم الجماعات والأحزاب الموالية لإيران سيطرتها على هذا الملف منذ سنوات طويلة، وهو الأمر الذي يبدو واضحاً بالنسبة إلى العراقيين، ويعتقد حبيب أن مساحة النفوذ الاقتصادي لتلك الجماعات "وصلت إلى حدود التدخل بشكل مباشر في أي نشاط تجاري بسيط، واحتمالات الاستهداف المباشر لأي مصالح لا تتعامل مع الميليشيات".
وفي كل مرة يحاول فيها العراق إبرام أية تفاهمات اقتصادية أو استثمارية مع دول غير إيران خلال السنوات الماضية كانت الأحزاب والجماعات الموالية لإيران تواجهها باتهامات تؤدي في النهاية إلى عرقلتها.
وكانت الجماعات الموالية لإيران قد استنفرت في مواجهة إعلان الحكومة العراقية إحراز تقدم في مجال استثمار الرياض بمشاريع زراعية داخل العراق، بعد تخصيصها أراضي ضمن بادية محافظة المثنى جنوب البلاد لاستثمارات المملكة الزراعية.
وقادت شخصيات من "الصف الأول" الموالية لإيران حملة واسعة ضد الاستثمارات السعودية في أكتوبر 2020، ففي حين وصف ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي المشروع بأن له "أهدافاً استعمارية لها تداعيات خطيرة على أمن وسيادة البلاد"، وجه زعيم ميليشيات "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي اتهامات للرياض بالتخطيط للاستيلاء على أراض عراقية.
ومنذ سنوات يصف متخصصون في الاقتصاد العراق بأنه يمثل الرئة الاقتصادية التي تعتاش عليها طهران في ظل العقوبات المفروضة عليها، إضافة إلى استشعار صانعي القرار في إيران خطر أن تمثل أية مصالح اقتصادية عربية في العراق بوابة لربطه بشبكة مصالح مع دول مؤثرة إقليمياً ودولياً.
وكان تقرير لصحيفة "المونيتور" الأميركية أشار في 31 أكتوبر 2020، إلى أن الشركات الأجنبية العاملة في العراق تعاني بشكل متكرر ضغط جماعات مسلحة وأخرى عشائرية حتى في مشاريع بناء أضرحة دينية.
وتابع التقرير أن "المستثمرين العراقيين والأجانب يواجهون مطالبات بالتعويض من ميليشيات وعشائر مسلحة في العراق، ويختار معظمهم الانسحاب خوفاً من الانتقام العنيف إذا لم يلبوا المطالب، إذ علق أكثر من ستة آلاف مشروع بين عامي 2008 و2019".
إعادة تفعيل التوافق الأميركي - الإيراني
يرى الكاتب والباحث مصطفى ناصر أن المرحلة الحالية في العراق ستمثل محاولة "تصفير حقبة عبدالمهدي وما رافقها من إشكالات، والعمل على إعادة تفعيل التوافقات الأميركية - الإيرانية في الأجواء السياسية العراقية".
على رغم وصول أكثر الأجنحة المسلحة تطرفاً إلى السلطة من خلال "الإطار التنسيقي"، يعتقد ناصر أن تلك الأطراف ستعمل بشكل واضح على "عدم استفزاز واشنطن لطمأنة الداعمين الغربيين لحكومة السوداني"، مبيناً أن جهود الأطراف الموالية لإيران ستنصب خلال المرحلة المقبلة على "إعادة التموضع وترميم وجودهم في الأجواء السياسية مرة أخرى".
وتواجه عملية إعادة ترميم الوجود السياسي للميليشيات المسلحة بعد انتفاضة تشرين وتصاعد موجة الغضب الشعبي بالضد منها مصاعب عدة، أبرزها احتمالات انطلاق موجات احتجاجية جديدة إضافة إلى النقمة الكبيرة لدى أتباع التيار الصدري، والتي ربما تمثل أبرز التحديات التي ستواجه حكومة "الإطار".
ويرى مراقبون أن تركيز "الإطار التنسيقي" سينصب خلال المرحلة المقبلة على إضعاف التيار الصدري الذي يمثل المنافس الرئيس لتلك القوى، خصوصاً أنها لم تكن لتتمكن من تشكيل الحكومة لولا استقالة نواب الكتلة الصدرية.
ولا تود الأطراف الموالية لإيران تكرار تجربة الانتخابات السابقة مرة أخرى، وهو ما سيدفعها، بحسب ناصر، إلى العمل على "تغيير القانون الانتخابي ومفوضية الانتخابات، إضافة إلى محاولة إقصاء أي وجود لأفراد التيار الصدري في مفاصل الدولة قبل خوض أية انتخابات جديدة".
على رغم التصورات بأن حقبة السوداني ستمثل منصة لسطوة الميليشيات بشكل كامل على الدولة العراقية، يشير ناصر إلى أن "التفاهمات الجارية بين واشنطن والحكومة الجديدة قد تقلل نوعاً ما من حدة تلك السطوة".
ويختم بأن العنوان الرئيس للمرحلة المقبلة سيتمثل بـ"محاولة إعادة تدوير الكتل الموالية لإيران وإعادة تسويقها شعبياً، ومن ثم التمهيد للمرحلة الثانية التي تمثل الانقضاض بشكل أكبر على الدولة".
ثلاثة مسارات للسيطرة
تمثل الحكومة الحالية عنواناً صريحاً للكتل الموالية لإيران، بخاصة أن "الإطار التنسيقي" يمثل الكتلة الكبرى في البرلمان العراقي، وهو الأمر الذي يدفع عديداً من المتابعين إلى توقع أن يتم استثمارها إلى الحد الأقصى من قبل الأحزاب والميليشيات الولائية.
على رغم التخوفات لدى الجماعات الموالية لإيران من الاصطدام بالرغبات الدولية التي أبدت دعمها الحكومة الحالية، فإن المرحلة المقبلة ستمثل -إلى حد ما- ربيعاً إضافياً لتلك الجماعات التي تضخم نفوذها منذ عام 2014.
ويعتقد الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن تلك الفصائل ستعمل على "استثمار حكومة السوداني إلى أقصى مدى"، مبيناً أن "قوى الإطار التنسيقي باتت تدرك أنها تتعامل مع الفرصة الأخيرة أمام الإرادة الدولية".
ولعل الدعم الدولي الكبير الذي تحظى به حكومة السوداني سيدفعها بشكل كبير إلى "العمل على التهدئة خصوصاً مع حال العزلة الجماهيرية التي تعانيها فضلاً عن الترقب الدولي لأدائها خلال المرحلة المقبلة"، بحسب الشريفي.
على رغم ذلك، يعتقد الشريفي أن "بوادر التحول في الأداء على المستوى التنفيذي لا تبدو حاضرة، خصوصاً مع إعادة تدوير الوجوه ذاتها في مؤسسات الدولة وانتهاج مبدأ المحاصصة من جديد".
ويشير إلى ثلاثة مسارات ستعمل من خلالها الجماعات الموالية لإيران على تعزيز سلطتها وسيطرتها على الرأي العراقي وهي مفاصل "السلاح والمال والإعلام"، مبيناً أن "الإطار سيحاول إحكام قبضته على تلك المفاصل الثلاثة التي تسهم في السيطرة على الرأي العام العراقي".
ويتابع أن قوى "الإطار التنسيقي" "أعادت إدارة الملف الأمني إلى الهيمنة الإيرانية والتركية، حيث إن وزارة الداخلية لا تزال تدور في فلك إيران، أما وزارة الدفاع فهي من حصة الكتل الموالية لتركيا".
وفي شأن السلاح المتفلت، يعتقد الشريفي أن "أركان هذا السلاح تمثل مفاصل رئيسة لدى داعمي الحكومة الحالية، وهو الأمر الذي يجعل حكومة السوداني بلا خيارات واضحة إزاء هذا الملف".
وفي سياق الإعلام، يرجح الشريفي أن "تتصاعد فاعلية الإعلام الإيراني الممول عراقياً خلال الفترة المقبلة، خصوصاً مع احتمالات تضخم وسائل التمويل بالنسبة إلى تلك المنصات".
ولعل المفارقة التي تدعو إلى القلق، كما يعبر الشريفي تتعلق بـ"انسياق الإرادة الدولية من خلال المبعوثة الأممية مع هذا المشروع والإعلان الضمني عن دعمها له من دون الالتفات إلى إصدار أية توجيهات".
تغييرات تثير المخاوف
إضافة إلى سيطرة "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران على نحو نصف التشكيلة الحكومية، تشير سلسلة التغييرات التي أجراها مكتب السوداني إلى توجه واضح لتمكين الأذرع المسلحة بشكل متصاعد.
وكان السوداني عين في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الصحافي ربيع نادر مديراً لمكتبه الإعلامي، وهو ما وصفه تقرير صادر عن معهد واشنطن للدراسات بأنه "قد يعرض مكتب رئيس الوزراء لخطر العقوبات المحتملة".
وأشار التقرير إلى أن "لدى ربيع نادر تاريخ طويل في العمل مع (كتائب حزب الله) و(عصائب أهل الحق) اللتين صنفتهما الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب".
وتابع التقرير أن "نادر يرتبط بميليشيات شيعية عدة مدعومة من إيران، وعمل في وسائل إعلام مختلفة تابعة للميليشيات، أبرزها (قناة الاتجاه) التابعة لجماعة (كتائب حزب الله)، و(قناة العهد) التي تديرها (عصائب أهل الحق)".
ولفت التقرير إلى أنه "لا ينبغي أن تنخدع الحكومات الغربية بقبول الفكرة القائلة إن مديري المحتوى في قناتين تابعتين لـ(كتائب حزب الله) و(عصائب أهل الحق) هم مجرد تكنوقراط إعلاميون يقومون بوظائفهم"، مبيناً أنهم "يخضعون للتدقيق الأمني الشخصي من قبل (الحرس الثوري)، ويتم اختيارهم بشكل عام على أساس التقارب الأيديولوجي المعلن مع هذه المنظمات".
وتصاعدت في الفترة الأخيرة المطالبات من منصات وإعلاميين موالين لإيران بإعادة القادة الأمنيين المقربين من الميليشيات الذين تمت إقالتهم خلال السنتين الأخيرتين إلى مناصبهم من جديد، فضلاً عن التسريبات التي تتحدث عن الصراعات الداخلية بين الفصائل المسلحة على المناصب الرفيعة في الأجهزة الأمنية وعلى رأسها جهازا الأمن الوطني والاستخبارات.
وتبرر أوساط الميليشيات التغييرات التي أجراها السوداني في مناصب الدولة بأنها تهدف إلى "تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في فترة حكومة تصريف الأعمال برئاسة الكاظمي".