"العزلة فرد من العائلة" (مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر) للشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار، هو الديوان الفائز بالمركز الثاني لجائزة حلمي سالم في دورتها الثالثة، والتي نظمها "منتدى الشعر المصري"، وهو تجمع مستقل من الشعراء والنقاد المصريين. وتمتاز شعرية الخصار في هذا الديوان بالتفرد والخصوصية حتى بدا وكأنه شاعر بلا أسلاف، إضافة إلى أنه لا يشبه مجايليه من شعراء التسعينيات. وهو أمر تحقق بدرجة ما منذ ديوانه الأول "أخيراً وصل الشتاء"، مروراً بدواوين "أنظر وأكتفي بالنظر" و"نيران صديقة" و"بيت بعيد" و"عودة آدم" و"القبطان البري". وزع الخصار "العزلة فرد من العائلة" على ثلاثة أقسام: "أقود قطاراً في غرفة" و"رجل يبتسم أمام كتيبة إعدام" و"من الدخان تأتي كلماتي"، مؤكداً بذلك وحدة الديوان العضوية والوجدانية، ويبعده عن مجرد تجميع عدد من القصائد المتباينة.
شعرية الطبع
في تراثنا النقدي نجد علاقة واضحة بين ما يسمى "شعر الطبع" الذي كان البحتري أكبر ممثليه، و"شعر الصنعة" الذي مثله أبوتمام، ولو شئنا الامتداد بهذه الثنائية لاستطعنا القول إن شعرية الخصار تنتمي أو تقترب من الشعرية الأولى، فالشعر عنده يكاد يكون طبعاً أو فطرة. في قصيدة لا تتجاوز الأسطر الثلاثة تحت عنوان "الشاعر"، يتضح هذا المعنى حين نقرأ "لا أفكر في كلمة ولا أستجديها/ أقرع كأساً بكأس/ فتندلق الكلمات". نحن أمام ما يمكن أن نسميه بسيولة الكلمات وتدفقها من دون جهد من الشاعر، فهو لا يفكر فيها ولا يستجديها ولا يشغل نفسه بمحاولة اصطيادها. إنها تندلق بمجرد أن يقرع كأساً بكأس، أو لنقل إنها تندلق بمجرد التهيؤ المزاجي لها. كل هذا ينطبق على ما سمي قديماً بشعر الطبع الذي يختلف شعراؤه عن شعراء الحوليات أو الصنعة. ودال "الكلمة" محوري في هذا الديوان ونجد ترديداً متنوعاً له منذ بداية القسم الأول حين يقول "أزرع كلمة في حقل/ أسحب موجة من الماضي وأخرى من فمك/ وأروي أرضاً لم يصلها ماء". فالشاعر عموماً لا يزرع إلا "الكلمة" التي يستطيع أن يروي بها الأرض الجدباء التي لم يصل إليها "ماء"، ففي "البدء كانت الكلمة".
والكلمة في قصيدة الخصار لا تأتي عارية من المجاز الذي هو "مجد الشعر" والذي به يكون، لهذا يكثر عبر الديوان التفكير الاستعاري على نحو ما يظهر في قوله "الحب مجنون يمرق من تحت الجسور/ يجر خلفه ذيل معطف/ وعلى رأسه قبعة/ وحين يقف تحت نافذتك/ ليقرأ عليك هذيانه القديم/ تنهره عجوز ويرميه طفل بالحجارة". تقوم هذه السطور على ما يعرف بـ"تشخيص المعنويات"، حين يصبح الحب هذا الشعور المعنوي "مجنوناً" يمرق ويجري ويقف ويقرأ. وتتناص السطور مع قصة "روميو" الذي كان يقف تحت نافذة "جولييت" ليقرأ هذيان حبه الدائم القديم، مما يعني أننا أمام طبقات من المعنى يوحي بها الشاعر من طرف خفي.
ضرب أفق التوقع
ترتبط الدوال عامة بسياقات دلالية محددة، فعندما نقول "الحنين" فإن ذلك يستدعى المعجم الوجداني ويأتي بمعاني الحب والوله، لكن شاعرنا يضرب هذا الأفق المتوقع حين يصفه في نهاية المقطع بـ"نباش القبور"، حيث يدور المقطع كله في إطار البكاء على حبيبة راحلة. يقول "ما بال هذا الحنين لا يريد أن يسجو/ يضرب بحوافره باب غرفتي/ ويصهل في باحة الدار". يبتعد الحنين -هنا- عن الأجواء الرومانسية المعهودة ويأخذ صورة عنفية كأنه جواد نافر على رغم أن الجميع يعلم "أنها كانت"، وأنها "لن تعود"، ويصبح النسيان هو الملاذ الأخير للراحة. والأمر نفسه يفعله الشاعر حين يعمد إلى تفريغ "المجد" من معانيه القديمة التي يراها كاذبة وسبباً في حروب لا تنتهي. يقول "عن أي حجر تذود أيها الجندي؟/ أنت تقود آخرين إلى ظلام ما/ بينما تقودك الأيام إلى ظلامها"، هذا الجندي المخدوع -في رؤية الشاعر- يتوهم أن "ماء بعيداً سيأتي"، وأن "عشباً داسه سيمجد ذكراه"، لذلك ينصح الشاعر هذا الجندي بالنجاة سريعاً بعد أن أضرم حراس الغابة النيران وفروا.
ارتبط الشاعر قديماً بـ"شيطان الشعر" الذي كان يأتيه من "وادي عبقر"، ليلقي في روعه بالأشعار، وافتخر أحدهم بأن كل شاعر شيطانه أنثى أما هو فشيطانه ذكر، لكن الخصار يربط بينه وبين الملاك الذي جاء وحرك السكون من حوله حيث فتح باباً ونافذتين وحرك المياه الراكدة، مما يدل على الانفتاح على العالم وتدفق الحياة. ومع ذلك ظل الشاعر يعاني عجزه، بالتالي عجز الشعر عن تغيير العالم حيث لا تستطيع الكلمة العزلاء مواجهة الطوفان، "فكل تشبيه خدعة/ كل استعارة هروب". ولم يحدث ذلك إلا بعد مفارقة الملاك بيت الشاعر. لهذا يصبح إحساس الشاعر بالعدمية حتمياً، يتساوى -عنده- الضوء والدجنة والأيكة والخراب حين يقول "سيان أن يلمع الضوء في طريقك/ أو تمتد الدجنة/ سيان أن تفضي بك الطريق إلى أيكة أو إلى خراب/ العالم يجدف في ماء آسن/ وأنت ترقص بمفردك في مقبرة"، هذا الموقف الضدي من العالم يأخذ مبرراته من قيادة الحمقى له، بينما الشاعر لا يملك إلا حلمه مردداً أغنية ماتت أو أغنية لا يرغبها أحد، وهكذا يظل وحيداً يفكر في ضوء لن يأتي ويحدق "في البرد والدمار والخذلان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتحرك الشاعر بين نقائض، وتأتي كلماته من "الدخان" وإليه تعود، ويشعر بالكهولة ودنو الأجل والخوف من النظر إلى أعلى حتى لا تتأذى عيناه. يتحسر على الماضي الذي كان فيه "الجمال ماء في مزهريته"، والذي كان فيه قادراً على قيادة الحب، لكنه يكتشف أن "يداً فيها وردة/ كانت تتألم أمام يد فيها سوط/ ثم تهاوت جراف على جراف/ وانتهى كل شيء". هي صورة تقترب من تيمة الأطلال التي لازمت القصيدة العربية. وأمام هذا التهاوي وانتهاء كل شيء يحس الشاعر باللاجدوى والنهايات المفزعة المباغتة التي لا تتسق مع مقدماتها، فعلى رغم أنه ظل يحفر الأرض بأظافره كان "الحظ" يزرع في "الضيعة المجاورة"، وتظل حالته كمن يركض في الظلام "وراء امرأة سحرته/ ثم فتح عينيه على فزاعة". هذه النهايات المفزعة يحس معها الشاعر باختناق الكلمات في فمه، وفزع الطيور من عزفه وارتجاف الحب القديم، وهكذا حتى يحضن قيثارته ويختفي بين الدروب.
ثنائية الموت والحياة
وتتوازى ثنائية الموت والحياة مع ثنائية الوردة والسوط المشار إليها. فكثيراً ما تختلط الحياة بالموت، ويتعاقبان كما في قوله "ما إن فتحنا النوافذ/ وفتحنا معها أفواهنا لنغني/ حتى أنبأتنا الحياة أنها ستغادر البيت/ وسيأتي الموت ليطرق الباب بيده الثقيلة المفزعة"، هذا الاختلاط والتعاقب الدائم يسم الديوان بطابع المفارقات السوريالية أحياناً، فعندما يقول "أقود قطاراً في غرفة" نجد سمة سوريالية، تأتي من كون القطار مكاناً متحركاً والغرفة عكس ذلك. وقد يشير القطار إلى مرور الزمن ومراحل العمر التي تنتهي فيما لا يزال الشاعر حبيس غرفته. أما مفارقة عنوان القسم الثاني "رجل يبتسم أمام كتيبة إعدام"، فتتأتى من تقابل الابتسام والإعدام والفرد الوحيد في مواجهة كتيبة. وهي حالات تفضي إلى خروج الكلمات من "الدخان" حيث ضبابية الرؤية وانعدام اليقين. وامتداداً لهذه الأجواء السوريالية ومفارقاتها نجد ما يعرف بالانحراف الدلالي أو العدول، وهو تصور شيء من الاستحالة حدوثه، حين يقول، "رجل يقف على جسر/ الجسر من أسمنت قديم/ تمر سيارة من قرن مضى". فهناك انحيازات زمنية واضحة. فاللحظة الراهنة تتجاور مع مرور السيارة من "قرن مضى"، وفي هذا -تحديداً- تكمن شعرية هذه السطور.
ما دمنا قد تكلمنا عن طبيعة المكان ما بين الثبات والحركة يظل من المفيد أن نقارب علاقة الإنسان بالمكان. يخضع المكان للوصف المعبر عن رؤية الإنسان له، وللوصف التقريري المحايد الذي يصنع مفارقة مع طبيعة الإنسان، ومن هذا النوع الثاني قوله "النافذة وحيدة بلا ستار/ الموسيقى خفيضة/ والأضواء تغري/ الباب مفتوح على مصراعيه/ وفي البهو كرسيان ومائدة/ أين أنت أيها الحظ؟". فالمكان مهيأ لاستقبال كل ما هو إيجابي، لكن الشاعر -صاحب هذا المكان- وحيد تعيس يبحث عن الحظ من دون جدوى، كما تبدو المفارقة بين الأنا والذات الأنثوية وهو ما يوجزه الشاعر بقوله "تشرق في يدك شمس/ وتغرب في يدي شمس". وهكذا فإن الديوان زاخر بأحاسيس مقبضة مثل اليأس والحزن والوحدة والعجز وغيرها، مما يدل على عجز الإنسان إزاء المكان والزمان والذوات الأخرى المحايثة له.