بعد انتهاء الجولة الأفريقية لوزير الخارجية الصيني تشين غانغ التي شملت مصر وإثيوبيا والغابون وأنغولا وبنين ومقري الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، في الفترة من التاسع إلى 16 يناير (كانون الثاني) الحالي، بدأت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين زيارتها إلى أفريقيا الثلاثاء في 17 يناير.
والدول الثلاث التي ستشملها زيارة يلين لها دلالاتها وأهميتها الاستراتيجية لدى إدارة الرئيس جو بايدن، خصوصاً أنها أتت بعد شهر من انعقاد القمة الأفريقية- الأميركية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي في واشنطن التي شارك فيها 49 من قادة الدول الأفريقية وتمخضت عن إعلان البيت الأبيض عن خطط استثمارية بأكثر من 15 مليار دولار في أفريقيا خلال الأعوام المقبلة.
فمن السنغال في غرب أفريقيا إلى زامبيا في وسطها ثم دولة جنوب أفريقيا، تقضي يلين 11 يوماً في إطار سعي واشنطن إلى تجديد العلاقات مع دول القارة السمراء ومواجهة النفوذ الصيني من مدخل العلاقات الاقتصادية. وإذ تشمل الزيارة طرح مبادرات في شأن "الاستثمارات المستدامة لمصلحة الدول الأفريقية بدلاً من القروض التي تثقل كاهلها"، بحسب ما نقلت إذاعة "صوت أميركا" عن مسؤول في إدارة بايدن، فهذا يعني أن واشنطن ستقدم عرضاً جديداً يتميز عن سياسة الصين بالتعاون والاستثمار مع مفاقمة الديون التي انتقدتها وزيرة الخزانة الأميركية بقولها إن "بكين أفرطت في إقراض الدول الأفريقية"، لكنه يعتمد بشكل أساسي على ما ظلت ترفضه دول القارة من ربط التعاون الاقتصادي الغربي، بخاصة من الولايات المتحدة بشروط سياسية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما.
وهكذا نجد أن في الدول الأفريقية الثلاث التي تزورها وزيرة الخزانة الأميركية ثمة آثاراً اقتصادية للتنين الصيني سواء بالتعاون والاستثمار أو بالقروض والمساعدات. وقبل هذه الجولة اجتمعت يلين في زيوريخ مع نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي وتعهدت "ببذل جهد لتسوية الخلافات ومنع تحول المنافسة إلى أي شيء قريب من الصراع". كما أنه من المقرر أن تزور الصين قريباً، خصوصاً أن بايدن ونظيره شي جينبينغ أكدا في لقائهما على هامش قمة "مجموعة العشرين" في جزيرة بالي بإندونيسيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي "سعيهما إلى خفض التوترات ومواصلة إدارة التنافس بحس من المسؤولية واستكشاف مجالات التعاون المحتملة".
نمو اقتصادي
في زيارتها إلى السنغال ستلتقي جانيت يلين الجمعة بالرئيس السنغالي ورئيس الاتحاد الأفريقي للدورة الحالية ماكي سال. وتنبع أهمية البلاد من توقعات بأن تسجل أسرع نمو اقتصادي في أفريقيا خلال العام الحالي، فبعدما كانت تعتمد على مساعدات المانحين والاستثمار الأجنبي والصادرات الصناعية في تعدين الفوسفات الذي تملك منه احتياطات ضخمة، إضافة إلى خام الحديد والذهب وإنتاج الأسمدة والصيد البحري، وعلى رغم أن صندوق النقد الدولي صنفها في وقت سابق ضمن الدول الـ25 الأشد فقراً في العالم، إلا أنه تم اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز، مما يمكن أن يدفع نموها الاقتصادي ويحولها إلى قوة اقتصادية كبيرة في المنطقة.
وبحسب بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، نما اقتصاد السنغال بأكثر من ستة في المئة سنوياً بين عامي 2014 و2018، وبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أربعة في المئة عام 2019. كما وصلت قيمة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في 2020 إلى نحو 25 مليار دولار مقارنة بـ16 مليار دولار في 2010 وهو الأعلى في تاريخها على الإطلاق.
كما ستزور الوزيرة الأميركية بيت الرقيق في جزيرة غوري الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات من العاصمة دكار، حيث تشكل الجزيرة رمزاً إنسانياً كبيراً لأفريقيا ومركز تجارة الرقيق ومحطتها الرئيسة في الفترة من القرن الـ16 إلى القرن الـ19 وآخر بقعة في أفريقيا قبل نقل الرقيق عبر المحيط الأطلسي إلى أوروبا والولايات المتحدة.
وشهدت الجزيرة المسماة أيضاً "نقطة اللاعودة" أبشع عمليات التعذيب والاحتجاز وربما تكون لزيارة يلين رمزية إنسانية خاصة تغازل بها الدول الأفريقية وهي بمثابة اعتذار غربي خجول ضمن سلسلة الاعتذارات من الدول التي تعاقبت على استعمار الجزيرة وهي البرتغال وهولندا وإنجلترا وفرنسا، أو التي استقبلتهم كتجارة وأكبرها الولايات المتحدة، فقد قدم ملك هولندا اعتذاره إلى أفريقيا عن الحقبة الاستعمارية والإتجار بنحو 600 ألف أفريقي إلى أميركا خلال القرنين الـ16 والـ17. وتأتي زيارة يلين كمقاربة اقتصادية في ثوب إنساني يظلله التنافس مع الصين وقوى أخرى على النفوذ في القارة.
ديمقراطية ناشئة
أما زيارة يلين إلى زامبيا، فتأتي بتأثير متغيرين، الأول متغير سياسي وهو أنها من الدول الديمقراطية الناشئة، حيث ستلتقي برئيس زامبيا هاكايندي هيشيليما الذي وصل إلى السلطة بعد إجراء انتخابات عام 2021 وفاز فيها على الرئيس المنتهية ولايته إدغار لونغون وأجرى إصلاحات سياسية واقتصادية في بلد تعرض للإفلاس بسبب مناقصات حكومية بمليارات الدولارات مولتها الصين عن طريق الديون.
والثاني متغير اقتصادي، إذ أصبحت زامبيا عام 2020 أول دولة تتخلف عن سداد الديون السيادية في أفريقيا، وفي سعيها إلى إعادة هيكلة التزاماتها الخارجية التي بلغت 17 مليار دولار أبرمت اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) الماضي "للتوصل إلى برنامج اقتصادي والحصول على حزمة إنقاذ بقيمة مليار دولار، فيما تطالب بالإعفاء من ديون تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار بدءاً من هذا العام وحتى عام 2025". ولجأت لوساكا إلى صندوق النقد الدولي بعد أن تعهدت الصين في أغسطس (آب) الماضي بالتنازل عن 23 قرضاً من دون فوائد مقدمة إلى 17 دولة أفريقية، لكن تبين أن إلغاء الديون اقتصر على قروض المساعدات الخارجية المستحقة السداد ومن دون فوائد، وكانت زامبيا تلقت معظم تلك الإلغاءات خلال الفترة من عام 2000 إلى 2019 ولم يتم النظر في إلغاء القروض الصينية الميسرة والتجارية خلال الفترة الأخيرة.
وتعرضت الصين لانتقادات غربية في خصوص الديون الأفريقية عموماً وديونها لزامبيا، تحديداً، إذ إنها تمتلك نحو ثلث ديون البلاد الخارجية ولم تساعدها في عملية تخفيفها. وتتزامن زيارة يلين إلى زامبيا مع زيارة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا إلى هناك. وكانت الأخيرة حثت في وقت سابق الصين وغيرها من اقتصادات "مجموعة العشرين" على تسريع تخفيف أعباء الديون عن عدد متزايد من الدول المثقلة بها وطالبت بالاتفاق على تخفيف عبء الديون عن زامبيا وتشاد وإثيوبيا" وهي الدول الأفريقية الثلاث التي طلبت المساعدة بموجب "الإطار المشترك" الذي أقرته "مجموعة العشرين" و"نادي باريس" للدائنين الرسميين في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 وفشل في تحقيق نتيجة واحدة حتى الآن.
ظلال قاتمة
أما أهمية جنوب أفريقيا في رحلة وزيرة الخزانة الأميركية، فتأتي في صميم تولي جوهانسبرغ حالياً رئاسة مجموعة "بريكس"، وإذ تلتقي نظيرها الجنوب أفريقي إنوش غودونغوانا وحاكم المصرف المركزي ليسيتغا كغانياغو، ربما يتم التطرق إلى ما أدلت به وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور أخيراً لجهة عزم بلادها على "التخلص من هيمنة الدولار الأميركي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر أن هذا أحد الأسباب وراء تأسيس "بنك التنمية الجديد" بإدارة مجموعة دول "بريكس" المكونة من البرازيل والهند وروسيا والصين وجنوب أفريقيا. وإذ تسعى هذه المجموعة إلى قبول أعضاء جدد في هذا التكتل "بريكس بلس" الذي يضم الاقتصادات الناشئة، فإنه سيلقي بظلال قاتمة على سياسة الولايات المتحدة الخارجية، خصوصاً عندما يتحقق انضمام السعودية والجزائر ومصر لما لهذه الدول من ثقل في المنطقة، ما من شأنه أن يوازي تكتلات إقليمية كبيرة مثل الاتحاد الأوروبي ويلغي الحاجة إلى البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين يتبعان سياسة واشنطن.
ومن المتوقع أن يتفاقم الوضع إذا توصل التكتل إلى استبدال التعامل بالدولار الأميركي إلى اليوان الصيني. أما المهدد الآخر، فهو عند قبول طلب إيران بالانضمام إلى "بريكس"، فتجد مخرجاً للالتفاف على العقوبات الأميركية والتحايل من أجل إطالة أمد التفاوض حول الاتفاق النووي حتى يتم الانصياع لشروطها، خصوصاً أنها وصلت إلى العتبة النووية بعد زيادة نسبة إنتاج اليورانيوم المخصب إلى 60 في المئة وخفضت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحدت من زيارات المفتشين الدوليين.
ويأتي توقع أن تشجع يلين حكومة جنوب أفريقيا على مواصلة انتقالها الحديث إلى الطاقة النظيفة والتخلي عن الاعتماد الكبير على الفحم، من أن هناك علاقات وثيقة في مجال الطاقة بين دول "بريكس" وبدأت بمواءمة بعض أهدافها للتعاون في الاجتماعات الدولية والمنظمات ووضع أجندة تعاون متعدد القطاعات، معلنة مخاوفها في شأن الاعتماد الكبير على المواد غير المتجددة الطاقة وعدم القدرة على التنبؤ بأسعار الوقود الأحفوري وقضايا تغير المناخ وغيرها.
ثقل جيوسياسي
يقول الدبلوماسي السوداني علي يوسف إنه "في نهاية العام الماضي أصبح الاستحواذ على مناطق النفوذ في أفريقيا والتغلغل فيها بين الصين والولايات المتحدة، ظاهراً للعيان، خصوصاً في ما يتعلق بالمجال الاقتصادي بين الشركات المصدرة لأفريقيا أو المستوردة للمواد الخام منها. ويأتي هذا التنافس ضمن الاستراتيجية التي أعلنتها الولايات المتحدة تجاه القارة الأفريقية العام الماضي وهي قائمة على الحد من نفوذ الصين في أفريقيا من خلال الضغوط التي تمارسها مع مختلف الدول الأفريقية، وتجسدت في القمة الأفريقية- الأميركية وما تبعها من تصريحات وحديث عن تطور العلاقات بين الجانبين".
وأضاف أن "الصين استمرت في سياستها منذ خمسينيات القرن الماضي، ببداية تعاملها مع الدول التي استقلت عن الاستعمار الأوروبي ودعمها في مسار التنمية وفي مواجهة الضغوط الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية".
ويرى يوسف أن "أفريقيا وقفت مع بكين في عودتها لمجلس الأمن في بداية السبعينيات ومثل ذلك انتصاراً للدبلوماسية الصينية التي كانت تهدف إلى إبعاد هذه الدول عن الاعتراف بتايوان وإقامة علاقات اقتصادية من خلال تقديم المساعدات والقروض والمنح وتطوير البنية التحتية. ونجحت في كسب أفريقيا وتطورت علاقاتها معها لأنها تحترم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وتتعامل مع البلدان الأفريقية بروح المساواة والاحترام المتبادل والتعايش السلمي وفق ما أوصت به المبادئ الخمسة لمؤتمر باندونغ التي تؤمن بها الصين إيماناً كاملاً".
وتابع "لم تكن هناك مواجهة حادة بين الصين والولايات المتحدة، لكن مع تنامي قوة بكين الاقتصادية ونمو دورها في العالم، أصبحت تقترب من مكانة أميركا الاقتصادية وتتعمق علاقاتها بأفريقيا، وحدثت المواجهة بين بكين وواشنطن واتخذت بعداً جديداً هو التنافس الواضح، بل تسعى واشنطن إلى طرد بكين من أفريقيا وهذا ما أبدته في استراتيجيتها الأخيرة".
وتوقع يوسف أنه "خلال هذا العام وفي ظل انعكاسات الحرب الروسية- الأوكرانية بشكل خاص وموقف الصين الذي يمكن اعتباره منحازاً لروسيا وأيضاً الاتفاق النووي الإيراني والعقوبات الموقعة على طهران وأزماتها مع الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ووقوف بكين مع إيران ودعمها لها وعلاقاتهما المتميزة، كل ذلك يشير إلى أن العالم الآن أصبح منقسماً إلى معسكرين، الأول على رأسه الصين وروسيا، والثاني على رأسه الولايات المتحدة، مما سيشكل نظاماً عالمياً جديداً خلال الأعوام المقبلة، تحتاج فيه هذه القوى الدولية إلى ثقل جيوسياسي وهو ما يتمثل في القارة الأفريقية".
حسم التنافس
في مقالة أخيرة له بعنوان "هل بلغت الصين أوج قوتها؟" قال الأستاذ في جامعة هارفارد جوزيف ناي، "تحتفظ الولايات المتحدة بيد قوية، لكنها إذا استسلمت للهستيريا في شأن صعود الصين أو التهاون والشعور بالرضا إزاء بلوغها الذروة، فقد تلعب أوراقها بشكل سيئ. والتخلص من أوراق عالية القيمة، بما في ذلك التحالفات القوية والنفوذ في المؤسسات الدولية، سيكون خطأ فادحاً". وهذه إشارة إلى أنه في الوقت الحالي، هناك أسباب كثيرة ستدعم التنافس بين الولايات المتحدة والصين على أفريقيا وسيشتد خلال الفترة المقبلة، لكن حسمه سيتوقف على قوة رد فعل كل منهما.