في وقت بدأ فيه سعر صرف الدولار رحلة التراجع مقابل الجنيه المصري في السوق السوداء، تقدم صندوق النقد الدولي بمطالب جديدة ربما تعيد الأزمة إلى "المربع صفر". ومنذ الخفض الأخير في قيمة العملة المصرية أمام نظيرتها الأميركية في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يسمح البنك المركزي المصري كل يوم بخفض طفيف في قيمة العملة المحلية، في إطار ما يطلق عليه تسمية "التعويم التدريجي" أو "التعويم المدار".
لكن مسؤولة كبيرة في صندوق النقد الدولي، قالت وفق بيان حديث، إن الصندوق سيترقب تحول مصر إلى سعر صرف مرن بعد إلغاء شرط تمويل الواردات بخطابات اعتماد في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الحالي. ووافق المجلس التنفيذي للصندوق، الجمعة الماضي، على حزمة مساعدات مالية بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدى 46 شهراً لمصر، قائلاً إنها تتضمن "تحولاً دائماً إلى نظام سعر صرف مرن".
وتفاوضت مصر على مدار سبعة أشهر للحصول على القرض، إذ سلطت تداعيات الحرب في أوكرانيا الضوء على أزمة العملة الأجنبية. وكان البنك المركزي المصري فرض قبل الحرب بفترة قصيرة شرط خطابات الاعتماد الإلزامية مما أدى إلى تباطؤ شديد في الواردات وتراكم البضائع في الموانئ.
ووفق وكالة "رويترز"، قالت رئيسة بعثة الصندوق إلى مصر فلادكوفا هولار "نعرف أن البنك المركزي لم يتدخل بعد لضخ احتياطيات في سوق الصرف الأجنبي منذ أن توصلنا إلى اتفاق على مستوى الخبراء، لكننا نعلم أيضاً أن الواردات المتأخرة لم يتم الإفراج عنها".
لا مجال للتعويم الكامل حالياً
من جهة أخرى، قال الباحث الاقتصادي محمد جاب الله إنه "لا مجال لتعويم جديد أو ما يُعرف بالتعويم الكامل للجنيه المصري مقابل الدولار، بل على العكس قد تحدث بعض المضاربات على سعر الدولار، ولكن في النهاية سيهبط سعر صرف الدولار إلى أن يستقر حول مستويات 22 جنيهاً تقريباً".
وأشار جاب الله إلى أن "أسعار الذهب ستنخفض لأنه وصل بالفعل إلى القمة وبالتالي سينخفض وربما تتسارع وتيره انخفاضه بشكل كبير خلال الفترة المقابلة". وأوضح أن "السوق المصرية مؤهلة بحسب نسب فيبوناتشي وزوايا جان للوصول إلى مستويات 25 ألفاً خلال النصف الأول من العام القادم"، مشيراً إلى أن "أحجام التداول سيكون متوسطها اليومي أعلى من ملياري جنيه" (80.9 مليون دولار).
ورجح الباحث "حدوث طفرة اقتصادية بمصر بقيادة قطاعي الأوراق المالية والسياحة خلال الفترة المقبلة، وسيكون موسم الشتاء الحالي هو الذروة".
وفي ما يتعلق بتوقعات أسعار الفائدة، توقع جاب الله، أن "يلجأ البنك المركزي المصري إلى تثبيت أسعارها خلال الاجتماع المقرر عقده نهاية الأسبوع الحالي، لكن سيتم الرفع جزئياً في أوائل العام بنصف في المئة، وسيتوقف تماماً عن الرفع بعد ذلك ثم يبدأ في الخفض مرة أخرى كنتيجة طبيعية لانخفاض معدلات التضخم".
ورجح أن تنتهي التوترات الجيوسياسية التي خلفتها الحرب الروسية في أوكرانيا في وقت قريب، مشيراً إلى أن "النظام العالمي الجديد سيبحث عن فزاعة أخرى ستظهر قريباً، وفي الغالب ستكون في قطاع التكنولوجيا".
أزمات عنيفة وخفض متسارع للجنيه المصري
وتشهد سوق الصرف في مصر منذ بداية العام الحالي، حالة من عدم الاستقرار، خصوصاً بعد تخارج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق خلال الربع الأول من العام الحالي. ودفعت أزمة شح الدولار، البنك المركزي المصري إلى إعلان خفض قيمة الجنيه مرتين مقابل الدولار.
كانت الأولى خلال اجتماع استثنائي عقده "المركزي" في 19 مارس (آذار) الماضي، عندما أعلن رفع سعر صرف الدولار في البنوك من مستوى 15.74 جنيه، إلى نحو 19.60 جنيه. وكان الخفض الثاني في قيمة العملة في نهاية أكتوبر الماضي، حينما أعلن رفع سعر صرف الدولار من مستوى 19.64 جنيه إلى مستوى 24 جنيهاً. ويجري تداول الدولار حالياً عند مستوى 24.70 جنيه في السوق الرسمية.
والتحرير الكامل للعملة هو أسلوب متبع في إدارة السياسة النقدية، ويُقصد به ترك "البنك المركزي" سعر صرف الجنيه ومعادلته مع عملات أخرى ليتحدد وفقاً للعرض والطلب في السوق النقدية. ويتوقف تحرير سعر الصرف في مصر على مدى تحرر الاقتصاد الوطني للدولة وكفاية أدائه ومرونة الأجهزة الإنتاجية.
وفي حال اتخاذ قرار التعويم في مصر، فسينقسم إلى نوعين، الأول هو التعويم الحر، أما النوع الثاني فهو التعويم المدار، وكلاهما يختلف عن الآخر. فالتعويم الحر هو أن يكون تحريك سعر الصرف متوقفاً على قوى العرض والطلب وحركة السوق بمرور الزمن، في حين أن دور البنك المركزي يقتصر فقط على التأثير في سرعة تحريك سعر الصرف، وليس الحد من تغيره، وهذا النوع تعتمده الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة لعملاتها، مثل الدولار الأميركي، الفرنك السويسري والجنيه الإسترليني، ولكنه ليس مجدياً بالنسبة لمصر التي تعاني من الأزمات الاقتصادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المقصود بالتعويم المدار فهو ترك سعر الصرف يتحدد وفق حركة العرض والطلب، ولكن في هذه الحالة يتدخل البنك المركزي كلما استدعت الحاجة لتعديل هذا السعر أمام باقي العملات، وذلك تبعاً لبعض المؤشرات مثل حجم الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، مستويات أسعار الصرف الآجلة والفورية، فضلاً عن التطورات التي تشهدها أسواق سعر الصرف الموازية.
توقعات بتغير يومي في سعر الصرف
وقالت مصر عند إعلان التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء في شأن تسهيل الصندوق الممدد في أكتوبر الماضي، إنها ستلغي ذلك الشرط بنهاية ديسمبر الحالي. وسمح البنك المركزي المصري بهبوط كبير في سعر صرف الجنيه من 19.7 جنيه للدولار، لكن العملة استمرت في الانخفاض التدريجي منذ مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لتبلغ 24.7 جنيه مقابل الدولار في الوقت الحالي.
وقالت رئيسة بعثة صندوق النقد إلى مصر فلادكوفا هولار، إنه بمجرد رفع شرط خطاب الاعتماد "ما نتوقع أن نراه هو تغير يومي في سعر الصرف يشبه التغيرات التي نراها في أنظمة الصرف التي تشهد تحريراً حقيقياً" لسعر العملة. وتابعت "سنتابع عن كثب طريقة عمل سوق الصرف الأجنبي بمصر، وهو ما سيمكننا من مناقشة السلطات ومجلس الصندوق في شأن (إذا كان) ما نراه يتفق حقاً مع نظام مرن لسعر الصرف".
وأوضحت، أن "الطلب على الدولار ربما ينخفض بفعل تراجع الجنيه، حيث إذا أردت استيراد سلعة بسعر 19.7 (جنيه للدولار) وبلغ السعر الآن 24.7، فهناك تغير كبير في التكلفة بالنسبة لي". وأشارت إلى أن دفعة فورية بقيمة 347 مليون دولار ستكون متاحة لمصر هذا الأسبوع في إطار البرنامج.
وقال صندوق النقد الدولي، إنه من المنتظر أن يسهل البرنامج الجديد لمصر الحصول على 14 مليار دولار من دول خليجية ومصادر أخرى، وإنه يتوقع تنفيذ "إصلاحات هيكلية واسعة النطاق لتقليص دور الدولة". وقالت هولار إن "وثيقة ملكية الدولة، التي من المقرر أن تعتمدها مصر قريباً وتهدف إلى تحديد المجالات الاقتصادية المفتوحة للاستثمار الخاص، ستكون وثيقة أولى مهمة نحتاجها جميعاً حتى نتمكن من إعداد خطة عمل أكثر قوة". وأضافت أن خطوات تعزيز القطاع الخاص قد تصبح "إجراءات ذات أولوية" يجب اتخاذها قبل الحصول على أي دفعات مستقبلية من الصندوق.