لا شك أن الذين شاهدوا فيلم رومان بولانسكي "عازف البيانو" لا يمكنهم أبداً أن ينسوا المشهد الذي يصور عازف البيانو البولندي الهارب متخفياً من النازيين وقد اكتشف خلال هربه من بيت إلى بيت جهاز بيانو في واحد من تلك البيوت فلا يكون منه إلا أن يجلس إليه غريزياً ويبدأ العزف. وهنا يدخل الشقة ضابط نازي يذهله العزف فلا يهتم بكون العازف يهودياً، بل يخبئه ويؤمن له حماية تنقذه من مصير أسود. صحيح أن هذه الحكاية حقيقية، لكنها تذكر غلاة العارفين بالموسيقى بحكاية حقيقية أخرى تدور بدورها من حول عزف منقذ على البيانو وهي حكاية المركيزة هيلين دي مونتجيرو التي قبض عليها الثوار خلال الحقبة الأكثر إرهاباً في الثورة الفرنسية وشرعوا يحاكمونها تمهيداً لإعدامها بالمقصلة وتهمتها الوحيدة كونها مركيزة أي تنتمي في منطقهم إلى "أعداء الشعب". كانت هيلين في الـ30 من عمرها وكانت واثقة من أن المقصلة حقاً في انتظارها بعد أن سبق لهذه المقصلة أن قطعت رؤوساً كثيرة، لكنها فوجئت بواحد من قضاتها يسألها عما إذا كانت لها مهنة في الحياة غير كونها من "النبلاء سارقي أمول الشعب ومذليه"، فأجابته وهي ترتجف رعباً أنها عازفة بيانو. تفرس فيها القاضي وسألها على سبيل المزاح لا أكثر عما إذا كانت قادرة على أن تعزف نشيد "المارسياز" الذي كان يعتبر ولا يزال حتى اليوم، نشيد الثوار والرمز الفني لجمهورية الثورة. فهزت رأسها إيجاباً وقد ازداد رعبها ورجفانها حتى كادت يغمى عليها وهي لا تدري لماذا طرح عليها هذا السؤال.
بين الحياة والموت
لكن القاضي ابتسم بشيء من التحدي وقال لها: "إذاً سنحضر لك أيتها المواطنة آلة بيانو لتعزفي المارسياز أمامنا غيباً ومن دون نوتة، فإن فعلت سنعفو عنك. أما إذا عجزت عن ذلك وارتكبت أي خطأ في العزف فلسوف تكون المقصلة في انتظارك حتماً!". صمتت المركيزة ولم تحر جواباً. وراحت تنظر حولها بحيرة والرعب يكاد يقتلها مستبقاً المقصلة. وفيما هي تتساءل عما سيكون عليه أمرها، كان القاضي قد أقنع رفاقه بمنطقه فأمروا بأن يؤتى ببيانو إلى القاعة فأُتي به وأجلست المركيزة إليه لتنفذ حصتها من رهان القاضي. وهي ما إن استقرت أمام ذلك الشيء الذي تعرفه أكثر من أي شيء آخر في حياتها حتى انطلقت تعزف نشيد "أعدائها" عزفاً أقل ما وصف به أنه رائع وفريد من نوعه. كان عزفاً زال منه الخوف تماماً وانطلقت فيه أصابع المركيزة حرة من أي خلفية فكرية وربما من دون أن تتنبه إلى أي شيء آخر، هي المولهة بالعزف منذ طفولتها. والأهم من ذلك أنها ذات لحظة التفتت بصورة عفوية صوب القاضي صاحب الفكرة ففوجئت به يبتسم مشجعاً وبطيبة محب حقيقي لهذا الفن، فابتسمت له بدورها وزاد عزفها روعة إلى درجة راحت معها تنوع على اللحن بشكل لا يفعله إلا غلاة العازفين المبدعين وهنا حدث ما هو مذهل. فلئن كان القضاة والحضور جميعاً قد انطلقوا يدندنون اللحن بدورهم فإنهم سرعان ما تشجعوا أكثر وأكثر وقد أدهشتهم ليس فقط الابتسامة العريضة التي راحت ترتسم من دون تردد على محيا السيدة العازفة، بل كذلك ارتفاع أصوات الحرس والثوار وكل الموجودين خارج القاعة وهم يتشاركون معاً في غناء النشيد وليس دندنته فقط. ولا شك أن القضاة فكروا بأنه لا يمكن لمثل هذ العزف الاحتفالي إلا أن يكون صادقاً، بالتالي "لا شك أن العازفة صادقة بدورها في مشاعرها الجمهورية حتى وإن كانت مركيزة". وكانت النتيجة أن أطلق سراحها وراح الحراس البسطاء يهتفون لها محيين.
عدوة الشعب
فمن كانت تلك السيدة، وكيف سلكت من دون أن تخطط لذلك، سبيل الخلاص من كونها "عدوة للشعب"؟ هي ببساطة وكما سيصفها لاحقاً أحد أعيان الدولة الكبار في زمن عودة الملكية البارون دي فينيللي: "الموسيقية المرأة الوحيدة الموهوبة التي استمعت بنفسي إلى عزفها طوال حياتي". أما مؤرخو الموسيقى فقد عرفوها دائماً بكونها عازفة بيانو ومؤلفة موسيقية ومدرسة موسيقى لا نظير لها في زمانها، إلى درجة أنها بقيت لقرنين وأكثر المؤلفة الوحيدة التي كان كتاب التعليم الذي وضعته في شبابها بعنوان "الدرس الكامل لتعليم العزف على البيانو" الكتاب الوحيد المعتمد لتدرس هذا الفن. وكانت مدارس كثيرة لا تزال تعتمده حتى بدايات القرن الـ20 بحسب مؤرخي حياتها. ومع ذلك تبدو هيلين اليوم منسية ولم يبق من ذكراها سوى بعض الحكايات المتفرقة التي لا شك أن أهمها حكاية العزف الذي أنقذها من الموت تحت المقصلة. ومن هنا ما يقوله مؤرخ الموسيقى الفرنسية المعاصر جيروم دوريفال من أنه حين راح يشتغل على البيوغرافيا الوحيدة التي كتبت لها، احتاج لجهود تواصلت ما يزيد على 10 سنوات كي يجتمع له بعض الخبريات والحكايات والشهادات ما جعله يطرح في سياق البيوغرافيا نفسها، أسئلة كثيرة حول صحة ما كان يحكى له!
أول أستاذة في الكونسرفتوار
ومع ذلك فإنها عرفت بكونها أول امرأة توصلت للتدريس في كونسرفتوار باريس، وذلك في وقت تلا حكاية نشيد المارسياز وباتت تلقب بـ"المركيزة الجمهورية" من دون أن تعبر عن أي آراء سياسية. ومهما يكن من الأمر فإنها كانت تفخر طوال حياتها بابتعادها عن السياسة وتكريس حياتها للفن الذي تعشقه: فن الموسيقى. واللافت أنها وهي التي كانت تعتبر نفسها سائرة على خطى شوبرت في ذوقها الفني المرهف، وعلى خطى زميلها عازف الكمان جيوفاني باتيستا فيوتي، كانت من العازفات النساء القليلات اللاتي يعزفن على المسرح أمام الجمهور العريض، لا سيما منذ التقت فيوتي في عام 1885 وقررا أن يتشاركا في حفلات عزف ثنائي بكونشرتات على الكمان والبيانو. ولقد كان النجاح حليفهما، لكن هيلين اجتذبت جمهوراً أعرض وليس فقط في صفوف الجمهور بل خصوصاً في صفوف أصحاب المهنة إلى درجة أن الموسيقي جان دوساك الذي كان يعتبر نابغة زمنه، قد كتب لها عدة سونيتات كانت تؤديها عزفاً وآيات السعادة تغمر ملامحها، لكن عزفها أمام الجمهور خلال حقبة ما قبل الثورة لم يستمر طويلاً. فلقد راح أبناء طبقتها بحسب ما تروي المؤرخة بولين شاماما، يهاجمونها لكونها تبتعد عن محيطها الأرستقراطي لتختلط بالرعاع عازفة لهم. ومن هنا نراها وهي المولعة بأن تشرك الناس في افتتانها بعزف باخ وموتسارت تتخلى عن ذلك كله وعلى الأقل حتى قيام الثورة. ويبدو لنا أن هذه الواقعة التي كانت معروفة قد أسهمت في رفد ملفها بما شفع لها أمام "المحكمة الثورية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتقال في النمسا
وقد لا يكون بد هنا من أن نذكر شيئاً عن الظروف التي اعتقلت فيها قبل عودتها إلى الحياة العامة إثر خلاصها من المقصلة. فالحال أن الأجواء المحمومة التي صحبت بدايات الثورة جعلت هيلين تقرر مبارحة فرنسا لفترة تنشر خلالها موسيقاها في إنجلترا وتستجم في برلين ثم نابولي ريثما تهدأ الأمور في وطنها فترافقت مع زوجها المركيز وقاما بجولتهما التي كان يفترض أن توصلهما إلى فيينا حيث سيقيمان لفترة. وفي الطريق من نابولي إلى العاصمة النمساوية قبضت عليهما القوات الأمنية التي أودعتهما السجن في انتظار التحري عن كيفية إفلاتهما من براثن الثوريين باعتبار أن كل فرنسي يشعر بشيء من الراحة يجب أن يكون مشبوهاً. وفي السجن سرعان ما مات زوجها وهي إذ أطلق سراحها عادت لباريس غير عارفة بأن الفرنسيين هذه المرة لها بالمرصاد. ومن دون أن تتوقع على أي حال أن عزفها نشيد "المارسياز" سيكون فعل خلاصها. ومهما يكن فإن هيلين مونتجيرو ستعيش لفنها بعد ذلك الفاصل المريع في حياتها. وستعيش طويلاً بعد ذلك فارضة حضورها في الأجواء الموسيقية في فرنسا، ولكن كذلك في إيطاليا تتقلب العهود والأنظمة وتندلع الثورات وتخبو من دون أن يبدو أن ذلك يعنيها في شيء. ولقد رحلت هيلين عام 1836 عن عمر كان يتيح لها أن تروي حكاية نجاتها من الإعدام كفاصل مسل في حياتها وتنظر إلى أي آلة بيانو تلوح لها معترفة لها بالفضل في بقائها على قيد الحياة واعدة بأنها سترد الجميل في كل لحظة من لحظات حياتها وكان ذلك ما فعلته.