كيف ينتج المجتمع المعرفي قارئاً عدواً للإبداع؟ وهل يتحول القارئ إلى عدو للكاتب الحر؟
وكيف يصبح القارئ عدواً للنص وعدواً لنفسه في الوقت نفسه؟ وما طبيعة القارئ العدو للكاتب المبدع الجريء؟
أسئلة نطرحها ونحن نحاول تفكيك علاقة الكاتب بقرائه، علاقة النص المكتوب بالقارئ، يحدث هذا في الجزائر وينسحب كثيراً على القارئ في بلدان شمال أفريقيا. ويتجلى ذلك بشكل واضح في القارئ الأدبي المعرب، القارئ المعرب هنا كظاهرة أيديولوجية طاغية، وهذا لا يعني مطلقاً التعميم، فهناك اختراق يتحقق وبصعوبة بدأ يلاحظ في القراءة الأدبية والروائية، خصوصاً في الجزائر.
هذا القارئ الذي تشكل عقله وذوقه الجمالي واللغوي ووعيه السياسي والاجتماعي في مدرسة محاصرة بفكر يخاف المغامرة ويحتمي بالماضي ليصنع منه بديلاً لمستقبله، وتشكل أيضاً في فضاء مسيج بالقمع والممنوعات والنفاق الأخلاقي والاجتماعي والمحاصر بالخطاب الديني الدعوي المتعصب الموجود على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى قنوات التلفزيونات وفي المواقع الإرهابية التي تضع الأدب هدفاً لمقاصدها الدعائية.
في الواقع السوسيو-ثقافي ومن الناحية التاريخية، درجت العادة أن يشكل النظام السياسي القمعي في أي بلد كان، ثيوقراطياً كان أو عسكرياً أو مالياً أو إعلامياً، العدو الأول لأي كاتب مبدع، بطبيعة الحال حين يكون الأخير (الكاتب) في خندق الحداثة والاجتهاد والتنوير والعقل والحرية.
أن يكون للكاتب المبدع العقلاني عدو ممثل بنظام سياسي منتهي الصلاحية، غير عادل، فتلك معركة نبيلة ومفهومة وضرورية، وهي معركة الكاتب الصادق، فدور الكاتب في الإبداع ليس الخروج في حرب ضد النظام السياسي بخطاب عار وفج، فهذه مهمة الحزبي المنظم والمنتظم، أما المبدع، فمعركته يقودها بزراعة السؤال والاجتهاد في النص بناء ولغة وفي الفكر فلسفة، وبالإمتاع من خلال العقل والإمتاع بالسخرية وباللغة وبالتورية وهو في كل ذلك يبحث عن تخليص الفرد والجماعة من دون خطابات مباشرة فجة، من شرور التخلف والعبودية المفروضة أو الاختيارية، وأصعب العبوديات هي العبودية الاختيارية حين تتمكن من الفرد والجماعة، وهذه ظاهرة قائمة في مجتمعاتنا المعاصرة.
من هنا فمهمة الكاتب الأساسية، من خلال نصوصه الإبداعية في الرواية أو الشعر أو القصة، هي بث فلسفة الفوضى الخلاقة والمخصبة في المؤسسات المشرفة على الثقافة والإبداع، من خلال تطعيم القارئ بسلسلة من الأسئلة التي تعيد البهجة إلى الحياة.
الكاتب المبدع هو من يمارس عملية "التشويش" الفلسفي العارف ضد القناعات الثابتة الجامدة، التشويش الفلسفي على "المحنط" في تفكير الإنسان وفي سلوك الجماعات الاجتماعية.
قد يكون أيضاً للكاتب المبدع خصوم من النقاد الذين يمارسون سياسة القراءة المؤسسة على الإحالات المرتبطة بنظام معرفة معين يختلف ونظام المعرفة الفلسفية التي يؤسس عليها الكاتب المبدع نصه، خصومات يشنها ناقد تقوم ذائقته الجمالية على أسس فلسفية معينة تتقاطع وجماليات الفلسفة التي بنى عليها الكاتب منجزه الإبداعي، وهذه معركة شريفة حين تظل في باب الإبداع بكل فلسفاته المختلفة، وهذه الخصومات من إيجابياتها أنها تحرك أسئلة عند الكاتب وأخرى عند الناقد، بالتالي تعود بالإيجاب على الساحة الثقافية والسياسية وتعيد للنخب موقعاً في بناء الجماعة والمؤسسات الثقافية المعاصرة المتنوعة. وتلك سنة الحياة الأدبية والثقافية، ومن دونها لا يمكن للإبداع ولا للمبدعين أن يطوروا رؤيتهم للكتابة كمرافعة جمالية عن جمال الحياة.
وعبر تاريخ المعرفة والإبداع كانت هناك وباستمرار خصومات وعدم الرضا ما بين الكاتب المبدع من جهة والناقد من أخرى.
لكن المشكل القائم لدى كثيرين من الذين يمارسون فعل النقد من الجامعيين في الجزائر هو الخلط ما بين التعامل مع الإبداع كتصور معين للعالم، له منطقه وفلسفته وله أيضا حريته، وميادين أخرى في "المعرفة" كالفقه، بخاصة، فتجد الناقد في معظم الأحيان يفسر الرواية كما يفسر بعض الآيات من القرآن الكريم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العداوة التي تقع ما بين المبدع والناقد ليس سببها الاختلاف الذي ربما يقع بينهما ولكن هذه العداوة تنتج جراء ارتداء الناقد جبة رجل الدين ويبدأ بمحاكمة النص الإبداعي من موقع المفتي، وتتحول القراءة إلى إصدار فتاوى مليئة بأحكام "التكفير" و"التخوين" و"التهويد" و"التنصير" و"الزندقة" وما شابه ذلك. وهذا هو الخطر على الإبداع والمبدعين وعلى الدين نفسه.
ربما يكون للكاتب أيضاً عدو آخر، إنه صاحب حرفته، وهذه العداوة تصنف في باب الغيرة، وهي ثقافة جارية ومعروفة في أوساط الكتاب والمبدعين والفنانين بشكل عام ومنذ القرون وفي كل الثقافات الإنسانية، وقد تكون الغيرة حال إيجابية في المنافسة والتحفيز والاجتهاد والبحث عن التجاوز، تجاوز الذات وتجاوز الآخر، ولكن كثيراً ما تتحول هذه الغيرة البناءة إلى حال مرضية عند بعض الكتاب، فيصبح الكاتب المريض بالغيرة الفاسدة يبحث بالسبل شتى لقتل الآخر وتحييده من الوجود الفيزيقي والثقافي.
وفي الجزائر يتآمر كثير من الكتاب المصابين بداء الغيرة المرضية مع المؤسسات الثقافية التابعة للدولة من أجل إقصاء الآخرين بمجرد وصولهم إلى بوابة هذه المؤسسات، فيتحولون إلى "أبواق" لمسؤولي هذه المؤسسات الثقافية من أجل الحصول على حجز غرفة في فندق أو سفر في بعثة رسمية أو الحصول على بطاقة طائرة، وربما يصبح هؤلاء الكتاب كتبة تقارير ضد أصدقائهم من الكتاب موجهة إلى أجهزة الأمن من أجل تشويه سمعة هذا الكاتب أو ذاك، وحتى من دون أن يطلب منهم ذلك، ولا يتردد بعضهم في ترديد خطابات رجال الدين المتطرفين كلما كان المقصود من هذا الخطاب تشويه كاتب آخر يختلف عنهم في الرؤية والفلسفة.
بتحريض أو إيحاء من مسؤولي المؤسسات الثقافية، تمارس الحرب ضد الكاتب الحر، وتتم شيطنته والعمل على تحويل صورته إلى شخص "منبوذ" يجب عزله وتحويله إلى حال "الذئب المعزول".
ومن طبيعة الصراع وصحته أيضاً أن يكون للمبدع العقلاني المتحرر خصم من رجال الدين المتشددين الذين يقرأون الأدب الحر على أنه "قلة أدب" أو "خروج عن التقاليد" مهما كانت هذه التقاليد، يقرأون الأدب ويفسرونه بعين "الأخلاق" التي تحوي كمية كبيرة من الشتائم والسباب والتجريح، وكلما تحالف رجل الدين المتطرف أو "الديني صاحب المهمة" Le religieux du service مع النظام السياسي، وهذا يحدث في غالب الأحيان، فالنظام السياسي يبحث عن "الفقيه" كصوت له، يصوغ خطاباته ورؤيته في قالب ديني، خطاب ديني للمرافعة الإلهية عنه، كما يبحث أيضا عن الكاتب والإعلامي في مهمات أيديولوجية وموسمية.
في ظل نظام اجتماعي وثقافي وأدبي يتميز بحضور ناقد جامعي يريد أن يكون فقيهاً يوم الجمعة يفسر سور القرآن الكريم وسيميائياً يوم السبت وبنيوياً يوم الأحد وناقداً ثقافياً يوم الإثنين، وبحضور أيضاً لسلطة رجل الدين المتشدد، لا يخفي إعجابه بـ"داعش" في الحلقات الخاصة، يفتي بما يبرر خطاب النظام الجديد وقد كان البارحة مبرراً لخطاب نظام سقط، مات الملك عاش الملك، في ظل جو معطوب كهذا لا ننتظر من القارئ إلا أن يكون على شاكلة هذه "الآلة" الجهنمية التي تطحن كل أمل وتغتال كل عقل وتعادي كل اجتهاد.
هذا الواقع الاجتماعي والثقافي والديني والأدبي المشوش خلق قارئاً كسولاً، يختصر أحكامه باستعارة مفردات العداوة من محيطه الثقافي والجامعي والديني لتوجيهها ضد المبدع الذي يكتب خارج القطيع، يكتب بإيمان وعزم وقناعة واختلاف واحترام.
لقد أصبح هذا الفضاء الثقافي والأدبي بنخبه الموسمية الضائعة والمحاصر بوسائل التواصل الاجتماعي الحاملة لمختلف الأمراض السياسية والثقافية والأدبية والأخلاقية هو من ينوب عن القارئ في فعل القراءة، فنتج عندنا قارئ لا يقرأ ومع ذلك فهو يناقش وبحدة الروايات والقصة، كل ذلك انطلاقاً مما تفرزه الساحة النقدية من أحكام سطحية مريضة بعيدة من الأدب بمفهومه الجمالي والفلسفي العميق.
إن القارئ عدو الكاتب المبدع هو قارئ لا يقرأ بل عبارة عن آلة يتم شحنها غوغائياً من قبل نخب مشبوهة تقتات على المؤسسات الثقافية الرسمية المشلولة أو الدينية المتطرفة فتخلق ضجيجاً على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل كبح كل من يرغب في الخروج عن القطيع.
القارئ الذي لا ينزف في لحظة القراءة هو قارئ يقرأ نصوصاً ولدت ميتة، والنزيف هو حالة إنتاج السؤال، إنتاج الحيرة المخصبة والخصبة.
القراءة هي حال فردية، ولا تتحقق حرية القارئ إلا حين تتحقق لديه حال التحرر من المحيط المعطوب، لكن هذا المحيط لا ينام يحاصره فلا يترك له الاستمتاع بأن ينفرد بنفسه، فهم يفسدون عليه وحدته التي هي منتجة الأسئلة والمراجعات.
نظرياً، كل قارئ حر يحلم برفوف مكتبة مفتوحة إلا القارئ الجزائري فهو محكوم عليه بترديد أحكام يقرأها مملاة من قبل النخب المعطوبة التي تمسك بزمام الأمور، حتى إشعار آخر.