نقلت وسائل الإعلام الإثيوبية والعالمية مشاهد انسحاب القوات الإريترية من عدة مدن في إقليم تيغراي شمال إثيوبيا، وبخاصة في مدينتي أكسوم وعدوة.
وشوهدت سيارات عدة تنقل جنوداً ومركبات تحمل دبابات وأسلحة ثقيلة، يرفرف عليها العلم الإريتري تنسحب نحو الحدود الإريترية الإثيوبية، فيما يطلق الجنود على متنها أهازيج تعبر عن فرحتهم لانتهاء المهمة، فضلاً عن لافتات تحمل عبارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الشهيرة Game over (انتهت اللعبة)، فضلاً عن شعارات أخرى.
ورحب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بـ"الانسحاب الجاري للقوات الإريترية من شمال إثيوبيا" في اتصال هاتفي أجراه السبت مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. وعبر بلينكن عن "ترحيبه بهذا التطور"، مشيراً إلى أنه "أساسي لضمان سلام دائم في شمال إثيوبيا". وحض على "السماح بدخول مراقبي حقوق الإنسان الدوليين" إلى المنطقة.
تأمين الانسحاب
وانتشرت وحدات من الجيش والشرطة الإثيوبية الفيدرالية على الطرقات منذ أيام لتأمين الانسحاب الإريتري، الذي يأتي تنفيذاً لاتفاق السلام الذي وقعته الحكومة المركزية مع جبهة تحرير تيغراي بجنوب أفريقيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وظل مطلب انسحاب القوات الإريترية هو البند الغائب من التزامات الحكومة الإثيوبية تجاه الاتفاق، فيما ظل الطرف الآخر يطالب بضرورة حدوثه قبل المضي قدماً في تنزيل البنود الأخرى على الأرض.
وكانت الجبهة شرعت بتسليم أسلحتها الثقيلة للجهات النظامية منذ أسابيع، لضمان انسحاب القوات الإريترية والميليشيات الموالية للحكومة الفيدرالية، من الإقليم، وفقاً لـ"اتفاق بريتوريا" للسلام.
ونقلت مصادر إعلامية إثيوبية أن جزءاً من القوات الإريترية لا تزال ترابط في المناطق الغربية بمحاذاة الحدود الإثيوبية - السودانية، حيث يتوقع أن تبدأ انسحابها بعد انتشار القوات النظامية في مناطق "الحمرا".
فيما رجح مراقبون أن يتأخر تنفيذ الانسحاب الإريتري من تلك المناطق، نظراً إلى قلق النظام الإريتري من إمكانية فتح منفذ حدودي لجبهة التيغراي مع السودان، مما ينذر بحصولها على مساعدات من الخارج، تمكنها من إعادة بناء قواتها من جديد.
هل انتهت المهمة؟
لا شك أن انسحاب الجيش الإريتري من الإقليم الإثيوبي يمثل خطوة مهمة نحو بناء الثقة بين أطراف النزاع، لا سيما أن هذه الخطوة ظلت محفوفة بالشكوك، بخاصة من قبل الجبهة التي أعلن بعض قادتها عن "عدم ثقتهم في قدرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على إقناع حلفائه في إريتريا بضرورة الانسحاب، إذ كرر هذا الزعم كل من رئيس الوفد المفاوض جيتاشوا ردا، فضلاً عن مسؤولين عسكريين في قوات الدفاع التيغراوية، الذين رجحوا ألا يرضى الطرف الإريتري بالاتفاق الموقع، بالتالي عدم قبوله تنفيذ البند الخاص بالانسحاب، وذلك على رغم تأكيد الرئيس أفورقي، في خطاب مكتوب أذيع لمناسبة العام الميلادي الجديد، انتهاء مهام قواته وقرب عودتها إلى الديار بعد تحقيق ما سماه انتصاراً".
وأكدت كلام أفورقي الطريقة التي خرجت بها قواته وهي تردد أهازيج النصر، وتحمل لافتات مكتوباً عليها عبارة "انتهت المهمة"، التي لطالما كررها هو في إشارة إلى نهاية "جبهة تحرير تيغراي". وهي الإشارة التي يعتمد عليها مناصرو الجبهة للتشكيك بنوايا الطرف الإريتري، الذي دخل المعركة -بحسب زعمهم- برغبة جامحة لإنهاء الجبهة وكل ما تمثله من قيم ومكتسبات وقدرة على الاستمرار كطرف سياسي في إثيوبيا.
وبين انتهاء المهام المتعلقة بالمشاركة في الحرب، وخطة النظام الإريتري لإنهاء وجود الجبهة، ثمة فوارق حقيقية في فهم ماهية "المهمة الرئيسة"، وما إذا كانت قد انتهت بالفعل أم أن ثمة مهام لاحقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قراءة الانسحاب
في المقابل، رأى الناشط التيغراوي ظقاي أبرهام، أنه "من المبكر القول إن القوات الإريترية تنسحب وفق خطة السلام الموقعة، ذلك لأن هذا الانسحاب لم يأت كجزء من الالتزام المبرم في كل من جنوب أفريقيا وكينيا، بل ضمن خطة أخرى تتعلق بتحالف القوى بين آبي أحمد والرئيس الإريتري الذي لم يعترف في أي لحظة بدخوله الحرب بشكل مباشر، كما لم يرحب باتفاق السلام". وأضاف "عامل آخر يجعلنا نتريث كثيراً قبل الترحيب بخطوة الانسحاب، وهو بقاء عدد كبير من القوات الإريترية في مناطق عدة في غرب تيغراي لا سيما تلك المتاخمة للحدود السودانية. حتى اللحظة لم تعلن القيادة الإريترية عن إنهاء وجودها في تيغراي، ولم تعلن أن عمليات إعادة الانتشار التي تقوم بها هي جزء من الالتزام بأي اتفاق إثيوبي - إثيوبي، أو إثيوبي - إريتري، بل إن الخروج من بعض المدن، بهذه الطريقة الاستعراضية، التي صاحبتها أهازيج النصر توحي بأن الأمر ليس مرتبطاً باستحقاقات الاتفاق المذكور، بل جزء من صفقة تتم بين أديس أبابا وأسمرة".
وزعم ظقاي "أن ثمة تدخلات من دولة عربية دفعت الرئيس الإريتري إلى الموافقة على سحب قواته مع أهم المدن التيغراوية والبقاء على الشريط الحدودي لضمان عدم وجود منفذ بري للإقليم مع السودان، وهو ما يوافق عليه آبي أحمد أيضاً".
وبرر موافقة أديس أبابا على ذلك، بالقول "من جهة لدى كل من إثيوبيا وإريتريا الهواجس ذاتها المتعلقة بعودة تسلح قوات التيغراي، من خلال الاستفادة من دعم دولي وإقليمي، في حال توفر المنفذ البري الرابط بين الإقليم والخارج، كما يعتقد آبي أحمد أن الوجود الإريتري على الشريط الحدودي مع السودان لا يخل بالاتفاق، ذلك لأن تلك المناطق تابعة لمنطقة لوالقيت المتنازع عليها بين إقليمي الأمهرا والتيغراي".
اختبار النوايا
بدوره، اعتبر الباحث الإثيوبي تيفري نجاش، أن "لحظة الحقيقة بدأت مع بدء الانسحاب الإريتري من الإقليم المنكوب"، مؤكداً "الآن تبدأ مرحلة اختبار النوايا بين الأطراف المتنازعة، وما إذا كان الاتفاق بالفعل معبراً عن إرادة الطرفين، لا سيما مع انتهاء الحجج بخروج الطرف الخارجي من المعادلة". وأضاف نجاش أن "أهم النقاط العالقة كانت تتمثل في مدى قدرة أديس أبابا على تحقيق هذا الهدف، والالتزام بنشر قواتها في الإقليم".
واستطرد "لكن الامتحان الأكبر يتعلق بمدى قدرة الطرفين على بناء جسور الثقة، للتأسيس للمرحلة الانتقالية، التي تتطلب إطلاق حياة سياسية صحية بعيداً من تبادل الاتهامات"، مضيفاً "لعل أكبر تهمة طاردت أديس أبابا كانت الاستعانة بقوة خارجية، وعدم قدرة الجيش النظامي وقوات الأمن على فرض الأمن والسلام".
وقرأ نجاش تأخر هذه الخطوة من خلال اشتراط جبهة التيغراي "تزامن تسليم سلاحها مع خروج القوات الإريترية من الإقليم"، مضيفاً "في اعتقادي، الآن تم إبطال كل الحجج التي ظلت تقدم كسبب لتفخيخ الاتفاق التاريخي بين الطرفين".
وتوقع أن يسهم المجتمع الدولي في دعم وتقوية هذه الخطوة من خلال رفع الحظر الاقتصادي والتجاري المفروض على البلاد نتيجة الحرب التي دامت لعامين كاملين. واعتبر أنه "لم تعد أمام المجتمع الدولي الآن أي ذرائع لإبقاء العقوبات الاقتصادية، بل لديه مسؤولية تاريخية لدعم التطبيق المرحلي للاتفاق الموقع برعايته"، محذراً من أن "فشل هذا الاتفاق لن يعني إلا العودة إلى المربع الأول المتمثل في المواجهة العسكرية".