رغم أن الاقتصاد هو المتصدر دائما في أجندة سباق الرئاسة الأميركية لكنه قد لا يكون العنوان العريض في الانتخابات المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. فقد بدا الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهتما بتوجيه الرأي العام نحو قضايا أكثر تشددا ضد المهاجرين ولعها تكون أكثر منها اقتصادية في آخر لقاء له مع ناخبيه في ولاية فلوريدا الأسبوع الماضي.
وركزت التحليلات الأميركية على محاولة ترمب إثارة النعرات الإجتاماعية لقسم الجماهير بشكل حاد بين يمين ويسار، وإلغاء الوسط الذين كانوا دائما مربط الفرس في أي انتخابات أميركية.
وينقسم الناخبون الأميركيون في الانتخابات الرئاسية عادة على قضايا اقتصادية متعلقة بتكاليف المعيشة والدخول والوظائف، لكن الاقتصاد الأميركي يعيش اليوم واحدة من أفضل سنواته منذ الأزمة المالية في العام 2017، ونسبة البطالة فيه هي الأدنى منذ نحو 50 سنة، ما يجعل اللعب على وتر القضايا الاقتصادية أمرا غير حاسم بالنسبة إلى ترمب، الذي لا يريد ترك فرصة لمنافسيه من الحزب الديموقراطي بتغيير معادلة الفوز في الانتخابات المقبلة.
قضايا الديموقراطيين
المرشحون الديموقراطيون ونوابهم في البرلمان الأميركي يركزون على قضايا اقتصادية تعتبر ملفتة وجديدة على الساحة السياسية الأميركية، اذ هناك توجه نحو فرض أجندة أشبه ما تكون بخطط اشتراكية، تهتم بقضايا أخفق فيها الجمهوريون، وأهمها الصحة والتعليم العالي.
ويريد الديموقراطيون من هذا التوجه تحقيق عدالة اجتماعية أكبر من خلال جعل الرعاية الصحية ضمن إمكانيات شرائح عدة من المجتمع الأميركي، أو شبه مجانية، على غرار المنظومة الصحية في الدول الأوروبية الاشتراكية. أما التعليم العالي فهناك مطالب بأن يكون متاحا للطلاب الأميركيين من دون تكبد قروض مرهقة، حيث يحتاج الطالب بعد تخرجه إلى سنوات لتسديدها، بينما يقع كثيرون في أزمة مالية وعجز عن السداد.
"أوباما كير" انتصار ديموقراطي
وكان الرئيس الأميركي السابق براك أوباما تمكن من تحقيق إصلاح جزئي لمنظومة الرعاية الصحية، أو ما يُعرف بـ"أوباما كير"، وهو أمر سمح بأن يتم تغطية شرائح اجتماعية أوسع، بينهم العاطلون عن العمل، بمنظومة رعاية صحية متكاملة وشبه مجانية، والسماح للأفراد بشراء تأمين صحي من الشركات بعد أن كان ذلك حصريا على الموظفين في القطاع الخاص، وهو ما اعتبر إنجازا ضخما للديموقراطيين في إصلاح قطاع الصحة الذي يصنف بين الأكثر فسادا والأقل كفاءة ماليا في الولايات المتحدة.
دوامة الصحة وشركات التأمين
وحاليا يفترض على الموظفين شراء تأمين صحي من شركات التأمين، إذا أرادوا أن يكون لديهم تغطية صحية للأمراض والعلاجات وزيارة الأطباء، لكن ما يحدث أن المستشفيات الخاصة تبالغ في فاتورة التكاليف الصحية لأي مراجع أو مريض، بهدف تحصيل المبالغ من شركات التأمين. وفي كل سنة تقوم شركات التأمين برفع ثمن بوليصة التأمين على الشركات على اعتبار أن هناك تكاليف ضخمة تتكبدها من المستشفيات الخاصة، في دوامة دفعت شركات كبرى مثل "أمازون" و"بيركشاير هاثاواي" وبنك "جي بي مورغان" للبحث عن حلول لأزمة النظام الصحي، في مبادرة تسمى "Haven".
ويبلغ متوسط تكلفة الفرد الأميركي حاليا من التأمين نحو440 دولارا شهريا، والمتوسط للعائلة نحو 1170 دولارا شهريا، وهي مبالغ طائلة يتكبدها الأفراد للحصول على رعاية صحية.
التعليم وأزمة الديون الطلابية
ومقابل نظام الصحة، هناك نظام التعليم العالي، حيث يعاني الطلاب من تكاليف باهظة للدراسة في الجامعات الأميركية، ما يحملهم قروضا تستمر سنوات طويلة للتمكن من تسديدها. ويقدر مركز Center for American Progress تكاليف ديون الطلاب عند 1.5 تريليون دولار، وأن واحدا من كل ثلاثة أميركيين بعمر بين 25 و34 عاما يحملون قروضا طلابية، بينما يقدر تقرير لـ"فوربس" أن يكون متوسط ديون كل طالب عند 38 ألف دولار.
ضرائب على الأثرياء
كما أن هناك تيارا ديموقراطيا يريد فرض ضرائب أعلى على الأثرياء، وتخفيضها على أصحاب الدخول المتوسطة والضعيفة، وهو أمر يمكن أن يحقق العدالة بتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى. وكانت إدارة الرئيس ترمب خفضت الضرائب على الشركات في بداية العام الماضي من 35% إلى 21% في محاولة منها لكسب القطاع الخاص وتحفيز البورصات وإعطاء زخم للاقتصاد ينسب للرئيس ترمب. لكن لاحقا عملت الشركات المستفيدة من خفض الضرائب والتي ارتفعت أرباحها الإجمالية تلقائيا، على شراء أسهمها وزيادة البونصات لموظفيها التنفيذيين، وهو ما يعني زيادة ثراء شريحة اجتماعية هي أصلا ثرية، أي أن الاقتصاد فعليا لم يستفد كما يفترض من خفض الضرائب على الشركات.
ترمب يغير البوصلة
ويحاول ترمب في خطابه الانتخابي الابتعاد عن الخوض في جدل الرعاية الصحية والتعليم المجاني أو شبه المجاني محاولا التركيز على أخذ الجمهور في اتجاه آخر، مثل نعت خصومه بـ"الاشتراكيين"، وهو مصطلح يحمل دلالات سلبية في عقل الناخب الأميركي الذي يحيله مباشرة إلى الحقبة السوفيتية. فالمصطلح أقرب لفزاعة بإمكانية أخذ المال من الغني وإعطائه للفقير لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما لا يتفق مع مبادئ الرأسمالية التي يؤمن بها معظم الأميركيين، التي تعزز قيم الفردية بشكل يسمح بزيادة الثراء بناء على عمل الفرد واجتهاده من دون تقاسم الثروة مع آخرين، رغم أن الأميركي يدفع ضرائب مرتفعة بحسب مستوى الدخل.
مهاجرون وقضايا أكثر تشددا ضد الهجرة
كما يعمل ترمب على أخذ الناخبين ذي الغالبية المحافظة، المؤيدين للحزب الجمهوري، والموجودين أغلبهم في الولايات الجنوبية وكانوا خلف نجاحه في الانتخابات السابقة، إلى مخاوف متعلقة بالمهاجرين غير الشرعيين. لكنه سلك في الأسبوع الماضي اتجاها تصعيديا بطابع متشدد، عندما وجه كلامه إلى النائبة الديموقراطية ذي الأصول الصومالية إلهان عمر بـ"العودة من حيث أتت"، وهو أمر أثار موجة من الغضب في صفوف الشعب الأميركي كونه يتعارض مع القيم الأميركية المصانة بالدستور والقوانين، والتي تفتح أبوابها للمهاجرين والباحثين عن حياة جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تابع ترمب معركته بترديد النغمة نفسها ضد ما أصبح يُعرف بالديموقراطيات الأربع اللواتي فزن في الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي في العام الماضي، وأصبحن الوجوه الأقوى والأكثر حضورا وتأثيرا في وسائل الإعلام، وهن: الكساندريا أوكاسيو كورتيز، ممثلة عن نيويورك، وإلهان عمر عن مينيسوتا، وأيانا بريسلي، من ماساتشوستس، ورشيدة طليب، من ميشيغان، وجميعهن ولدن في الولايات المتحدة باستثناء عمر، التي أصبحت مواطنة أميركية بعد أن فرّت من الصومال كلاجئة مع أسرتها.
انقسام حول تغريدات ترمب
وتمكن ترمب من أخذ الشعب الأميركي باتجاه خطابه المتشدد الذي انقسم حوله الناس بين مؤيد من بعض مناصري الحزب الجمهوري، حيث ردّد هؤلاء في لقاء فلوريدا كلمته "عودي إلى بلادك"، وبين من هم معادون لخطابه من مناصري الحزب الديموقراطي. وحتى النائبات الأربع، ومن خلفهن قادة في الحزب الديموقراطي، حاولوا الرد على هذا الخطاب بأنه معادٍ ليس للمهاجرين الجدد، و"إنما لكل ما هو مختلف مع الأميركيين غير البيض"، كما قالت كورتيز. لكن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، الديموقراطية الممثلة عن كاليفورنيا، الولاية التي تعتبر معقل الحزب الديموقراطي، تنبهت لأن الرئيس ترمب يحاول صرف الانتباه عن قضايا الديموقراطيين الاقتصادية الرئيسة المعنية بالصحة والتعليم والضرائب، فقالت "هو يريد صرف الانتباه عن الحجج التي يتم تقديمها ضده، دعونا نركز عن ما سنفعله للشعب الأميركي".
ويبدو أن الخطاب المتشدد لترمب بدأ يؤثر في القواعد الانتخابية، إذ كشف تحقيق لمركز "بيو" للأبحاث الأربعاء الماضي أن 57% من الجمهوريين يرون أن الأميركيين قد يخسرون هويتهم كاملة إذا بقيت البلاد مفتوحة كثيراً للمهاجرين.
وهناك مخاوف لدى الرئيس الأميركي من تراجع الأداء الاقتصادي قبيل الانتخابات الأميركية، خصوصا بعد خوض إدارته حروبا تجارية عدة، بدأتها هذه السنة مع الصين ثم المكسيك فأوروبا مرورا بالهند. وحاول ترمب مرارا الضغط على البنك المركزي الأميركي لخفض معدلات الفائدة لمواصلة النمو الاقتصادي الذي ينذر بإمكانية تباطؤه مع تزايد حدة الحروب التجارية. لذا فهو يهيئ نفسه لسيناريوهات عدة، مثل الخطاب المتشدد ، لاستخدامه كورقة رابحة قبيل الانتخابات في حال تدهور الاقتصاد.