أثار السجال الأخير بين الرئيس التونسي قيس سعيد وخصومه، بعد تقارير إعلامية محلية وأجنبية تحدثت عن وضعه الصحي، دعوات إلى ضرورة الإسراع بتركيز المحكمة الدستورية التي من شأنها حسم دستورية القوانين وغير ذلك. لكن أهمية المحكمة الدستورية برزت أكثر من خلال الحديث عن إمكان حدوث شغور منصب رئيس الجمهورية إذ نصّ الدستور التونسي الجديد الذي تم إقراره في استفتاء شعبي في 25 يوليو (تموز) 2022، على أن رئيس المحكمة هو من يتولى منصب الرئيس في هذه الوضعية.
وكان الرئيس التونسي قد رفض دعوات المعارضة إلى توضيح "وضعه الصحي" متوعداً بملاحقة من بثّ ما وصفها بالإشاعات بشأن حدوث شغور في منصب الرئاسة، لكن ذلك لم يمنع الدعوات المتصاعدة من سياسيين وناشطين حقوقيين إلى وضع المحكمة الدستورية المعطلة منذ 2011.
حجر الزاوية
وأزمة المحكمة الدستورية في تونس ليست وليدة اللحظة، إذ لم تفلح النخبة التي حكمت البلاد بعد أحداث 14 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي في انتخاب أعضاء هذه المحكمة.
وفي الدستور الجديد، الذي دخل حيّز التنفيذ بعد تمريره في استفتاء شعبي، نص الفصل 125 على أن "المحكمة الدستورية تتألف من تسعة أعضاء، ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر في محكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التعقيبية في المحكمة الإدارية، والثلث الأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات، وينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيساً لها، طبقاً لما يضبطه القانون". وتسهر المحكمة، بحسب نص الدستور، على مراقبة دستورية القوانين، وبإمكان رئيسها تولي منصب رئيس الجمهورية في حال حدوث شغور نهائي في هذا المنصب بخلاف ما كان معمولاً به في دستور 2014 الذي ينص على أن رئيس البرلمان هو من يتولى رئاسة البلاد في الوضعية المذكورة.
وقال النائب في البرلمان التونسي ظافر الصغيري إن "المحكمة الدستورية لم تعد خياراً بل نحن تأخرنا كثيراً في تركيزها، ولا توجد حياة سياسية من دون هذه المحكمة التي تعتبر حجر الزاوية في أي مشهد سياسي ودستوري سليم"، وتابع الصغيري أنه "إذا كنا نلوم منظومة ما قبل 25 يوليو (تموز) 2021 أنهما تعمدت عدم تركيز هذه المحكمة حتى تعيث في البلاد فساداً، فبات اليوم من الأجدر إعطاء المثل وإنشاء المحكمة التي ستبت في دستورية القوانين وتكون الحكم في المشهد السياسي".
وإزاء العقبات التي تحول دون تركيز المحكمة الدستورية، قال الصغيري إن "المشكلة تكمن في الحركة القضائية التي تأخرت كثيراً، وستنتهي قريباً السنة القضائية، ولم تتم هذه الحركة، وبالتالي الكرة في ملعب رئيس الجمهورية"، لكن الصغيري لم يستبعد تركيز المحكمة في الأيام المقبلة قائلاً "في اعتقادي، لم يعد الأمر مستبعداً، حتى النظام الداخلي للبرلمان الذي ستتم المصادقة عليه، الثلاثاء المقبل، يجب أن يتم تمريره على المحكمة، إذا نريد حياة سياسية نقية لا بدّ من وضع المحكمة الدستورية في أسرع وقت ممكن".
تحذيرات ودعوات
واحتدم الجدل أخيراً في تونس حول الوضع الصحي للرئيس قيس سعيد الذي أثار غيابه حوالى 12 يوماً تساؤلات، ما أفرز دعوات إلى ضرورة إنشاء المحكمة الدستورية تحسباً لحدوث شغور أو غير ذلك.
وقال المحامي والناشط السياسي عماد بن حليمة إن "ما نستخلصه من غياب رئيس الجمهورية هو أنه لا بدّ من الإسراع بتركيز المحكمة الدستورية لأن رئيس الجمهورية شدد في الدستور الجديد على أنه في حال الشغور النهائي فإن رئيس المحكمة هو من يتولى موقتاً مهام الرئيس إلى حين إجراء الانتخابات"، وأضاف بن حليمة "المهم هو تركيز المحكمة حتى تتمكن الدولة من العمل في كل الحالات، وهذه فرصة لإنشاء المحكمة ولا بدّ من ذلك بدل لوم الأطراف التي حذرت من حال الشغور النهائي".
من جانبه، حذر رئيس الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات العياشي الهمامي من أن غياب المحكمة الدستورية من شأنه أن يقود تونس إلى الفوضى، ولفت في تصريح إذاعي إلى أن "تفعيل المحكمة الدستورية يجب أن يصبح أمراً ضرورياً واستعجالياً في مقبل الأيام".
وكان حزب "الراية الوطنية" قد دعا، في وقت سابق، الرئيس قيس سعيد إلى ضرورة الإسراع في تركيز المحكمة الدستورية ورصد موازنة لها من أجل القيام بمهامها في التصدي لما وصفه بالتغول على القانون، بحسب بيان للحزب.
قانون جديد
في المقابل، ترى أوساط قانونية في تونس أن تركيز المحكمة الدستورية بات يحتم وضع قانون جديد ينظم عملها وتشكيلها أولاً بعد التغييرات التي طرأت على تركيبة المحكمة وصلاحياتها في الدستور الجديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية عبد الرزاق المختار "كان بالإمكان تنزيل المحكمة الدستورية بمرسوم لكن ذلك كان سيثير لغطاً وسجالاً سياسياً بشأن مشروعية هذه الآلية، لذلك أعتقد أنه يجب إعادة النظر أولاً في النص القانوني المنظم للمحكمة الدستورية باعتبار أن النص السابق لم يعد صالحاً وهو نص يجب أن يصادق عليه البرلمان". وتابع "يجب أن يتم وضع النص انطلاقاً من تصورات الدستور الجديد للمحكمة الدستورية، وأعتقد أن هذا النص سيتم طرحه من قبل السلطة التنفيذية". وأوضح أن "المحكمة بحسب الدستور الجديد هي بشكل مختلف عن التصور القديم سواء من حيث الصلاحيات أو حتى التركيبة، بالتالي يجب تغيير النص القانوني المنظم لتشكيل وتنظيم عمل المحكمة أولاً".
تحجيم صلاحيات المحكمة
وعلى رغم الدعوات المتزايدة إلى تنصيب المحكمة الدستورية في تونس إلا أن الأوساط القانونية والدستورية ترى أنه تم تحجيم دورها وصلاحياتها بشكل كبير، وقال المختار "هناك انتظارات مبالغ فيها من المحكمة الدستورية لأنه ليس لها المهام المحورية والمركزية نفسها التي كانت موجودة في دستور 2014، المحكمة بشكلها الحالي جلبت اهتمام الناس باعتبار أن رئيسها سيتولى رئاسة البلاد حال حدوث شغور نهائي في منصب رئاسة الجمهورية فقط"، مضيفاً "لكن مهام المحكمة حجمت وقزمت، وحتى من طريقة تعيين أعضائها، فإنها ستتحول إلى نادٍ للقضاة المتقاعدين، بالتالي لا أعتقد أنها ستكون محكمة تصنع الربيع الدستوري في تونس أو ربيع المؤسسات".
وفي آخر ظهور له، في الرابع من أبريل (نيسان)، لم يكشف الرئيس سعيد عن موقفه من الدعوات إلى تركيز هذه المحكمة ليبقي على الغموض الذي يكتنف مصيرها.