ملخص
إن كان "حزب الله" لا يريد تلك الحرب المفتوحة فما عليه سوى العودة إلى دولته ومجتمعه وترك أمور الحدود والتسوية لحكومة لبنانية شرعية ورئيس منتخب وفق الدستور والخروج نهائياً من سياسة فتح الحروب والجبهات بناءً على طلب الخارج، أما تعليق مصير حربه على اتفاق لوقف النار في غزة فيوقعه نتنياهو فرهان لا جدوى منه، فنتنياهو بدوره عالق في مشكلاته الخاصة التي تدفعه إلى إطالة الحرب في غزة ولبنان والضفة ومناطق أخرى.
يحاول رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الهرب من مآزقه الداخلية بتعطيل احتمالات الوصول إلى صفقة في غزة ونقل الحرب شمالاً نحو "حزب الله" في لبنان، فيما يراهن الحزب الذي تعرض لضربات إسرائيلية قاتلة خلال الأيام الأخيرة على التوصل إلى اتفاق في القطاع يسمح له بالتوقف عن إطلاق الصواريخ والقذائف على إسرائيل والإعلان أنه أدى مهمته إلى أقصى حد في مساندة غزة ومقاومتها.
هكذا بدت الصورة منذ منتصف الشهر الجاري في الأقل. قبل ذلك التاريخ كان نتنياهو يركز على تحقيق نصر مطلق على "حماس" ويعمل على عرقلة الوصول إلى اتفاق دفع إليه ثلاثي الوساطة الأميركي والمصري والقطري، عبر طرح مطالب إضافية أبرزها الاستمرار في الوجود العسكري على المعابر بين القطاع ومصر، مبقياً في توافق ضمني مع "حزب الله"، على وتيرة من الاشتباكات، ضمن قواعد معترف بها من الطرفين، على جانبي الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.
لم يصل الاشتباك بين "حزب الله" والقوات الإسرائيلية، الدائر منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي بقرار اتخذه الحزب المذكور، في أية مرة، إلى حدود خرق "القواعد" التي رافقت الحرب منذ اندلاعها. لم يمس الحزب بالمصالح الحيوية لإسرائيل، إذ التزم عدم قصف التجمعات المدنية والمراكز الصناعية، وامتنع خصوصاً عن المساس بمنصات استخراج النفط والغاز بعد اتفاقه الشهير مع الدولة العبرية على ترسيم الحدود البحرية، وهو أخيراً لم يلجأ إلى استعمال صواريخه الثقيلة والذكية البعيدة المدى في استهدافه "مواقع العدو".
دارت خلال الأشهر الـ11 الماضية حرب قادت في سياق تطوراتها إلى نتائج كارثية بعديد من المناطق الحدودية وفي جسم الحزب نفسه.
خلال "حرب الإسناد" كما يسميها، خسر "حزب الله" 496 عنصراً وقيادياً في عمليات صيد جوي مارستها إسرائيل إلى جانب تدميرها المنهجي لقرى الشريط الحدودي. لا يدخل في هذا الإحصاء الذي أوردته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ضحايا تفجيرات أجهزة النداء (البيجر) ولا الاتصال (أيكوم)، كذلك لا يشمل الخسائر الفادحة التي لحقت بالحزب وقادته جراء قصف اجتماع لقادة فرقة النخبة فيه في ضاحية بيروت الجنوبية الخميس الماضي.
كان "حزب الله" استغرق شهراً ليرد على اغتيال رئيس أركان ميليشياته فؤاد شكر الذي استهدفته إسرائيل قبل ساعات من اغتيال إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو (تموز) الماضي. بدا وكأن الحزب أرجأ رده بانتظار رد إيراني لم يأتِ، وهو لن يأتي غالباً، وعندما شن غارات بالصواريخ والمسيرات، لاقته إسرائيل في هجمات استباقية. مع ذلك أعلن الحزب في حينه أنه حقق أهدافه، في الرد على الاغتيال، واغتنم أمينه العام الفرصة ليعلن نصراً ويدعو المواطنين للعودة إلى قراهم وأعمالهم.
ظهر الحزب في تلك اللحظة مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري وكأنه يعيد النظر في تجربة المساندة تلبية لطلب إيران. فكلام أمينه العام كان تطمينياً إلى حد الإعلان المبطن عن انتهاء المعارك من دون الانسحاب من معادلتها الأساس: التوقف فور وقف النار في غزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يغير اغتيال شكر في استراتيجية حسن نصرالله، ولا ينتظر أن تؤدي عمليات تفجير الأجهزة واغتيال القادة إلى تعديل في المعادلة التي يكرر التمسك بها. المستجد الآن هو القرار الإسرائيلي بأولوية المعركة مع "حزب الله" ونقل الاهتمام من الجنوب إلى الشمال. حصل ذلك في الأسبوعين الماضيين على خلفية نزاعات سياسية وحكومية إسرائيلية داخلية.
فجأة استفاق نتنياهو إلى ضرورة وضع حد للحرب في الشمال ورفع شعار إعادة المستوطنين إلى مستوطناتهم الحدودية. وفي استفاقته هذه فتح معركة لإقالة وزير دفاعه يوآف غالانت واستبدال آخر به يوفر له دعم أربعة أصوات إضافية في "الكنيست". اتهم نتنياهو غالانت بأنه يرفض حرباً ضد "حزب الله" مع أن الأخير كان مبادراً في الدعوة إلى خوض هذه الحرب بعد ثلاثة أيام من اندلاع "طوفان الأقصى".
غالانت التف على رئيسه وأبلغ المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين أنه لا مفر من الحرب في الشمال. لتصبح هذه الحرب منصة للمناكفات والمزايدات الداخلية الإسرائيلية، بعدما لعبت مفاوضات الأسرى والرهائن في غزة الدور نفسه.
اجتمعت القيادة الإسرائيلية على قرار التصعيد في الشمال، وأبلغته لهوكشتاين ولوزير الدفاع الأميركي، وفي مصادفة عجيبة كان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يعلن "الأخوة بين الإيرانيين والأميركيين". بعد 24 ساعة انفجرت أجهزة التواصل في بيروت والجنوب وفي السفارة الإيرانية، ليتبعها تفجير قيادة فرقة الرضوان وهي في اجتماع مخصص لكيفية الرد على مجزرة "البيجر" و"الأيكوم".
لم يبد على إيران الانفعال الشديد تجاه ما جرى في لبنان ضد وكيلها الأبرز في المنطقة. هي منذ البداية تعتمد حرب استنزاف يخوضها الآخرون. وبعد شهرين على تهديدها بالرد على اغتيال هنية، تستمر في تكرار المصطلحات نفسها. قائد الحرس الثوري يبلغ نصرالله أن الحسم قادم فيما تنهض تعابير جديدة في الخطاب الإيراني: أمام جمعة طهران يلح على "جهاد التبيين"، وكالة الحرس الثوري "تسنيم" تحذر من أن العدو يريد إحداث "إرباك درامي" في صفوف المقاومة، صحيفة التلفزيون تتحدث عن "حرب نفسية"، وصحيفة "اعتماد" الإصلاحية تنصح: على إيران ألا تقع في الفخ.
تنأى إيران بنفسها عن المجزرة التي ترتكب بحق "درة تاجها" ويدفع لبنان ثمنها، بعدما ابتلعت وهضمت خطابات التهديد بالثأر لهنية، ويجد "حزب الله" نفسه عالقاً على جبهة مكلفة من دون جدوى، مثله مثل تلك الميليشيات التي كانت تديرها سوريا في لبنان وتدفعها إلى إشعال محاور ثابتة منذ بداية الحرب لهدف وحيد هو تعزيز موقعها في المفاوضات في شأن لبنان والمنطقة عشية اتفاق الطائف.
ليس الوضع مشابهاً تماماً، فدوافع إسرائيل إلى الحرب المفتوحة كبيرة جداً، ومفاوضات التهدئة تراوح إلى الوراء، وفي ظروف كهذه يصبح السؤال عما سيفعله "حزب الله" ضرورياً. فهو إن كان لا يريد تلك الحرب المفتوحة فما عليه سوى العودة إلى دولته ومجتمعه وترك أمور الحدود والتسوية لحكومة لبنانية شرعية ورئيس منتخب وفق الدستور والخروج نهائياً من سياسة فتح الحروب والجبهات بناءً على طلب الخارج. أما تعليق مصير حربه على اتفاق لوقف النار في غزة يوقعه نتنياهو فرهان لا جدوى منه. نتنياهو بدوره عالق في مشكلاته الخاصة التي تدفعه إلى إطالة الحرب في غزة ولبنان والضفة ومناطق أخرى.
إزاء ذلك، وأمام هول الكوارث التي شهد لبنان بعضها، يصبح الانكفاء لمصلحة الدولة سبيلاً وحيداً للحد من الخسائر العامة والخاصة، على طريق إعادة بناء لبنان المستقل، لا الساحة التي يتلاعب بها الآخرون.