بين شخصيات الحاخام عوفير عياش وشيخ اليهود ليفي ماتان والشاب شلومو بن دهان وفي أرجاء حيز جغرافي صغير يتمثل في مدينة "سوق أربعاء الغرب" بالمغرب، تدور أحداث رواية جديدة للكاتب والأديب المغربي إدريس الكنبوري، اختار لها عنوان "سنموت في أورشليم".
ويحاول الكنبوري برواياته "عائد إلى أورشليم" و"زمن الخوف" و"الرجل الذي يتفقد الغيم" و"الكافرون"، أن يعبر بالقارئ إلى جسر التعايش والتسامح الديني والاجتماعي بين المسلمين واليهود في النصف الأول من القرن الـ20 خلال فترة "الحماية الفرنسية" للمغرب، وذلك انطلاقاً من فضاءات عديدة أبرزها حي الملاح (الحي الذي يقطنه اليهود المغاربة)، والمدرسة والحانة والكنيس.
من سوق الأربعاء إلى أورشليم
هو خيط رفيع يتأرجح بين التاريخ والتخييل الإبداعي، ذلك الذي سار عليه الكنبوري في روايته الجديدة الصادرة عن دار النشر "أفريقيا الشرق" بالدار البيضاء، محاولاً عدم الانغماس في ما هو تاريخي لتوثيق حقبة زمنية مشهودة من تاريخ المغرب، ومرجحاً النفس الروائي الذي يبسط رسائل التعايش بأسلوب أدبي متماسك لا يعدمه الكاتب.
منذ البدء وفي العنوان "سنموت في أورشليم" الذي هو عتبة الرواية، يحاول الكنبوري جر القارئ إلى "أرض الميعاد" التي يؤمن بها اليهود إيماناً جازماً، قبل أن تتلقف القارئ أحداث بطلها طفل يهودي ترعرع في حي الملاح بمدينة "سوق الأربعاء" المهمشة شمال غربي البلاد.
تتبع الرواية خطوات الطفل/ البطل وهو يتعلم الديانة اليهودية في "المدراشيم"، ثم وهو يتلقى تعليمه في مدارس "سوق الأربعاء"، ولعبه مع أطفال المسلمين، دون بروز فوارق هوياتية أو عنصرية داخل المجتمع الواحد، وذلك إلى حدود فترة نهاية الحرب العالمية الثانية.
وخلال كل هذه المسارات الزمنية أظهرت الرواية التسامح بين المسلمين واليهود في المجتمع المغربي قبل أن يعمد الاستعمار الفرنسي (الحماية الفرنسية) إلى محاولة خلق الفتن والنعرات بين الطائفتين، مسنوداً بالحركة الصهيونية بهدف دفع اليهود المغاربة إلى مغادرة المملكة للعيش في أرض الميعاد أورشليم.
بين التاريخ والتخييل
في هذا الصدد يقول إدريس الكنبوري، في حديث مع "اندبندنت عربية"، إن الرواية تقف عند الحدود الفاصلة بين التاريخ والتخييل الروائي، وهي تحاول تسليط الضوء أدبياً على مرحلة زمنية من تاريخ المغرب الحديث وقضية التعايش بين المسلمين واليهود في المغرب خلال حقبة الاستعمار الفرنسي ودور الحركة الصهيونية في جذب يهود المغرب إلى فكرة الهجرة إلى إسرائيل كوطن بديل.
إذاً، هل هذه الرواية تاريخية؟ يجيب الكنبوري بأنها ليست كذلك بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي رواية إعادة كتابة التاريخ من منطلق سردي، بل هي رواية تحاول التعامل مع التاريخ كتجربة لا كواقعة، فالوقائع التاريخية ليست بالضرورة ما ينبغي على الروائي أن يستعيدها، بل دوره أن يحولها إلى تجربة مكتنزة بالرسائل الثقافية والفنية، بما يحول الواقعة التاريخية إلى واقعية روائية تربط الماضي بالحاضر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعاش اليهود المغاربة في ظل أجواء من الاستقرار والاندماج منذ النصف الثاني من القرن الخامس عشر عندما تم ترحيلهم من إسبانيا بعد الطرد ومحاكم التفتيش التي نصبتها الكنيسة ضد المسلمين واليهود، وهي مرحلة تتحدث عنها الرواية أيضاً كخلفية تاريخية.
وسجل الكنبوري بأنه حتى اليوم ليس هناك حضور كبير في الرواية المغربية للشخصية اليهودية التي تحضر كمكون سردي فقط، لا كشخصيات محورية، عدا الأعمال التي كتبها روائيون مغاربة يهود مثل الراحل إدموند عمران المالح، لذلك سعى في هذه الرواية إلى معالجة الحضور اليهودي كفاعل أساسي في البنية الروائية.
رسائل إلى القارئ
وبخصوص الرسائل التي يبعثها من خلف أحداث "سنموت في أورشليم"، أفاد الكنبوري بأن الرسالة الأساسية في الرواية تكمن في الدفاع عن ثقافة التعايش والتسامح الديني والاجتماعي في المغرب، لأن البلاد ظلت مثالاً لهذا التعايش مع اليهود طيلة خمسة قرون، وكانت الجسر الأول بين يهود الأندلس والعالم الإسلامي، وبرز خلال التاريخ عديد من علماء اليهود الذين درسوا في جامع القرويين أمثال موسى بن ميمون.
ويستطرد الأديب قائلاً، "حاولت الرواية أن تعكس التوتر داخل الشخصية اليهودية المغربية من خلال ازدواجية الانتماء الثقافي والتاريخي إلى المغرب والانتماء الديني إلى الديانة اليهودية، ما نتج عنه التوتر بين الولاء للمغرب والولاء لإسرائيل"، مبرزاً أن "هذا التوتر في الهوية هو ميزة لليهودي في العالم، وهو ما يعكسه النقاش بين شخصيات الرواية بعد ظهور الحركة الصهيونية وبدء الدعاية لها في المغرب أثناء الحماية الفرنسية".
ولفت صاحب رواية "سنموت في أورشليم" إلى أن "الاستعمار الفرنسي للمغرب استغل هذا التوتر، فحاول ضرب الوحدة الاجتماعية بين المسلمين واليهود، وهو ما قام به في الجزائر أيضاً، من خلال وضع قوانين تمنح امتيازات لليهود على حساب المسلمين".
نفض الغبار الأدبي
ويعلق الأكاديمي والباحث في الشأن اليهودي عبدالرحيم شهيبي على رواية الكنبوري الجديدة بالقول، إن الذي يميزها كونها رواية من الطرف الآخر، بمعنى من الطرف المسلم الذي يتحدث عن الطرف اليهودي، وهذا الجانب له أهميته الكبرى نظراً إلى غيابه، بالنظر إلى أن الكتابات الأدبية حول الموضوع تبقى نادرة أو غائبة تماماً.
وتابع شهيبي، في حديث مع "اندبندنت عربية"، بأن رواية الكنبوري محاولة أدبية لنفض الغبار الأدبي عن مكون اجتماعي عاش في المغرب في خضم ظروف اجتماعية معينة، وغادره تحت طائل ظروف اجتماعية وسياسية أخرى.
وزاد المتحدث، "لعل أيضاً ما يميز الكتابات الروائية للكنبوري أنها باللغة العربية، بينما جل الأعمال الأدبية التي تتناول اليهود المغاربة منشورة باللغة الفرنسية، وأخيراً باللغة العبرية، ونادراً ما تترجم إلى اللغة العربية، بالتالي فإن الكنبوري اختار الكتابة بالعربية متوجهاً إلى جمهور جديد أغفلته الكتابات الأدبية السابقة".
الأدب اليهودي المغربي
وفي سياق ذي صلة، تحدث شهيبي عن الأدب اليهودي المغربي المكتوب من طرف مؤلفين مغاربة من أصول يهودية، مبرزاً أن "الأوضاع والمشاهد التي يروونها تخص اليهود أنفسهم وتهم أوضاعهم التي عايشوها أو عاشتها عائلاتهم في فترات معينة من تاريخ المغرب، ليتراكم لدينا عديد من البيوغرافيات التي رصدت جزءاً مهماً من المخفي عن أوضاع اليهود المغاربة وعلاقاتهم مع جيرانهم المسلمين".
واستحضر المتحدث نفسه في هذا السياق رواية رالف توليدانو Ralph Toledano "أمير من الدار البيضاء" Un Prince à Casablanca التي تحكي عن عائلة يهودية بالدار البيضاء التي أصبحت تجهل مصيرها (ومثلها مصير كل اليهود المغاربة) ما بعد المحاولة الانقلابية التي عرفها المغرب في يوليو (تموز) عام 1971.
ويكمل شهيبي، "هناك رواية أخرى لكوليت رومانوف تحت عنوان (طفلة صغيرة في ملاح فاس في سنوات العشرين) une petite fille au mellah de Fés dans les années vingt التي حاولت فيها المؤلفة إعادة تركيب سيرة فتاة يهودية تدعى كراسيا كوهين Gracia Cohen عام 1911 قبيل فرض الحماية الفرنسية على المغرب.
وتوجد أيضاً رواية عبارة عن سيرة ذاتية يحكيها هنري أوحنا Henri Ouhana طفل في الملاح: سيرة يهودي مغربي UN ENFANT DU MELLAH: Itinéraire d"un juif marocain، وهي حكاية ممتلئة بالمشاعر عن حياة يهودي عايش أحداثاً تاريخية معاصرة تأثر بها وأثرت عليه وعلى كل مجايليه من اليهود في المغرب، إذ عايش الفترة الأخيرة للوجود الفرنسي في المغرب، ووجد نفسه من النخبة الإدارية الجديدة إبان فترة الاستقلال، حيث اشتغل موظفاً في عديد من الوزارات ما بعد الاستقلال، وتعد شهادته تسليطاً جديداً للضوء على أوضاع الجماعات اليهودية المغربية ما بعد الحماية.