ثمانمئة صفحة من السرد الرشيق تتخلّلها استراحات وصفية دقيقة هي الحيّز الورقي الذي تشغله الرواية الإنجليزية "البيضاء القاتلة" لصاحبها (صاحبتها) روبرت غالبريث، الصادرة ترجمتها العربية حديثاً عن دار نوفل، تعريب كارول حداد. وغالبريث هو الاسم المستعار الذي تختبئ وراءه، الكاتبة البريطانية الشهيرة جداً، ج. ك. رولينغ، صاحبة سلسلة هاري بوتر الشهيرة، تستخدمه في سلسلة المحقق سترايك التي تشكّل "البيضاء القاتلة" حلقتها الرابعة، الصادرة بالعربية عن الدار نفسها، بعد "نداء الكوكو"، "مهنة الشر" و" دودة الحرير". وهي رواية بوليسية تجري أحداثها في مدينة لندن ومقاطعات مجاورة لها، عشية الألعاب الأولمبية التي حصلت فيها عام 2012، ويقوم فيها المحقق كورموران سترايك وشريكته روبن إيلاكوت بتفكيك جريمة مركبة، وهما الشغوفان باكتشاف الألغاز وحلّها، في محاولة منهما لإعادة فرض النظام ووضع الأمور في نصابها. ونتعرّف، من خلال هذه المحاولة، إلى بعض مظاهر الفساد والطبقية والازدواجية والعنصرية والتمييز الديني والتفكك الأسري والعنف المنزلي في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية.
في العنوان، "البيضاء القاتلة" صفتان اثنتان لموصوف واحد محذوف، تشير الأولى منهما إلى لون معين، وتشي الثانية بفعل محدّد يرتبط بالفضاء البوليسي؛ وهو فعل يفترض وجود جريمة قتل وقاتل وقتيل، ويستدعي التحقيق وبناء المقتضى على هذا الفعل. وبذلك، لا يقول العنوان الكثير. أمّا في المتن فـ"البيضاء القاتلة" متلازمة تتعلّق بموت المهور الناصعة البياض التي تولد بصحة جيدة لكنها تعاني خللاً في الأمعاء يحول دون قدرتها على التبرّز ما يؤدي إلى نفوقها بعد أن تكون أمهاتها قد تعلّقت بها (ص429). وهو ما يتمظهر في بعض الوقائع الروائية.
البداية والنهاية
بمعزل عن البداية النصية للرواية التي تتمظهر في نفور المحققة العروس روبن إيلاكوف من عريسها ماثيو كانليف في يوم عرسهما وانجذابها إلى رب عملها المحقق كورموران سترايك، ما يشي بعلاقة ملتبسة بين الشخصيات الثلاث، وتترتب عليه نتائج معيّنة خلال الرواية. فإن البداية الفعلية للأحداث تتمثّل في اقتحام الشاب المضطرب عقلياً بيلي نايت مكتب المحقق سترايك في شارع الدنمارك ليخبره أنه رأى طفلة تُخنق، منذ سنين، وتُدفن في الوادي قرب منزل والده، من جهة، وفي اتصال يجريه وزير الثقافة جاسبر تشيزيل بسترايك يصر فيه على تكليفه بمهمة استقصائية، من جهة ثانية. بينما تتمظهر النهاية الفعلية للأحداث في تفكيك لغز الطفلة وتحديد مبتزّي الوزير واكتشاف قتلته والقبض عليهم. وبين البداية والنهاية، كانت ثمة وقائع روائية كثيرة، حصلت في أماكن عدة وفي أزمنة مختلفة، وانخرطت فيها شخصيات كثيرة، سواء من موقع الفاعلة فيها أو المنفعلة بها، على أن الشخصيتين المحوريتين اللتين تفعلان فعلهما في مجرى الرواية، وتتمحور حولهما الأحداث، وتحفّ بهما الشخصيات الأخرى، هما المحقق كورموران سترايك وشريكته روبن إيلاكوف اللذان ارتبط اسماهما بالقبض على سفاح شاكلويل، ويتقاطعان في نقاط عدة.
يتحدّر سترايك من أسرة مفكّكة، ويعيش طفولة بائسة، ويخسر نصف ساقه في أفغانستان، ويرفض الوظائف التي عرضها عليه أصدقاؤه، ويختار أن يفتح وكالة خاصة للتحقيق إشباعاً لشغفه في اكتشاف الألغاز وحلّها وفرض النظام، وهو ما يلتقي فيه مع روبن إيلاكوف الشغوفة بالتحقيقات، فيضمّها إلى وكالته للعمل معه، ويشكّلان معاً ثنائياً نموذجياً، يحقق الكثير من النجاح والشهرة. ويتقاطعان في الشغف والذكاء ودقة الملاحظة وحسن الربط والشجاعة والقدرة على التحمّل ومواجهة الأخطار والمثابرة على العمل وحب المغامرة وانجذاب أحدهما إلى الآخر، مما يتمخّض عن محققَيْن نموذجيَّيْن تنهال عليهما عروض العمل. لذلك، حين يقتحم الشاب المضطرب مكتب سترايك ويتصل به وزير الثقافة لا يجد خيراً من روبين شريكةً له للقيام بالمهام المطلوبة لجلاء الحقيقة، فينخرطان معاً في العمل، ويستعينان بآخرين، ويقومان بالتحقيق مع عدد كبير من المعنيّين، ويستخدمان مروحة واسعة من آليات التحقّق والتحقيق، ويحققان النتائج المرجوّة في نهاية المطاف.
آليات العمل
في إطار العمل على حل القضية المركبة، المتمثلة في خنق طفلة وابتزاز وزير وقتله، يستخدم الثنائي ومساعدوه آليات عمل كثيرة في سبيل الوصول إلى الحقيقة، من قبيل: مراقبة المشتبه به، اقتفاء الأثر، التنصّت، التخفّي، تغيير الاسم والشكل واللكنة، التصوير، استقصاء المعلومات، الاستجواب، الاستدراج، استراق السمع، انتحال الشخصية، تسجيل الأحاديث، العمل الموقت، الزيارة الميدانية، اختراع الأخبار الكاذبة، المناورة، نصب الشراك...، وسواها من التقنيات التي تندرج في باب الغاية تبرّر الوسيلة. على أن المحققَيْن كليهما يتوزعان الأدوار، ويتبادلان المعلومات ويحللانها، ويخلصان إلى استنتاجات معينة يبنى عليها. وهما ما إن يبرز رأس خيط ما حتى يتبعاه إلى أن ينقطع أو يؤدي إلى رأس خيط آخر، ولا يُغفلان أي تفصيل مهما كان صغيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، يرسم غالبريث شخصية المحقق النموذجي الذي لا تفوته شاردة أو واردة ما يؤدي إلى الوصول إلى الحقيقة بنهاية التحقيق. وهذه الآليات يجري استخدامها في الرواية، بشكل أو بآخر، تبعاً لمقتضى الحال، بحيث تشمل المتعالقين مع الشاكي والمشكو منه، وتتناول أفراد الأسرة والأصدقاء والجيران والزملاء وسواهم ممّن يتعالقون معهما بعلاقة أو بأخرى. وتكون الطامة الكبرى حين يتبين بنتيجة التحقيقات أن المتورطين في عملية قتل الوزير جاسبر تشيزيل هما زوجته كينفارا وابنه رافاييل لأسباب مختلفة تتعلق بكل منهما، ما يشي بتفكك أسري، هو أحد الأعطاب التي يعاني منها عالم الرواية المرجعي.
أعطاب اجتماعية
إلى ذلك، إذا كانت "البيضاء القاتلة" رواية بوليسية تتوخى الإثارة والتشويق، وهو ما ينجح الكاتب/ الكاتبة في تحقيقه، فإنها، وفي إطار هذه البوليسية، تتناول الأعطاب التي يعاني منها العالم المرجعي الذي تنطلق منه وتحيل إليه، من قبيل، التفكّك الأسري، العنف المنزلي، الخيانة الزوجية، العلاقات بين الجنسين، ازدواجية الشخصية، استغلال النفوذ، الفساد السياسي وغيرها. وهو ما تشي به سلوكيات الشخصيات الروائية المختلفة. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن المحقق سترايك، على رغم مهنيّته، يستقطب النساء الجميلات ويرفض الزواج ويغرق نفسه في العمل تعويضاً عمّا ينقصه على المستويين الجسدي والنفسي. والمحققة روبن، على رغم مهنيّتها، تفتقر إلى الاستقرار، فتنتابها نوبات من الهلع، وتريد إثبات كفاءتها المهنية، وتتعرّض لخيانة زوجها لها، وتميل نحو رب عملها وتشعر بالأمان بقربه.
والوزير تشيزيل يستغل منصبه ويخشى فقدانه، ويسيء معاملة أسرته ويميّز بين أبنائه ويُعنّف زوجته، ويرزح تحت ضغوط نفسية هائلة، وينتهي نهاية قاتمة. وزوجته كينفارا تفقد طفلها بعد ولادته وتعيش عدم استقرار زوجي وعاطفي وتخون زوجها مع ابنه رافاييل وتشترك في قتله. وابن الوزير رافاييل يعاني النبذ والتهميش والدونية الأسرية، ويغار من أخيه البكر المستحوذ على كل شيء، ويحقد على أبيه ويخونه مع زوجته ويتورط في قتله. والوزيرة ديلا وين، على رغم إعاقتها، تتستّر على زوجها المختلس وترتبط بعلاقة مشبوهة مع مساعدها الذي يصغرها سناً. وزوجها غيرينت وين يستغل نفوذها ويمارس الاختلاس والابتزاز. وهكذا، تتمخض الرواية، على رغم بوليسيتها، عن مجموعة أعطاب تعاني منها الشخصيات الروائية المختلفة، وتعكس الأعطاب المستشرية في المجتمع الذي تنتمي إليه. وبذلك، لا تحول بوليسية الرواية دون طرح الأسئلة الاجتماعية والسياسية على بساط البحث.
وعلى رغم هذه المجريات القاتمة، في صلب الرواية، التي تعبّر عن واقع معطوب، فإن افتراق بطلي الرواية، سترايك وروبن، في نهاية الرواية، على أمل لقائهما مجدّداً، في غضون ساعات قليلة، معطوفاً على انجذاب كلٍّ منها إلى الآخر، يفتح الرواية على وعد بالسعادة والحب، ويضعنا أمام نهاية مغايرة للبداية والمجريات اللاحقة بها.
في "البيضاء القاتلة"، يبدي غالبريث/ رولينغ قدرة استثنائية على السرد والأخذ بمجامع القارئ فلا يستطيع مقاومة القراءة حتى يأتي على الرواية على رغم ضخامتها. ويظهر براعة في التركيب والتفكيك. ويحيط بالتفاصيل الصغيرة ويحسن توظيفها. ويطلق السرد على رسله في إيقاع هادئ على رغم اشتمال الرواية على منعطفات درامية. ويتقن الوصف بما يؤثث الأمكنة الروائية المختلفة. ويتحرّك بسهولة ويسر بين السرد والوصف. ولعل هذه المواصفات وغيرها هي التي تمنح الرواية روائيتها وبوليسيتها، وتجعلها مصدراً للمتعة والفائدة.