مع إعلان الجانب الروسي أن مصر ستستقبل مفاوضات ستارت الجديدة بين الجانبين الروسي والأميركي، فإن السؤال المطروح لماذا مصر؟ ولماذا في هذا التوقيت تبدأ مفاوضات أميركية - روسية، في ظل تطورات عدة جارية في مسار ما يجري بين روسيا وأوكرانيا؟
ومع تأكيد أن وجود تفاوض جاد بين روسيا وأوكرانيا سوف يكون أمراً في صالح الطرفين وفي صالح جميع دول العالم، بخاصة أن الجانبين في حال إنهاك شديدة في هذه الفترة، وقد تزامن ذلك مع انخراط مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، في محادثات سرية مع مستشار السياسة الخارجية لبوتين يوري أوشاكوف، وكذلك مع نظيره المباشر في الحكومة الروسية نيكولاي باتروشيف.
تفسيرات مباشرة
إن اختيار القاهرة يعكس قبولاً روسياً وأميركياً، بخاصة أن العلاقات الأميركية - المصرية تتطور في اتجاهات جيدة عكستها مشاركة الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة شرم الشيخ للتغيرات المناخية، وحضور نانسي بيلوسي ووفد أميركي كبير، والتصريحات الإيجابية التي أطلقها المسؤولون الأميركيون بدءاً من الرئيس بايدن، ومستشاره للأمن القومي جاك سوليفان وجون كيري وغيرهم.
وعلى رغم أن الإدارة الأميركية اقتطعت 75 مليون دولار من المساعدات العسكرية لعدم استيفاء مصر المتطلبات للحصول على كامل المساعدات، وفي خلفية ما جرى في موضوع الناشط السياسي علاء عبدالفتاح وغيره، فإنه من الواضح أن تيار وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون والمؤيد والداعم الموقف المصري، الذي يرى أهمية العلاقات مع مصر، ويراهن دائماً عليها على أنها ركيزة الاستقرار في الإقليم، لم ينجح في صرف كامل المساعدات العسكرية المستحقة لمصر على رغم أنه نجح في زيادتها للأردن، ولإسرائيل أخيراً.
وتتعامل روسيا مع مصر انطلاقاً من ثوابت العلاقات المستقرة، وعلى رغم أن موسكو ترى أن تحسن العلاقات الأميركية مع مصر يجعلها دائماً في موقف الثاني أو المنتظر البديل، وهو ما يزعج الجانب الروسي، وإن كانت موسكو ترى أن القاهرة تحركت في اتجاهات إيجابية، واستقبلت وزير خارجيتها لافروف. ومن القاهرة نجح المسؤول الروسي في نقل رسائل مهمة، وأن القاهرة لا تزال ترى في علاقاتها مع موسكو أهمية كبيرة، وأنها لن تتخلى عن حدود الشراكة على رغم تصريحات الرئيس جو بايدن حول موقف مصر من الأزمة الروسية - الأوكرانية.
الجانب الروسي يتعامل مع مصر انطلاقاً من حسابات محددة، ومتوافق عليها مع تأكيد أن الدولة المصرية تلعب دوراً استراتيجياً مهماً للغاية في ما يتعلق بالسياسة الأميركية في المنطقة، وأن مصر تتمتع بموقع جغرافي مميز ولديها قناة السويس، التي تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية شرياناً أساسياً للتجارة ولأشياء أخرى.
دلالات معينة
إن عقد المفاوضات بين واشنطن وموسكو في القاهرة يعكس عوامل عدة مهمة، أهمها حرص الجانبين، على رغم كل ما يجري من تجاذب على استمرار الحوار المشترك، ومنع أي تدهور قد يطرح في مسارات العلاقات الراهنة، بل ويدفع بقوة إلى خيارات بديلة ممتدة، ومن ثم فإن الجانبين تلقفا الدعوة المصرية بإمكانية قيام مصر بدور في المواجهة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما تعامل معه الجانبان بسرعة.
والمؤكد أن القاهرة أجرت قبل وبعد الدعوة المصرية دوراً في ما يجري، وصحيح أن الهدف كان مفاوضات إنهاء الحرب الدائرة، لكن الحوار بين البلدين إن جرى في سياقه الاستراتيجي، وعلى ملف ستارت الجديدة فقد يؤدي إلى انفراج المشهد السياسي واحتمالات دخول الجانبين في مفاوضات بشأن أوكرانيا في ظل ما يتردد بالضغط الأميركي على أوكرانيا بقبول التفاوض، والدخول في مرحلة التفاهمات.
وعلى رغم إنكار الإدارة الأميركية بأن القرار في يد أوكرانيا، وليس في يد واشنطن، فإن الأمر مرتبط أيضاً بضغوط أوروبية مطروحة في هذا الاتجاه، بل وانقسام الإدارة الأميركية حول استمرار الحرب، ومطالبة رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي مارك ميل بضرورة الاستماع إلى صوت التفاوض ووقف الحرب، وقبلها زار مستشار الأمن القومي جاك سوليفان كييف، وأجرى اتصالات سياسية مع المسؤولين حول فرص الدعم السياسي والعسكري، بخاصة أن الولايات المتحدة لا تزال مرتبكة في تقديم المتطلبات العسكرية لأوكرانيا، على رغم أنها قدمت طلبات محددة للجانب الأوكراني، ومن دون تهديد الأمن القومي الروسي، وإلا باتت طرفاً في المواجهة الراهنة.
ومن ثم فإن التفاوض حول ستارت الجديدة في القاهرة قد يفتح الباب أمام نجاحات مشابهة في تخفيف إن لم يكن التفاوض حول ملف الحرب الروسية - الأوكرانية، ويذكر أن الرئيس جو بايدن كان قد أوقف الحوار مع موسكو على خلفية العمليات العسكرية لروسيا في أوكرانيا، وعلى رغم استمرار فرض العقوبات الغربية على روسيا.
إطار التفاوض
سيكون تمثيل الجانب الروسي على مستوى نائب مدير إدارة منع انتشار الأسلحة النووية بالخارجية الروسية فلاديمير ليونتيف، وستتناول استئناف عملية التفتيش في المواقع وبما يمنح الطرفين القدرة على الاستمرار بالالتزام بنصوص المعاهدة التاريخية، وبالتأكيد سيرتبط ذلك بأن روسيا والولايات المتحدة قد تصبحان من دون معاهدة للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية في عام 2026، إذا استمر الوضع الراهن في الافتقار إلى الاتصالات على أعلى مستوى.
والواقع أن مفاوضات القاهرة قد تكون استكشافية لما هو آت من تفاصيل، بخاصة أن التمديد أو الطرح الجديد أو الممتد سيستغرق كثيراً من الوقت، فالأمر معقد للغاية، بالتالي فإنه كلما بدأت المفاوضات مبكراً زادت الفرصة للتوصل إلى اتفاق ثنائي قبل عام 2026، بخاصة إذا اعتبرنا أن معاهدة ستارت 3 امتداد لمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية ستارت 1، التي جرى توقيعها في موسكو عام 1991. ويشار إلى أن المفاوضات الخاصة بالأسلحة النووية بين البلدين قد جمدت بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
خلفية للمستقبل
إن استئناف المفاوضات النووية في القاهرة ليس معناه تقديم تنازل أميركي للجانب الروسي، بخاصة أن التلويح الروسي باستخدام النووي قد يؤدي إلى مساحات من التجاذب في الرؤى، وهو ما لا تستطيع واشنطن منعه أو وقفه، إذ تحدد ستارت الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2011 عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية التي يمكن للولايات المتحدة وروسيا نشرها، إضافة إلى الصواريخ والقنابل القادرة على حمل رؤوس نووية في البر والغواصات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان الرئيسان جو بايدن وبوتين اتفقا على تمديد المعاهدة لمنع خمس سنوات إضافية لتمتد إلى عام 2026، وكان الكرملين أعلن أن البلدين تبادلا مذكرتين حول التوصل إلى اتفاق بشأن تمديد معاهدة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لخمس سنوات، وكان مجلسا الدوما والاتحاد الشيوخ الروسيان وافقا على تمديد المعاهدة، وجرى التوقيع على ستارت أو نيو ستارت من قبل رئيسي روسيا والولايات المتحدة السابقين، ديمتري ميدفيديف وباراك أوباما في الثامن من أبريل (نيسان) 2010 في براغ. وبدأ الخبراء في تطوير نص المعاهدة بعد اجتماع الرئيسين السابقين في لندن في الأول من أبريل 2009. وانتهت المفاوضات بعد عام بتوقيع الوثيقة، ثم عرضت المعاهدة للتصديق عليها في مايو 2010.
وتمنح معاهدة ستارت 3 كلا الجانبين الحق في إجراء عمليات تفتيش منسقة على الأسلحة الاستراتيجية للطرف الآخر في مكان وجودها، في قواعد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وقواعد الغواصات، والقواعد الجوية. وهناك 18 عملية تفتيش سنوية من نوعين.
وسيتم إجراء عمليات التفتيش من النوع الأول في المنشآت التي تحتوي على أسلحة هجومية استراتيجية منتشرة: قواعد الصواريخ الأرضية العابرة للقارات، وقواعد الانتشار على الغواصات النووية المزودة بصواريخ بالستية عابرة للقارات، وقواعد جوية استراتيجية للطيران. وتجري عمليات التفتيش من النوع الثاني في أماكن تحميل الصواريخ وإصلاحها وتخزينها.
وينص بروتوكول الاتفاق على أنه يمكن لكل جانب إجراء ما يصل إلى 10 عمليات تفتيش من النوع الأول، وثماني عمليات تفتيش من النوع الثاني. وتقيد المعاهدة كل دولة بحد أقصى 1550 رأس حربية نووية، و700 صاروخ وقاذفة قنابل، وتتضمن عمليات تفتيش شاملة للتحقق من الالتزام بذلك.
إن معاهدة ستارت الجديدة الموقعة بين الولايات المتحدة وروسيا كانت شديدة الأهمية، لأنها قادرة على إلزام موسكو بحدود تحديث معينة لبرنامجها النووي، بما يساعد واشنطن في التنبؤ بحجم ووضع القوات النووية الاستراتيجية الروسية، ويساعد أيضاً في استقرار بيئة النظام الدولي. لكنها أعربت عن مخاوفها بشأن التحديث النووي الروسي المستمر الذي مكن موسكو من إنتاج الصواريخ الروسية وتصنيع الرؤوس الحربية، مما يساعدها في تحديث الثالوث النووي الروسي المؤلف من "قاذفة قنابل استراتيجية، وصواريخ باليستية عابرة للقارات، وصواريخ باليستية تطلق من الغواصات، ولهذا جرى تأكيد أهمية معاهدة ستارت الجديدة التي إذا انتهكت فستتفوق موسكو على واشنطن من الناحية النووية.
وأخيراً، قد ندخل من القاهرة حرب المقايضات السياسية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا، بخاصة أن لقاء الجانبين في حد ذاته مهم للتطرق إلى ما هو قادم من تطورات، بخاصة أن موسكو يهمها استمرار الحوار الاستراتيجي، ورفع العقوبات الضخمة وفق منظومتها المعقدة، التي تثقل كاهل روسيا، كما أن الإدارة الأميركية تريد التوصل إلى نقطة توافق يمكن أن يبدأ منها التفاوض حول مستقبل أوكرانيا، وإقرار التفاهمات الكبرى مع دول الناتو مع عدم تمدد الحركة الروسية في شرق أوروبا، ووضع مداخل حقيقية ومقاربات للأمن الأوروبي مع الجانب الروسي، بخاصة أن هناك قوى تتربص مثل الصين بأمن الإقليم بأكمله، وتعمل في اتجاهات عدة من أجل تحقيق مصالحها الكبرى، وهو ما يضع الجانبين الروسي والصيني على رأس أولوياتهما، مع الفارق في مسارات واتجاهات التحرك.