قبل أسبوعين، قصد أحد أفراد عائلتي عيادة طبيبه العام في موعد محدد سابقاً. عندما سألته كيف سارت الأمور، أجاب أنه لم يفهم كيف أن الأطباء العامين مشغولون جداً كما يُقال، في حين أن غرفة الانتظار لدى طبيبه كانت خالية من أي كان.
الآن، أن يسألني أحد أفراد عائلتي، وأنا طبيب عام خبرتي في المجال تناهز 20 عاماً وأحد كبار ممثلي الطب العام لدى "الجمعية الطبية البريطانية"، يكشف هذا السؤال عن تعارض كبير بين ما يشهده الناس في عيادة طبيبهم العام وما يطالعونه في الصحف، وبين خبرة الأطباء والجهد المضني الذي يبذله على أرض الواقع موظفو العيادات العامة.
على مدى السنتين الماضيتين، في غمرة أسوأ ما جلبته معها جائحة "كوفيد" وما بعدها، قرأ الأطباء العامون وزملاؤنا بأسف العناوين الرئيسة في بعض وسائل الإعلام عن "إغلاق" العيادات العامة "أبوابها" أو "رفضها" استقبال المرضى شخصياً، ما يعني ضمناً أن كوادر العيادات العامة قد جلست مكتوفة اليدين تضيع الوقت سدى من دون عمل تنجزه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والآن، نقرأ عناوين رئيسة تفيد أنه سيصار إلى "الكشف عن أسماء العيادات العامة وفضحها" في "قوائم التصنيف" حيث تُنشر وللمرة الأولى على مستوى التطبيق الفردي بيانات شهرية تكشف أعداد المواعيد وأوقات الانتظار وما إذا كانت عبارة مقابلات شخصية وجهاً لوجه. في الحقيقة، تفاقم احتمال تعرض الأطباء العامين وموظفيهم وعياداتهم لمزيد من الإساءات، زارعاً في نفوس الزملاء خوفاً وغضباً.
لا بد من التأكيد أنه عندما اجتاحتنا الموجة الأولى من"كوفيد- 19" في ربيع 2020، طلبت الحكومة البريطانية و"هيئة خدمات الصحة الوطنية" ("أن أتش أس" NHS ) من العيادات العامة في إنجلترا وضع تدابير تحد من انتشار هذا الفيروس الفتاك. وقد اشتملت الإجراءات على اعتماد نظام "الاستشارة عبر الهاتف أولاً"- أو التصنيف الكلي للمرضى- وتقييد المواعيد الشخصية بالحالات المناسبة والآمنة والضرورية سريرياً. أظهرت العيادات مبادرة ومهارة عظيمتين من أجل تغيير عملياتها بين عشية وضحاها حفاظاً على سلامة المرضى والموظفين. كان تصرفنا ذلك بالغ الأهمية لصد تفشي فيروس "كوفيد" القاتل في غرف الانتظار المزدحمة بمرضى يواجهون حالات صحية سيئة.
سريعاً بعد سنتين ونصف السنة، في وقت قاد أطباء العائلة وفرقهم حملة تطعيم رائدة عالمياً ضد "كوفيد -19" وكانت العيادات العامة ترزح تحت وطأة غير مسبوقة. للأسف، عبء العمل خانق وليس شرح مدى صعوبة الأمور سهلاً ربما.
لدينا قائمة قياسية من مرضى ينتظرون الخضوع لجراحة والحصول على مواعيد في المستشفى، والأشخاص الذين ربما أرجئ تلقيهم الرعاية الصحية خلال أسوأ فترات الجائحة يطلبون المساعدة بحق مرة أخرى. إضف إلى ذلك، أن أزمة تكلفة المعيشة تطرح تأثيراً وخيماً على صحة الناس العقلية والنفسية وفي بعض الحالات الجسدية، فيما يفرض الواقع طلباً مهولاً على عيادات الأطباء العامين نعجز عن السيطرة عليه.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، حجزت العيادات العامة في إنجلترا أكثر من 32 مليون موعد. موعد واحد لكل شخص بالغ آخر في البلاد، وهو أعلى رقم شهري تشهده منذ بدء عمليات التسجيل، ومع ذلك يُقال لنا باستمرار إننا لا نقوم بما يكفي.
علاوة على ذلك، قدم الأطباء العامون والكوادر العاملة معهم قرابة 4 ملايين لقاح تنقذ الأرواح في مجتمعهم.
ولكن تحقق ذلك كله في ظل تراجع في القوى العاملة، مع خسارة ما يعادل 380 طبيباً عاماً مؤهلاً بدوام كامل في العام الماضي- وعدد مذهل بلغ ألفاً و900 طبيب عام منذ 2015، ما يكشف مدى الجهد الذي يبذله أطباء العائلة المتبقون وفرقهم الطبية. لا يستطيع الأطباء العامون الذين بلغوا قمة نجاحهم في منتصف الخمسينيات من العمر أن يتحملوا المضي قدماً والاضطرار إلى المغادرة مبكراً- إنها خسارة فادحة في الخبرة والمعرفة.
صحيح أن نسبة المواعيد الشخصية ما زالت أقل قليلاً مما كانت عليه قبل الجائحة، ولكن 70 في المئة من المواعيد المسجلة للمرضى في أكتوبر جرت وجهاً لوجه مع الطبيب. ومع هذا الطلب الكبير، فإن أي اتهامات بأن الأطباء ينكفئون عن أداء دورهم أبعد ما يكون عن الحقيقة.
لمَ إذاً غرفة الانتظار لدى طبيبي العام فارغة، أسمعك تسأل؟
في أي 48 ساعة في عيادتي، سأتعامل أنا وفريقي مع ما يربو على ألف مريض، سواء في العيادة أو عبر الهاتف أو عبر مكالمة فيديو أو في منازلهم. كذلك يصلنا عدد لا يحصى من الرسائل، ونتائج التحاليل الطبية، ومكالمات هاتفية إلى دور الرعاية أو المستشفيات، ولا ننسى النماذج والشهادات، وتدريب الموظفين والامتثال، وذلك كله يسهم في الرعاية التي نقدمها في مجتمعنا.
يومياً، تواجهنا حالات ومواقف بالغة الخطورة، من أزمات حادة في الصحة العقلية والنفسية، وأمراض خطيرة في القلب والرئتين، وحصى الكلى المؤلمة، وصولاً إلى تشخيصات السرطان الجديدة وتقديم الرعاية الصحية لمرضى على فراش الموت في منازلهم. ومع ذلك، ربما تكون غرفة الانتظار فارغة أحياناً.
في بعض جوانبها، لم تكن استجابة المملكة المتحدة للجائحة ناجحة، بدءاً من برنامج الفحص والتتبع وصولاً إلى المأساة نتيجة تسريح أعداد من المرضى إلى دور الرعاية من دون خضوعهم لفحوص الكشف عن الفيروس، ولكن بعض التغييرات في العيادات جعلتنا قادرين على التفكير بشكل مختلف في سبل تحسين أساليب عملنا في إدارة الطلب في المستقبل، والاستفادة القصوى من القدرات المتاحة مع السعي إلى تزويد المرضى بالرعاية التي يحتاجون إليها.
لن يحتاج كل مريض إلى زيارة العيادة بنفسه، وكثير سيفضلون عدم الاضطرار إلى أخذ إجازة من العمل في الصباح أو بعد الظهر للقيام بذلك. في الوقت نفسه، من الأفضل أن يعاين بعض الحالات متخصص آخر مثل الصيدلي أو اختصاصي العلاج الفيزيائي الذي ربما لا يكون مقره في مبنى العيادة.
لا ريب أننا نحاول توفير موعد مباشر في العيادة نزولاً عند طلب المرضى. بعيداً عن كونهم يحولون دون دخول من شاء وقتما شاء، فإن موظفي الاستقبال الذين يعملون بجد كبير، أو ملاحي الرعاية كما نسميهم غالباً، خبراء مدربون همهم مساعدتك في الوصول إلى الشخص المناسب والخدمة التي تلائم حاجاتك الصحية. غالباً ما يتولون الإجابة عن عدد مهول من المكالمات الهاتفية، وأقل ما نطلبه أن يتلقوا نفس الاحترام والفهم اللذين لا يألون جهداً في إظهارهما للمرضى.
نقدر ونتفهم الإحباط الذي يشعر به بعض المرضى إذا كانوا يجدون صعوبات جمة في الخضوع لجراحة تنقذ حياتهم، خصوصاً في الساعة الثامنة صباحاً، ولكن الإساءة التي ما برح يتعرض لها بعض الموظفين، لا سيما موظفي الاستقبال، طوال العامين الماضيين مرفوضة تماماً.
إذ تؤججه هجمات مستمرة في بعض وسائل الإعلام مدعومة بالسياسيين غالباً، يترك هذا العداء ضرراً كبيراً على رفاه الزملاء ويؤدي بهم في نهاية المطاف إلى مغادرة وظائفهم في وقت نحتاج إلى التمسك بأكبر عدد ممكن من الزملاء.
لذا رجاء ضع في اعتبارك هذه الحقيقة في المرة المقبلة التي تقرأ فيها عنواناً صحافياً عن أطباء عامين كسالى أو عاملين "بدوام جزئي" يريدون فقط الانتهاء من عملهم مبكراً كي يتوجهوا إلى ملعب الغولف. من فضلك لا توجه غضبك إلى طبيبك العام، بل إلى عضو البرلمان عن دائرتك. لقد خذلنا السياسيون بشدة، في حين أن "هيئة خدمات الصحة الوطنية" والطب العام على وشك الانهيار.
في المحصلة، طاقم عيادات الطب العام والمرضى في المركب نفسه، وعلى رغم أن غرفة الانتظار تبدو أقل انشغالاً مما اعتاد عليه كثيرون، ثمة طاقم متخصص يبذل جهوداً كبيرة وراء الكواليس في سبيل رعاية الناس. ولا يمكنني حتى ممارسة رياضة الغولف.
الدكتور ديفيد ريغلي طبيب عام ونائب رئيس "لجنة الأطباء العامين" في إنجلترا.
© The Independent