ملخص
مر أكثر من عام قبل أن يعترف #المكون_العسكري بأن انقلابه لم ينجز شيئاً مما وعد به #السودانيين بل إنه قوض النظام الدستوري وجر على البلاد أزمات أخرى
على رغم تأكيد رئيس مجلس السيادة السوداني قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان دعم القوات المسلحة الكامل للتسوية السياسية الجارية حالياً في البلاد، وتشديده أثناء حضوره مناسبات جماهيرية مختلفة على عدم التراجع عنها، فإن احتجاجات الثوار في الشارع تحاول تسليط الضوء على ما يرون أنه انحدار للبلاد نحو الاستبداد. ورأى متابعون أن تأكيده ضرورة إشراك كل القوى السياسية وتحذيره من تعثر التسوية السياسية، الغرض منه إتاحة الفرصة لأعضاء في حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق للعودة مجدداً، وأن هذه الادعاءات تعكس تضارب المصالح لدى قيادات سياسية وتحيط بمشاركتهم في التغييرات القانونية، وعلى رغم الحاجة إلى التشريعات، فإن هناك من يرى أنها إذا صيغت في هذا الوقت فإنها ستكون لحماية فئة معينة وإبقائها في السلطة، كما ستشجع الفساد السياسي وتعمق الفجوة بين السودانيين وتزعزع ثقتهم في الإصلاح القضائي.
ولم تكتفِ التكوينات السياسية بالقوى الفاعلة في شرائح واسعة من المجتمع، ولا سيما منهم المعارضون للنظام السابق من الأحزاب السياسية وتنظيمات جديدة بدأت تحت رعاية بعض الأحزاب العقائدية، خصوصاً التيار الإسلامي، والحزب الشيوعي، وحزب البعث السوداني، وانقسمت إلى تكوينات سياسية عديدة صغيرة، ومنها ما يتفق مع الرأي القائل إن السياسات الجديدة ستقود المساعي نحو الديمقراطية إلى طريق مسدود ليتمكن العسكر من السيطرة في النهاية، وإن تنازل المكون العسكري عن وصف أحداث 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بأنها "إجراءات تصحيحية" لمسار الثورة، واعترافه بفشل الانقلاب، وإعلانه عن استعداده للعودة إلى العملية السياسية ما هي ألا وسيلة لتحقيق الاستمرار في السلطة، لأن المكون العسكري هو من يضع العراقيل أمام تسليم السلطة لحكومة مدنية تقود البلاد خلال فترة انتقالية لمدة سنتين تعقبها انتخابات حرة وديمقراطية، وآخرون يرون أن الدولة يتغول عليها من ينادون بالمدنية والديمقراطية، ولكنهم في الحقيقة يبحثون عن مكاسبهم الشخصية التي درجوا على التقلب في نعيمها منذ اشتعال ثورة ديسمبر (كانون الأول).
ومر أكثر من عام قبل أن يعترف المكون العسكري بأن انقلابه لم ينجز شيئاً مما وعد به السودانيين، بل إن تقويض النظام الدستوري جر على البلاد أزمات أخرى، تمثلت في تجميد مؤسسات الحكم وعدم تحقيق وفاق وطني، فضلاً عن العزلة الدولية، وتعثر المشاريع الاقتصادية والدعم الخارجي.
انعدام الثقة
السمة السائدة بين القوى السياسية المدنية والعسكرية هي انعدام الثقة، لذا بدلاً من الوفاق تلجأ إلى الاتهامات وردها باتهامات مضادة، ومع ذلك لا يبدو أن هذه القوى السياسية زاهدة في المشاركة في السلطة بحالها الراهنة، وحتى تلك التي دخلت عن رغبة في سلطة أو رهبة من الاستبعاد، تبدو لها مخاطر الخروج أعلى من مواصلة السير في التفاوض مهما كانت الظروف، وعندما أعلنت "قوى إعلان الحرية والتغيير ــ الكتلة الديمقراطية" عن تمسكها بمشاركة الجميع في العملية السياسية، كان ذلك تحدياً لرفض تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الأصل انضمام جناح الكتلة الديمقراطية، واتهمت أعضاءها بأنهم دمى للجيش يحركها كيفما يشاء.
هذا الاتهام رافق القوى السياسية التي قادت الثورة، وظهر جلياً منذ تنفيذ إجراءات البرهان، فكل منها تصف غيرها بأنها غير ممثلة للشارع الذي ينشط في تظاهرات مستمرة للتعبير عن رفض المشاركة في الحوار مع العسكر عبر تمسكه باللاءات الثلاث، وهي "لا تفاوض ولا شرعية ولا مساومة"، وبينما وقعت على "الاتفاق الإطاري" أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي الأصل والمؤتمر السوداني، رفض حزب البعث السوداني التوقيع وحركة "حق". ودعت الآلية الثلاثية الراعية للعملية السياسية، الأحزاب غير الموقعة للالتحاق بها، كما دعت "حركة تحرير السودان" و"العدل والمساواة" والحزب الاتحادي بقيادة جعفر الميرغني للمشاركة في اجتماع القصر.
خلاف علني
وهناك خلاف علني حول استناد صياغة الاتفاق إلى المرجعيات الأربع المحددة، وهي "الاتفاق الإطاري" و"الإعلان السياسي" و"توصيات مؤتمرات قضايا الانتقال الخمس" و"مسودة الدستور الانتقالي لنقابة المحامين"، وعندما اتفقت الأطراف على تكوين لجنة مشتركة للتواصل مع "قوى الثورة" غير الموقعة على "الاتفاق الإطاري" لإقناعها بالالتحاق بالعملية السياسية على أثر رفضها المشاركة في اجتماع القصر الرئاسي، تمادت في رفضها، بل وضعت شروطاً لذلك من ضمنها استبعاد بعض القوى التي ترى عدم أحقيتها في المشاركة.
وبعد توقيع "الاتفاق الإطاري" في الخامس من ديسمبر الماضي، تخلت "قوى إعلان الحرية والتغيير" عن الاعتراض المباشر على سياسات وتصريحات العسكر، وتوصلت إلى استراتيجية جديدة، وأكثر نجاحاً، تتمحور حول المضي نحو الاتفاق النهائي، بينما ظلت كتلة أخرى من هذه القوى، تعترض على الخطوات المتخذة، إذ رأت في تشكيل الحكومة إحكام قواعد اللعبة لاستمرار الفاعلين من المدنيين والعسكر ضد خيار الانتخابات، ما يوصل السودان إلى طريق سياسي مسدود. وأشارت القوى المعترضة التي انضمت إليها أصوات حزبية منشقة وحركات مسلحة مكونة قوة جديدة، قد تنسف ما تم التوصل إليه، وتعوق المسار الديمقراطي، وترجع البلاد إلى حكم العسكر بواجهة مدنية.
ومع ذلك، مضت اللجنة المشتركة في طريقها واجتمعت بالقصر الرئاسي لصياغة الاتفاق السياسي النهائي الذي من شأنه إنهاء الإجراءات التي وضعها الفريق البرهان، وأدت إلى سيطرة قادة الجيش على السلطة. وناقشت هيكل الاتفاق المقرر التوقيع عليه، في 11 أبريل (نيسان) المقبل، كاتفاق نهائي يحتوي أبواب "الاتفاق الإطاري"، وخرجت اللجنة بمقترح مسودة قضيتي تنفيذ اتفاق جوبا للسلام واستكمال السلام والعدالة الانتقالية.
وحاز "تحالف قوى الحرية والتغيير" نصيب الأسد في عضوية اللجنة المكونة من 11 عضواً بنحو خمسة أعضاء، بينما يمثل الجيش عضو واحد، وقوات الدعم السريع أيضاً عضو واحد، ويمثل الجبهة الثورية عضوان، وآخران للقوى الداعمة للانتقال على ألا تقل نسبة النساء الممثلات في لجنة الصياغة عن 40 في المئة.
إصلاح أمني
ورافقت التباينات في المواقف رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى ورشة الإصلاح الأمني والعسكري المنعقدة أخيراً التي شارك فيها ممثلو القوات النظامية والقوى السياسية والحركات المسلحة. وأكد البرهان على بناء جيش لا يتدخل في السياسة، وأن "المؤسسة العسكرية أصلية، وليس لها بديل، ولا توجد قوة تحل محلها"، وسرع من عملية دمج الحركات المسلحة، إضافة إلى قوات الدعم السريع، بينما دعا حميدتي الذي تقرب أكثر من المدنيين إلى تأجيل دمج قوات الدعم السريع التي يرأسها في الجيش، مؤكداً أن الإصلاح لا بد أن يشمل مؤسسات الدولة كافة، كما دعا إلى "إخراج بند الإصلاح الأمني والعسكري من السجال السياسي الدائر حالياً".
وعلى رغم أن رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال بالسودان فولكر بيرتس عبر عن قلقه إزاء التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع، فإنه عبر في ما بعد عن تفاؤله بتشكيل اللجنة الأمنية المشتركة وانعقاد ورشة الإصلاح الأمني التي رأى من خلالها تطوير الجيش وإعداده إعداداً جيداً يواكب التطورات العالمية، واتفق مع الوسطاء الإقليميين والدوليين على أسس الاتفاق التي نادت بإبعاد العسكريين عن السلطة والنشاط الاقتصادي باستثناء الصناعات الدفاعية ودمج "قوات الدعم السريع" في الجيش جنباً إلى جنب مع دمج الحركات المسلحة.
العدالة الانتقالية
وتسبب بعض القوى السياسية في انقسام تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" إلى مكونات عدة منه ما يقف مع حميدتي ضد البرهان، ومنها على الضفة الأخرى يركز في ما يبدو على أن الجيش هو من سيكسب في نهاية المطاف، واتهم البعض الأجهزة الأمنية بتعذيب المعتقلين السياسيين من قادة لجان المقاومة، بحسب ما أشيع عن استخدام القانون الجنائي في تلفيقات ضد عناصر لجان المقاومة التي "أرهبت الحكومة عبر الاحتجاجات".
وهذا ربما يقود إلى نفض الغبار عن قضية فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الذي وقع في الثالث من يونيو (حزيران) 2019. ويلفت إلى عدم وجود تشريعات وغياب المجلس التشريعي، ولكن تمت مناقشته في "مؤتمر العدالة والعدالة الانتقالية" الذي انعقد هذا الشهر. وكشف فيه وزير العدل السابق نصر الدين عبدالباري تفاصيل المفاوضات الأولى التي جرت بسرية تامة بين القادة العسكريين و"قوى إعلان الحرية والتغيير"، في شأن حل الأزمة السياسية ومعالجة قضية تحقيق العدالة. وقال إن "العسكريين طلبوا منحهم العفو بنص دستوري أو معالجة قانونية".
وأهم ما لفت إليه عبدالباري إلى أن التحدي الأساسي يكمن في "التوفيق بين مطالب الجماهير بتحقيق العدالة للضحايا عبر تطبيق نصوص القوانين الوطنية والدولية، في مقابل تخوف العسكريين على مصيرهم في المستقبل بعد إكمال العملية السياسية الجارية، والتي ستنقل السلطة إلى المدنيين، بينما يعود العسكريون إلى ثكناتهم".
اعتراض ثوري
ويمكن الإشارة إلى أن هذه الرؤية ظلت تحملها "لجان المقاومة" التي تحولت من قوى ثورية داعمة للمكون المدني ضد العسكري إلى قوى رافضة للمكونين معاً، إذ ترى أن المكون الذي دعمته بات حليفاً للجيش، وأصبحت "لجان المقاومة" هي الأقرب إلى الحزب الشيوعي، وتمثل وجهة نظره وتتحمل عبء الاعتراض الثوري والمواجهة مع العسكر، وتمتد الشرعية التي اكتسبتها هذه اللجان إلى ما يتخطى القوى السياسية مجتمعة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من استراتيجية الأحزاب السياسية لكسب رضاها وتحقيق أهدافها، وأثيرت التساؤلات حول الصفة القانونية التي تتمتع بها، وبفضلها تنظم هذه القوى وتسير التظاهرات التي يتم جدولتها موزعة على أيام الشهر، وغالباً ما تتزامن مع توقيع أي اتفاق بين المدنيين والعسكر، كما تقوم بإغلاق الشوارع وتعطيل الحركة من دون أن تجرؤ قوات الشرطة والمرور على اعتراضها، وهي اليوم تهدد المكونين معاً بمزيد من التظاهرات للتعبير عن رفضها الاتفاق الأخير المزمع توقيعه في أبريل.
إضافة إلى ذلك، لم يتضح بعد مدى فاعلية دور الحزب الشيوعي في المفاوضات، فخلال الفترة الانتقالية أجرى الحزب محادثات غير رسمية، وعلى أمل تهدئة التوترات واعتراضه الدائم، كانت "قوى إعلان الحرية والتغيير" دائماً ما تجاريه وتقدم بعض التنازلات، لكنه استمر في النفور من كل التحالفات، بينما يظهر في نشاط "لجان المقاومة".