تبدو قصته وكأنها ضرب من ضروب الأساطير، إذ كيف لهذا الطفل الفقير فقراً مؤلماً، المتألم في شوارع ساولو لكن غير المشرد، المكافح والمعاند للأقدار، أن يضحى يوماً ما رئيساً لواحدة من كبريات دول أميركا اللاتينية بثرواتها البشرية، حتى إن كانت تعاني صعوبة العيش، والطبيعية التي عادة ما يستغلها الرأسماليون الكبار، أولئك الذين يحلقون في فلك الجار الأميركي الأقرب جغرافياً والبعيد جداً أيديولوجياً.
إنه إنياسيو لولا دا سيلفا الرئيس العائد من جديد إلى القصر الذي تدور حوله أحاجي الزمان وحكايا الإنسان. ماذا عن هذا البرازيلي المثير للتأمل والتفكر من منظور إنساني قبل السياسي؟
فقير من أجل الفقراء
في مدينة سيتيس، شمال شرقي البرازيل، ولد لويس إيناسيو دا سيلفا في 27 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1945 لأسرة فقيرة يبلغ عدد أفرادها ثمانية جاء ترتيبه السابع بينهم.
انفصل أبواه وهو بعد غض ولهذا يدين لأمه بالدور الأكبر في تربيته ونشأته، وعنها يقول، "لقد علمتني أمي أن أمشي مرفوع الرأس، كيف أحترم نفسي حتى يحترمني الآخرون".
في عمر 12 سنة بدأ العمل في شوارع ساو باولو، متنقلاً بين مسح الأحذية والدباغة والعمل في محطات البنزين وبيع الفواكه والخضراوات.
عمل دا سيلفا كذلك ميكانيكي سيارات، ثم متخصصاً في مجال التعدين إثر تلقيه تدريباً لثلاثة أعوام أهله للعمل في معمل "فيس ساترا".
كانت الظروف القاسية التي عاشها دا سيلفا خلال طفولته وصباه الطريق لتعلم الصبر ودفعته إلى الإيمان بالروح الثورية والتغيير، ولهذا تعتبر نشأته مختلفة عن نشأة كثير من الزعماء والرؤساء حول العالم كافة، وفي أميركا اللاتينية بصورة خاصة.
غير أن حدثاً بعينه في بدايات حياته سوف يوجهه يوماً ومن غير أن يكون الأمر حاضراً أو خاطراً في ذهنه، إلى قصر الرئاسة.
نقابة العمال بداية درب السلطة
في الـ19 عمره، وأثناء عمله في أحد مصانع قطع غيار السيارات تعرض لفقد إصبعه الخنصر من يده اليسرى، كان السبب إهمال صاحب المصنع في اتخاذ إجراءات الأمان والمتانة لعماله.
هذه الحادثة استوقفت تفكير دا سيلفا في أحوال ومآلات العمال، لا سيما الفقراء منهم وغير القادرين، ولهذا قرر الانضمام إلى نقابة العمال بهدف واحد وواضح وهو تحسين أحوال العمال، بخاصة أنه عانى كثيراً ليحصل على علاج وأثرت تلك الحادثة في نفسيته ودفعته إلى التفكير بعمق في قضية حقوق العمال وأهمية العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات.
بدا اتحاد نقابة العمال طريقه لتحرير المأسورين من قبل أصحاب رؤوس الأموال.
في عمر الـ22 وبعد مسيرة ثلاثة أعوام من اجتهاد وكد واضحين في ممارسة العمل النقابي نجح دا سيلفا بمساعدة أخيه فريد دا سيلفا في أن يشغل منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد عام 1967 بعد أن تخلى أخوه عن المنصب.
بحلول 1978 انتخب دا سيلفا رئيساً للنقابة التي كانت تضم في ذلك الوقت ما يقارب من 100 ألف عامل في مصانع السيارات بالبرازيل مثل تويوتا وفولكس فاغن ومرسيدس بنز وفورد وغيرها.
يمكن القول إن العمل النقابي كان بداية درب لولا إلى الحكم حتى وإن لم يكن طريقا مفروشا بالورد بل بالسجن والاعتقال كما حدث عام 1980، وذلك حين أحتجز لمدة 30 يوماً، بعد أن ألقى خطابا في نقابات العمال الصناعية ضد الحكومة، وخلال إضراب لعمال المصانع بمدينة ساوباولو في فترة سيطرة الجيش على الحكومة.
تغيير النظام الانتخابي الرئاسي
بدا واضحاً أن دا سيلفا وعلى رغم قناعاته الاشتراكية، إلا أنه يميل إلى الديمقراطية بصورة ما، ولم يفت في عضده الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات عام 1981، وإن أفرج عنه عام 1982.
بعد نحو عامين، كان دا سيلفا يعمل جاهداً لتغيير معالم الحياة السياسية في البرازيل من أعلى مستوى، أي من عند الرئاسة، فشارك عام 1984 في حملة شعبية كان هدفها الوصول إلى انتخاب الرئيس من خلال الانتخاب الشعبي والتصويت المباشر، وليس من خلال الكونغرس الخاص بالبلاد، كما كانت الحال المعمول بها سابقاً.
داعبت خيال دا سيلفا أحلام رئاسة البلاد، لكن الحظ أخلفه، ففي أول انتخابات ديمقراطية بعد انتهاء الحكم العسكري وكان ذلك عام 1989 وبالانتخاب المباشر، خسر الرهان أمام مرشح الحزب الوطني فيرناندو كولورميلو الذي حظي بدعم كبير من الناخبين الذين شعروا بالخوف من احتمال قيام دولة تميل إلى الاشتراكية بقيادته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدت قناعات دا سيلفا اليسارية لا حد لها وهذا ما جعله يمضي قدماً في مشواره النضالي السياسي، وبعيداً من اليأس أو القنوط، فعلى رغم هزيمته في أول انتخابات رئاسية ديمقراطية، إلا أنه حافظ على موقعه وعلى حزبه في البرازيل، كما سلط الضوء على حزب العمل عند تأسيس منتدى ساو باولو عام 1990، وكان بمثابة الاجتماع الدوري لقادة الأحزاب الذين سعوا إلى جمع وترتيب اليسار في أميركا اللاتينية، خصوصاً بعد توسع الليبرالية الجديدة بعد سقوط جدار برلين.
كان دا سيلفا أسس أول حزب عمالي في فبراير (شباط) عام 1980 بمساعدة عدد من المثقفين والسياسيين، وهو حزب يساري يؤمن أعضاؤه بالأفكار التقدمية التي تفجرت في وجه الديكتاتورية العسكرية في البرازيل.
صعود سياسي إلى كرسي الرئاسة
لعب دا سيلفا أدواراً متقدمة على صعيد الحياة السياسية في بلاده، ففي عام 1992 أيد عزل الرئيس ميلو الذي اتهم بقضايا فساد مختلفة فتمت إزاحته موقتاً إلى أن استقال من منصبه نهاية العام.
ظل حلم الرئاسة يداعب عقل دا سيلفا ولهذا ترشح عام 1994 للرئاسة إلا أنه خسر من الجولة الأولى ورشح نفسه أيضاً في انتخابات عام 1998 وخسرها من الدور الأول.
في تلك الأثناء كان صعود دا سيلفا السياسي واضحاً بدرجة ملحوظة، لا سيما بعدما أصبح حزبه، "حزب العمال" حجر الزاوية الرئيس في بناء المعارضة البرازيلية مع معدل نمو ملحوظ وواضح للغاية.
لم يكن تحقيق الحلم بعيداً، كان فقط في حاجة إلى بضعة أعوام حتى يصبح حقيقة.
في 27 أكتوبر عام 2002 حقق دا سيلفا حلمه من خلال الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة بنسبة 61.5 في المئة (51 مليون صوت) وصار بذلك أول رئيس يساري يترأس الجمهورية منذ قيامها عام 1889.
أعيد انتخاب دا سيلفا لولاية ثانية وأخيرة (بحسب نص الدستور)، في 30 أكتوبر عام 2006، بنسبة زادت على 60 في المئة بالجولة الثانية وانتهت ولايته مطلع يناير (كانون الثاني) 2011، وهو لا يزال يتمتع بشعبية ساحقة تجاوزت 80 في المئة.
رفض دا سيلفا كثيراً من المطالب التي سعت إلى أن يمضي في طريق تغيير الدستور ليظل رئيساً لولاية ثالثة أو لمدى الحياة، كما عادة كثير من الأنظمة ذات الطبيعة الشمولية.
سلم دا سيلفا الرئاسة إلى ديلما روسيف، خليفته التي فازت من دون شك بفضل دعمه الهائل لها وكان منظر وداع دا سيلفا استفتاء شعبياً على النجاحات التي قدمها لبلاده وشعبه.
كيف تحققت معجزة البرازيل الاقتصادية؟
كيف قدر لدا سيلفا أن يرفع ملايين البرازيليين من تحت خط الفقر إلى درجة من العيش المقبول، عيش يصون كرامة البشر ويحفظ ماء وجههم في مواجهة دوائر الرأسمالية الغربية التي تحاصرهم، لا سيما الأميركية بنوع خاص؟
يمكن القطع أن تدابير الأقدار خدمت دا سيلفا، فقد أدى ارتفاع أسعار المواد الخام التي تصدرها البرازيل إلى خروج الملايين منهم من تحت خط الفقر ليرتقوا إلى الطبقة الوسطى عن طريق ضخ الحكومة لمليارات الدولارات في البرامج الاجتماعية للقضاء على التفاوت الطبقي الشديد الذي كان سائداً في البلاد عبر التاريخ.
أما عن الأمور الإجرائية، فمن الواضح أن دا سيلفا أجاد التصرف، فعلى سبيل المثال رفع الحد الأدنى من الأجور فوق معدل التضخم بدرجة كبيرة ووسع البرامج الاجتماعية التي كانت تنفذها الدولة لتشمل الطبقات الأكثر حرماناً وفقراً في البلاد عبر برنامج المنح العائلية الذي استفاد منه 44 مليون شخص، مما أسهم في تعزيز شعبيته في أوساط الفقراء والمهمشين.
خلال فترة حكمه حققت البرازيل نمواً اقتصادياً واضحاً، إذ أصبحت أكبر دولة اقتصادية في أميركا الجنوبية والـ10 عالمياً.
حين تسلم البرازيل، كانت في حكم الدولة المنهارة اقتصادياً، لا سيما بسبب تداعيات أزمة انهيار دول آسيا وكانت ديونها الخارجية قرابة 175 مليار دولار.
عزز دا سيلفا من روح المواطنة لدى جموع البرازيليين فعمد إلى تقليل الفجوات الاجتماعية بين أبناء الشعب من خلال فرض ضرائب تصاعدية، الأمر الذي وفر له ما يقارب من 60 مليار دولار خصصها لمساعدة الأسر الفقيرة والقضاء على ظاهرة توارث الفقر.
بفضل جهود دا سيلفا أصبحت البرازيل من ضمن قائمة الدول المؤثرة في الـ15 سنة المقبلة وهناك توقعات أنه بحلول عام 2040 سيكون اقتصاد البرازيل أكبر من اقتصاد ألمانيا واليابان معاً، نظراً إلى مقوماتها الاقتصادية الضخمة في مجالات الزراعة والصناعة والاكتشافات البترولية الجديدة.
وفي ما يخص القوات المسلحة حدث دا سيلفا الجيش البرازيلي، بحيث أصبح أكبر جيش في قارة أميركا الجنوبية ويتكون من 370 ألف عسكري وطبقت البلاد نظام التجنيد الإجباري.
هل يعني ذلك أن صفحة دا سيلفا كانت صفاء زلالاً، سخاء رخاء، أم أن هناك شيئاً ما شابها فيما اعتبره بعضهم بقعة سوداء في سترته، بينما رفض الآخر هذا الاتهام؟
رشى سياسية واتهامات بالفساد
لم يخل حكم دا سيلفا من علامات استفهام أول الأمر حول الترويج لمشاريع عامة مكلفة مشكوك في جدواها وارتباط بعض الأسماء في تلك الفترة بفضائح فساد كبرى.
الفضيحة الأولى جرت وقائعها عام 2005 وعرفت باسم "الدفعة الشهرية الكبرى" وهي خطة لشراء الأصوات في الكونغرس انتهت بإدانة مقربين من دا سيلفا وعرضت إعادة انتخابه للخطر.
الفضيحة الثانية طفت على السطح خلال حكم خليفته ديلما روسيف عام 2016 وتتعلق برشوة صاحبت عقوداً بملايين الدولارات لشركة النفط الحكومية "بتروبراس" مع شركات البناء. كانت الرشوة "شقة فاخرة" على شاطئ البحر قيل إنه حصل عليها.
في إطار هذه الاتهامات حكم عليه بالسجن عام 2018 بـ12 عاماً من السجن بتهمة الفساد وغسل الأموال في قضية ضخمة قادها القاضي آنذاك سيرجيو مورو.
غير أنه بعدما أمضى في السجن نحو 19 شهراً، ألغي الحكم وأطلق سراحه من قبل المحكمة الفيدرالية العليا عام 2021 وتم التشكيك في نزاهة القاضي مورو، لا سيما أنه لم تكن هناك أدلة كافية واعتبر مورو متحيزاً ضد دا سيلفا.
لاحقاً وبعدما فاز الرئيس جايير بولسونارو، صديق الولايات المتحدة والقريب من تيار اليمين الأميركي، عين مورو وزيراً للعدل.
على رغم تلك التبرئة، فإن منتقدي دا سيلفا يؤكدون أن إلغاء إدانته ليس دليلاً قاطعاً على براءته، وفي المقابل يؤكد دا سيلفا أنه لم يكن على علم بالفساد وأنه حوكم لأسباب سياسية.
دا سيلفا يفوز بالرئاسة من جديد
وسط أوضاع الاقتصاد العالمي المتردية، بخاصة بعد ثلاثة أعوام من جائحة كورونا ومن الحرب الروسية- الأوكرانية، بدت البرازيل أخيراً وكأنها خسرت كثيراً مما قدمه لها دا سيلفا من قبل من نجاحات اقتصادية، إذ إن الوباء أودى بحياة 685 ألف شخص، فيما أغرق الركود الاقتصادي الأخير ملايين البرازيليين من جديد في براثن الفقر، مما أدى إلى ارتفاع الإنفاق المالي ونشوء حال من الاستقطاب السياسي المزعج.
في هذه الأجواء ظهر دا سيلفا من جديد وبات السؤال، هل يضحى المنقذ مرة جديدة للبرازيل؟
بعد معركة انتخابية صعبة وقاسية تمكن دا سيلفا من الانتصار في جولة الانتخابات الثانية التي جرت في 30 أكتوبر الماضي على الرئيس المنتهية ولايته بولسونارو، وحصل على 50.9 في المئة من الأصوات، مقابل 49.1 في المئة لمنافسه، متقدماً عليه بأكثر من مليوني صوت.
عاد دا سيلفا إلى الرئاسة في برازيليا بعمر 77 سنة بعد اختفائه من المشهد السياسي لنحو 12 عاماً واعتقاله 580 يوماً من أبريل (نيسان) 2018 إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 بتهمة وصفها مؤيدوه بأنها "مكيدة مدبرة لإبعاده".
في أول خطاب له بعد إعلان فوزه بالرئاسة، قال دا سيلفا إن بلاده في حاجة إلى السلام والوحدة وشدد في خطابه على أن "ليس من مصلحة أحد أن يعيش في أمة مقسمة في حال حرب دائمة، وذلك بعد حملة انتخابية قسمت البلاد وشهدت استقطاباً شديداً". يومها أضاف، "اليوم نقول للعالم إن البرازيل عادت وإنها مستعدة لاستعادة مكانتها في مكافحة أزمة المناخ".
وفي تغريدة له كتب دا سيلفا، "لقد حاولوا دفني حياً، والآن أنا هنا لحكم البلاد في موقف صعب للغاية، لكنني متأكد من أنه بمساعدة الناس سنجد مخرجاً ونستعيد السلام".
شكك دا سيلفا في الأوضاع السياسية الداخلية للبلاد ونزاهتها، إذ اعتبر أنه لم يكن في مواجهة مرشح، وإنما "آلة الدولة"، الموضوعة في خدمة المرشح الأخر، في إشارة لا تخطئها العين إلى منافسه بولسونارو.
بدت لهجة دا سيلفا على رغم الصراع الداخلي الذي طفا فوق السطح تصالحية وتسامحية عبر قوله "لقد وصلنا إلى نهاية واحدة من أهم الانتخابات في تاريخنا التي وضعت مشروعين متعارضين للبلاد وجهاً لوجه، وهذا اليوم له فائز واحد عظيم، الشعب البرازيلي".
هل ستمضي سفينة دا سيلفا في بحر هادئ الأمواج خلال فترة رئاسته الجديدة، أو أن هناك خلف الأبواب، ملفات شقاق وفراق يمكنها أن تفسد مشروعه للبلاد من جديد، لا سيما بعد ما حدث عشية الثامن من يناير المنصرم؟ الجواب لا بد من أن يمر عبر بوابة البولسونارية الجديدة وقراءة جديدة مقبلة.