ملخص
في الحقيقة المسألة الأوكرانية محور رئيس في التفاعلات والمستقبل السياسي الأميركي. ولو كان عالم السياسة والانتخابات واضحاً وليس مزدحماً بالمناورات والأكاذيب لكانت المسألة الأوكرانية هي محور الصراع الانتخابي الرئاسي.
المحاولة الفاشلة الأخيرة لاغتيال ترمب، التي تم اعتقال منفذها من دون أي مساس بالرئيس الأميركي السابق، ذات دلالات ربما تزيد في خطورتها عن المحاولة الأولى التي تناولناها هنا منذ أشهر عدة، وحاولنا أن نضعها في سياقها السليم بلا مبالغات.
وفي الحالين فإن ثمة ضرورة لتذكرة أنفسنا بأن هناك تاريخاً طويلاً للاغتيالات السياسية في العالم كما في الولايات المتحدة، وأيضاً لمحاولات الاغتيال الفاشلة، وهذه المحاولات الفاشلة أو الناجحة كثيراً ما تؤدى إلى تطورات سياسية ليست بالضرورة في الاتجاه الذي أراده منفذوها.
السياسة الخارجية والاغتيالات
بحسب المصادر الأمنية الأميركية، فإن المواطن الأميركي الذي أقدم على الحادثة الأخيرة من ناشطي دعم أوكرانيا، أي إنه يعرب عن مخاوفه من تصريحات ترمب حول إنهاء الحرب الأوكرانية التي يعدها كثر بمثابة تخل عن كييف، التي كان التشجيع الأميركي والغربي هو سبب استمرار الحرب فيها، ولولاه ربما لم تكن ستبدأ. ولافت أيضاً ما نقله الإعلام عن نجل المتهم ريان روث، بأن والده ليس رجل سلاح أو عنف ولكنه مثل كل العقلاء يكره ترمب. وأفاض الإعلام في وصف علاقته بأوكرانيا، ونشاطه لتجنيد متطوعين بعد رفض تطوعه للقتال ضمن "الفيلق الدولي" الذي يقاتل بجوار الجيش الأوكراني نظراً إلى تقدم سنه، وبالمناسبة أيضاً لم يأت من خلفية عسكرية محترفة لقبول تطوعه، ولكنه نشط في وسائل التواصل الاجتماعي دعماً لأوكرانيا وكان معارضاً شديداً لبوتين الذي يصفه بالإرهابي.
الاغتيالات السياسية الناتجة من مواقف تتعلق بالسياسة الخارجية يزدحم بها التاريخ القديم والحديث. وفي مصر خصوصاً تراث كبير في هذا الصدد، من اغتيال بعض الساسة بسبب اتهامات بالتواطؤ مع الاحتلال البريطاني، وثم كانت أشهر واقعة اغتيال للرئيس أنور السادات وملابساتها المعروفة.
في إسرائيل تعد واقعة اغتيال إسحاق رابين رئيس الوزراء، الذي وقع "اتفاقية أوسلو" هي الأشهر، التي تحكم التطورات السياسية اللاحقة في هذا المجتمع، سواء بصعود اليمين المتطرف أو تراجع وتهميش قوى السلام ووصول الأمور إلى ما نراه الآن من ترد غير مسبوق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن محاولات الاغتيال في الولايات المتحدة كانت في معظمها مرتبطة بقضايا داخلية، ولم تكن قضايا السياسة الخارجية يوماً في قائمة هذه التفاعلات إلا باستثناء الأحاديث الغامضة وغير المؤكدة حول ملابسات اغتيال الرئيس الأسبق جون كيندي.
في الحقيقة المسألة الأوكرانية محور رئيس في التفاعلات والمستقبل السياسي الأميركي. ولو كان عالم السياسة والانتخابات واضحاً وليس مزدحماً بالمناورات والأكاذيب لكانت المسألة الأوكرانية هي محور الصراع الانتخابي الرئاسي.
المراقبون ومتابعو الانتخابات والسياسة الأميركية اعتادوا ترديد أن الاقتصاد والقضايا الداخلية تتصدر الانتخابات الأميركية، وأن مسائل السياسة الخارجية تهمش ولا تستغرق اهتمام المرشحين الذين عليهم مجاراة الرأي العام الداخلي والناخبين. وفي الحقيقة فإن هذا صحيح ومتعمد أيضاً بحكم أن السياسة الخارجية الأميركية كانت تتسم بالثبات النسبي الذي تصوغه مصالح محددة من ناحية، ومن ناحية أخرى قوة مؤسسات السياسة الخارجية وعلى رأسها الخارجية والدفاع والاستخبارات، وهذه المؤسسات كانت تعطى استقراراً نسبياً لتحالفات ومصالح خارجية.
ولا يعني هذا أنه لا توجد هوامش لخلافات بين الحزبين الكبيرين "الجمهوري" و"الديمقراطي" حول قضايا السياسة الخارجية أو حتى داخل الحزب الواحد، كما أنه من ناحية أخرى تصدر كثير من القرارات الداخلية والخارجية بتحالفات عابرة للحزبين الكبيرين في كثير من الأحوال.
ولكن العودة قليلاً إلى ما سببه ترمب من إشكالات في ولايته الأولى بالنسبة إلى هذه الثوابت، تشرح كثيراً من هذه التحديات، فقد بنى ترمب رؤيته للسياسة الخارجية على فكرة وجود خطر استراتيجي اقتصادي وسياسي ممثل في الصين، وفي سبيل ذلك من الممكن أن يطور علاقات إيجابية مع روسيا وبوتين. كما أن رؤيته تضمنت أيضاً ضرورة تقليص الإنفاق العسكري الأميركي الموجه لحماية أوروبا، وأهمية أن تتحمل دول القارة العجوز والحلفاء الآخرون في كندا وأستراليا وكوريا الجنوبية مسؤولياتهم العسكرية والاقتصادية في هذا الصدد، وغلف ترمب كل هذا بلغة متعالية وحادة، وأدت لغته هذه إلى كثير من الحساسيات وعدم الارتياح لدى الحلفاء.
كما تصرف ترمب من دون اعتبار للحلفاء في قرارات استراتيجية مهمة، كالانسحاب من سوريا والعراق وأفغانستان، وأدى تسرعه إلى ضغوط من جانب مؤسسات الدولة نجحت في بعض هذه الحالات بالحيلولة دون الانسحاب من سوريا، وتأجيل أفغانستان للإدارة الأميركية التالية (الديمقراطية).
وهنا كانت المفارقة أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، والمخاوف الأوروبية المترتبة على ذلك، نجحت في تحقيق كثير من أهداف ترمب، ولكن بنهج إدارة بايدن الحريصة على العلاقة مع حلفاء واشنطن، وزادت غالب دول الحلفاء، وبخاصة ألمانيا واليابان، من موازناتها العسكرية. وتحقق انسحاب شائن للقوات الأميركية من كابول.
العنف في السياسة الأميركية
الجميع يعلم أنه منذ بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، يردد ترمب أنه لو كان رئيساً لما جرؤ أحد على الحرب في أوكرانيا، وكرر الكلام نفسه في غزة، وأنه سينهي الحرب فوراً في أوكرانيا بحيث يعطي انطباعاً بأن بوتين يحبه أو يخشاه بشدة، وأنه سينهي الحرب على الفور، وهي مزاعم لا تبدو على أي قدر من المنطق.
وبصرف النظر عن هذه الدعاوى، فالمؤكد الوحيد أن رؤية ترمب تركز على تخفيف الإنفاق العسكري لمصلحة التنمية الاقتصادية غير العسكرية، وأن علاج كل شيء هو بنهج الصفقات، وهذا المنطق الواضح يصطدم بمنطق واضح آخر لمؤسسات الدولة الأميركية وتحالفها الاقتصادي التاريخي مع ما يسمى المربع الاقتصادي العسكري الأميركي، الذي ينتهج رؤية أخرى قوامها معاداة أية قوة عسكرية صاعدة، ودعم الصناعات العسكرية وتصديرها بوصف هذا قاطرة الاقتصاد الأميركي، والذي يجد بالطبع في الحال الأوكرانية نموذجاً واضحاً. وهنا نعود إلى الاستراتيجية التي أعلنها بايدن للسياسة الخارجية، والتي تتوافق تماماً مع رؤية مؤسسات الدولة الأميركية من كونها تنظر للعدو الاستراتيجي لبلادها على أنه كل من روسيا والصين معاً.
ولكن العنف في السياسة الأميركية يزداد خطورة. ومع كل هذه الخلفية التي تبرز أن محاولة الاغتيال تقع في صلب الخلاف والاستقطاب السياسي الأميركي الراهن، فإن خلفية مقترف المحاولة التي يتضح منها عدم احترافية، وأن الرجل كان يعتمد على المصادفة ولم يكن قد حسم أمره ولم يطلق أية نيران على ترمب، وليس من المستبعد أن نكتشف لاحقاً أنه غير مؤهل للنجاح في التصويب، كل هذا يجعل الحادثة كاشفة لأمور عدة، أولها خطورة الاستقطاب الجاري في الحياة السياسية الأميركية، وثانيها خطورة تقاليد العنف واستخدام السلاح، وما يكشفه عن توقع أنه أياً كانت نتيجة الانتخابات فسنشهد قدراً من العنف وعدم قبول لهذه النتائج، وثالثها وجود ثغرات أمنية أميركية تنذر بحوادث مشابهة.