Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا تريد فرنسا من زيارة ماكرون للصين؟

تصريحاته الجريئة حول استقلال السياسة الأوروبية عن واشنطن وبكين تذكرنا بتقاليد أسسها ديغول بعد الحرب العالمية الثانية

من المؤكد أن من يزور الصين لتحسين تبادلاته الاقتصادية لا يريد تصعيد مواجهة معها (أ ف ب)

ملخص

ما هو واضح حتى الآن من زيارة #ماكرون الصينية أن تباينات في #المعسكر_الغربي قد تقفز إلى السطح مع امتداد الحرب في أوكرانيا

أنهى الرئيس الفرنسي ماكرون زيارته للصين، التي صحبته فيها مسؤولة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، وحظيت الزيارة بقدر من الاهتمام الدولي، وبقدر واضح أيضاً من الحفاوة الصينية، كونها ثاني أكبر زيارة غربية بعد زيارة المستشار الألماني منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وتبلور تباعد وجهات النظر بين الصين والغرب، وإن لم تحظ الأولى بالقدر نفسه من الاهتمام الدولي.

هذا التباين بين الغرب والصين ظهر على أصعدة عدة، سواء في أنماط التصويت حول هذه الحرب، أو في جملة المواقف العلنية والضمنية بين الجانبين، فالغرب حشد كل قواه لإدانة وهزيمة روسيا وحصارها، في مقابل موقف صيني يبدو في جانب منه محايداً، وفى الوقت نفسه تجنب الدعم الصريح للهجوم الروسي مثلما تجنب إدانة روسيا ورفض المشاركة في العقوبات الاقتصادية ضدها، بل إن الصين تبدو داعمة لروسيا اقتصادياً وليس عسكرياً حتى الآن، على رغم الاتهامات الغربية والأميركية خصوصاً أنها توشك على تزويد موسكو بأسلحة متقدمة.

التحليلات والتعليقات في شأن نتائج الزيارة ركزت على ما اعتبرته ترجيحاً لوجهة النظر الصينية، حيث تحدث البيان الصادر عن ضرورة التسوية السلمية للحرب ورفض أي استخدام للأسلحة النووية من دون إدانة روسيا، بمعنى أنه عكس المواقف الصينية بأكثر من الغربية، فتصريحات الرئيس الفرنسي بدت أقل حدة من تصريحات المسؤولة الأوروبية في ما يتعلق بالحرب الروسية.

لكن أهم ما في الزيارة من حيث التصريحات والتعليقات هو حديث ماكرون عن "كتلة أوروبية مستقلة" وليست منحازة إلى واشنطن أو بكين، وهو أمر ضخم يحتاج لكثير من التحسب والتيقن.

دلالات متعددة

في الحقيقة، فإن الزيارة تثير كثيراً من الأبعاد والدلالات، وربما تكون الدلالة الأولى الواضحة هي أنها اشتملت على شق اقتصادي مهم، حيث تم توقيع عدد كبير من الاتفاقات الاقتصادية (حوالى 18) أكدت حرص الجانبين على تعزيز هذه العلاقات وعدم التجاوب مع الضغوط الأميركية لمواجهة اقتصادية تبدو صعبة حتى بالنسبة إلى واشنطن، ونتذكر هنا أن حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين وفق بعض التقديرات يبلغ 80 مليار دولار بفائض ضخم لصالح الصين، وما حققته الزيارة من صفقات خاصة بصادرات الطائرات الـ"إيرباص" إلى الصين يعنى قدراً من النجاح لفرنسا من دون مبالغة، حيث إن الصين هي أكبر مستورد للطائرات المدنية في العالم، وتجاوبها مع مساعي فرنسا لتقليص فجوة التبادل التجاري تحقق لها أهدافاً عديدة، أولها أنها تعزز من مصالحها وروابطها المشتركة بين البلدين، وتقوض محاولات واشنطن تقليل الاعتماد على العلاقات الاقتصادية بين الصين والغرب، أي أن الصين حققت بتجاوبها مع فرنسا في زيادة بعض صادرات الأخيرة مصالح عدة، وهي تخرج محققة نتائج إيجابية على كل الصعد الاقتصادية بتعزيز علاقات الاعتماد المتبادل التي تشكل صلب رؤيتها الاستراتيجية والاقتصادية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثاني الدلالات أن مجرد تصريحات الرئيس ماكرون بأن الصين هي الطرف الدولي الأقدر على الضغط على روسيا يشكل في حد ذاته دليلاً جديداً على الصعود والمكانة الدولية التي تحتلها هذه الدولة في عالمنا المعاصر، صحيح أن الغرب يريد ضمانات بألا تتورط الصين في مزيد من الدعم الاقتصادي والسياسي لروسيا، الذي قد يصبح عسكرياً في المستقبل، لكن إقرار ماكرون يعكس المفارقة الغربية في أنهم يريدون دوراً وسائطياً من بكين وفى الوقت نفسه مواقف أكثر معارضة لموسكو، مع أن هذا الموقف الصيني المعقد والدقيق هو الحيثية الرئيسة لإمكانية التأثير على موسكو.

وتبدو المفارقة أيضاً في طبيعة الاستقبال الغربي الفاتر للمبادرة الصينية وإحاطتها بأكبر قدر ممكن من التحفظات والشكوك، مع تذكر أن ردود الفعل الفرنسية أيضاً كانت أقل حدة بهذا الصدد من المواقف الأميركية والبريطانية، وحتى مقارنة بموقف مسؤولي الاتحاد الأوروبي. وفى المجمل يثير هذا كثيراً من التساؤلات حول ما إذا كان الموقف الغربي متبلوراً بشكل كاف ومدروس ومبني على رؤية يقينية واضحة.

ثالث الدلالات أننا نعود بالموقف الفرنسي لهامش الغموض والتردد الذي كان في بداية الحرب، وعلى الأقل فهو يؤكد شيئاً محدداً مفاده أن باريس لا تريد تصعيداً واستقطاباً عالمياً بالشكل الذي تسعى إليه واشنطن ولندن، ومن المؤكد كذلك أن من يزور الصين لتحسين تبادلاته الاقتصادية لا يريد تصعيد مواجهة معها، ولا حرب باردة بالشكل الذي تبشر به بعض الأوساط الغربية الأخرى بخاصة الأنجلوسكسونية، أي إنها لا تريد حافة الهاوية التي تسعى إليها بعض الأطراف من دون تقدير لخطورتها وتأثيراتها السلبية واسعة النطاق.

منطق "المباراة الصفرية"

أما رابع هذه الدلالات فهو في سياسة فرنسا الخارجية وطموحاتها وطموحات رئيسها الذي لا يزال شاباً في أن تواصل بلاده حضورها الدولي على رغم مشكلاتها الداخلية الصعبة، التي تفجرت، أخيراً، حول قانون التقاعد، وأيضاً، وهذا هو الأهم، على رغم سجل تراجعها وفشل مبادراتها اللافت في السنوات الأخيرة.

وهنا أشير إلى الأزمة العميقة التي تواجهها السياسة الفرنسية حالياً والممثلة في تزايد صدماتها وتقلصاتها في أفريقيا، وكيف يضيق بها المجال حالياً بشكل لافت وغير مسبوق منذ تحولها من الاستعمار المباشر إلى مواصلة قدر كبير من النفوذ السياسي والثقافي في دائرتها الأفريقية الفرنكوفونية، فهي تتلقى صدمات متواصلة بهذا الصدد مع تزايد النفوذ الروسي ممثلاً في شركة "فاغنر" في عدد من هذه البلدان، فضلاً عن حضور صيني لافت في كل القارة، وصعود أطراف أخرى متوسطة تزاحم المستعمر القديم الذي يتقلص نفوذه ولا يبدو له أفق واضح.

منذ سنوات أثار ماكرون ضجة كبيرة حول مبادرته لانتشال لبنان من ورطتها الداخلية، ورمى بكل ثقله خلف هذه المبادرة من دون جدوى، بل كان تحركه محرجاً له ولبلاده، وشاهداً على التراجع بأكثر من أي شيء آخر، وهو لم يتنبه إلى هذه المسألة إلا متأخراً، ناسياً أن بلاده فقدت نفوذها في لبنان منذ عقود لا قبل سنوات قليلة.

وفى بداية الحرب الأوكرانية سجل بعض المراقبين أنه بذل مساعي لإثناء بوتين عن هذا الهجوم وفشل، وفي الواقع فإن فشل مساعي فرنسا بهذا الصدد كان ظلماً لها، فلو كانت تملك ضمانات لتهدئة روسيا ومخاوفها لربما كان للأمر شأن آخر.

أخيراً يقودنا هذا إلى تصريحات ماكرون الجريئة التي ما زالت بمثابة بداية كرة الثلج حول استقلال السياسة الأوروبية عن القوتين واشنطن وبكين، لتذكرنا بتقاليد أسسها ديغول بشكل متفرد وهو الخارج من الحرب العالمية الثانية وبلاده مجروحة ومدمرة وظروفها الاقتصادية من السوء بمكان، ومع ذلك حقق مكانة دولية بتفضيله خيار عدم التبعية للسياسة الأميركية في ما يمكن تسميته بالتحالف غير الأعمى مع واشنطن، وحول هذا المحور دارت خلافاته مع الولايات المتحدة وحليفهتا الكبرى المملكة المتحدة، وفى الواقع فإن السياسات الفرنسية المستقلة كانت أحد مصادر حركة هذه الدولة على رغم تراجعات عديدة، لكن كيف لفرنسا أن تتراجع عن موقف وترتيبات اتخذتها منذ الحرب الأوكرانية في وقت تبدو قدرتها ومساحة حركتها أضيق بكثير من ذي قبل، وفي النهاية فإن ما هو واضح حتى الآن أن تباينات في المعسكر الغربي قد تقفز إلى السطح مع امتداد الحرب وتكشف عبثية منطق "المباراة الصفرية".

المزيد من تحلیل