ملخص
إسرائيل تخلق مساحة وجود ربما لتوظيفها لاحقاً عندما يجري وقف إطلاق النار وإعادة بناء عملية سياسية جديدة
ينشغل العقل الأمني والاستخباراتي في إسرائيل بقراءة التطورات الراهنة في السودان، ليس انطلاقاً من حسابات سياسية فقط، بل وأمنية واستراتيجية، في ظل تخوف من السيناريو المقبل أياً كان إطاره أو مضمونه، وفي ظل مخاوف استخباراتية من انفتاح المشهد على سيناريوهات قد تفتح جبهات معادية أو على الأقل مقلقة للأمن القومي الإسرائيلي، بخاصة أن تل أبيب لديها تخوفات من دخول دول على الخط، سواء كانت روسيا دولياً وإيران إقليمياً، مما سيتطلب سرعة التحرك والعمل وفق مقاربات استشرافية.
تحسب إسرائيلي
تتخوف إسرائيل من حالة عدم الاستقرار المحتمل في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بخاصة أن تبعات ما يجري أياً كان مساره سيؤثر في طبيعية العلاقات السودانية - الإسرائيلية وفي ظل ترتيبات جرت بين الطرفين، وكان محورها التعامل مع الجانبين سواء قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان أو قائد قوات التدخل السريع الجنرال محمد حمدان دقلو في إشارة إلى أنها لم تحاب طرفاً على حساب آخر، بل تقف على المسافة نفسها من الجانبين، وهو أمر يمنح إسرائيل فعلياً الإمكانية لأن تطرح نفسها وسيطاً وطرفاً في إطار ما يجري من مبادرات وأطروحات للوساطة، وهو ما برز فعلياً في مجمل التحركات الإسرائيلية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية إيلي كوهين مع عدد من القادة الأفارقة، وهو ما يؤكد أن إسرائيل تخلق مساحة وجود ربما لتوظيفها لاحقاً عندما يجري وقف إطلاق النار، وإعادة بناء عملية سياسية جديدة أو تصويب ما هو قائم ومتعلق باتفاقية الإطار.
يشغل إسرائيل ليس حالة عدم الاستقرار في السودان فقط بل يمتد إلى مساحات أخرى من مسارح عمليات أخرى، سواء في جبهة تشاد، الاهتمام الرئيس لإسرائيل، وامتدادات القرن الأفريقي، ومناطق التماس الكبرى على طول الحدود السودانية مع هذه الدول التي تقيم إسرائيل في بعضها نقاط ارتكاز فعلية واستراتيجية، وهي ما تشبه المحطات الاستخباراتية المتنقلة.
أولويات استخباراتية
بالتالي فإن ما يجري في الدوائر الاستخباراتية متعلق بالقلق الإسرائيلي من أي وجود مستجد في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بخاصة من قبل روسيا وإيران، فلن تطمئن تل أبيب إلى الوجود الأميركي في البحر الأحمر، المتمثل في غواصة استراتيجية، بخاصة مع وجود غواصة روسية بالقرب من الموانئ السعودية، وهو ما سيدفع إسرائيل للمطالبة بتعزيز دورها الأمني والاستخباراتي في إطار القيادة المركزية الأميركية العاملة في المنطقة.
سيمضي التحرك الإسرائيلي في إطار الحفاظ على مكاسبها الرئيسة التي حققتها بالسلام مع السودان، وهو الأمر المعرض للخطر في ظل ما يجري من تطورات قد تعصف بما تم، بخاصة مع استمرار توجيه اللوم إلى نتنياهو بأنه ركز على مشروعات السلام الإقليمي وتطوير العلاقات وتنميتها مع دولة الإمارات العربية والبحرين والمغرب وأغفل الجانب السوداني، وهو ما ردت عليه الحكومة الإسرائيلية بأن ما جرى يعد إخفاقاً من داخل الموساد والاستخبارات العسكرية التي انشغلت بالملف الإيراني وبحالة التظاهرات في شوارع إسرائيل وفشلت تقييماتها في التعامل مع المشهد السوداني ولم تشر في تقديراتها الاستخباراتية لطبيعة ما يجري على رغم انتشار عشرات العملاء الإسرائيليين في الجنوب وفي طول مناطق الحدود السودانية الأفريقية، وهو ما يمكن أن يتكرر بخاصة أن عودة العلاقات الإسرائيلية مع تشاد كان هدفه الرئيس الاقتراب من مساحات التعامل مع الدول الأفريقية بمقاربة جديدة تقوم علي الدعم الإنساني والاقتصادي، إضافة لمراقبة ما يجري من تحولات حقيقية في الملف الأمني، وتحرك العناصر الإرهابية في ما تطلق عليه الاستخبارات العسكرية "أمان" أحزمة التوتر والخطر المصنف درجة A.
تبعات مهمة
لا تتخوف إسرائيل كثيراً من تبعات ما يجري في السودان على موجات التدفق أو الهجرة إلى الداخل الإسرائيلي عكس ما يطرح إعلامياً، حيث أعدت إسرائيل خطة التمكين من الخارج التي تعتمد على تقديم الدعم والمساعدات للدول الأفريقية، بما فيها السودان، على استيعاب الداخل من خلال مساعدات إنسانية وأمنية واستخباراتية، بل ونجحت في تعزيز ذلك عبر دعم أمني ولوجيستي عالي المستوى، ودشنت حضوراً في بعض الدول مثل روندا وبورندي، من خلال مؤسسات اقتصادية واستثمارية، كما فعلت ذلك في السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالتالي فإن إسرائيل لا تتخوف من تدفق موجات من العناصر السودانية في حال تمدد أعمال المواجهات، وانفتاح المشهد العسكري لمدة أطول، مع التقدير بأن إسرائيل ستمضي في إطار أمني واستخباراتي للتعامل مع المشهد والابتعاد عن التدخل المعلن أو المباشر مع طرفي الصراع في الداخل السوداني، ومن ثم فإن ما يطرح من احتمالات إمداد السلاح إلى الداخل السوداني وللجيش تحديداً أمر غير صحيح، ولن يتم بخاصة مع تحذيرات أجهزة المعلومات من أن هذا التوجه قد يؤدي إلى مزيد من الانخراط الإسرائيلي غير المبرر في الشأن السوداني، وأن البديل سيكون العمل وفق مقاربة استخباراتية وجمع المعلومات، بخاصة أن لإسرائيل وجوداً أمنياً واستخباراتياً كبيراً في دول لم توقع اتفاقيات سلام مع إسرائيل بعد، ومنها النيجر ومالي والسنغال وغيرها، إضافة إلى مناطق التماس المجاورة للسودان.
واقعياً، وفي ظل حالة عدم وضوح الرؤية فإن إسرائيل الأمنية والاستخباراتية غير متفقة في ما سيجري، فالمستوى السياسي العام يعمل في اتجاه محدد ومباشر مع استمرار الوجود الإسرائيلي مع القوات المسلحة والنظام السوداني على اعتبار أنها تتعامل مع هذا المستوى الرئيس في المقام الأول، الذي يحظى بالقبول الإقليمي والدولي على الأقل حتى الآن.
مسارات التحرك
ومن ثم فإن إسرائيل ستواصل التعامل مع الواقع السياسي الراهن إلى حين اتضاح الرؤية، وفي المقابل لن تسقط من حساباتها في التعامل مع قوات الدعم السريع، حيث يحظى الجنرال محمد حمدان دقلو بعلاقات كبيرة وواسعة مع عناصر كبيرة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على مختلف درجاتها، كما أنه وطد علاقاتها بقادة كبار في الموساد، وزار إسرائيل أكثر من مرة، ومن ثم فإن المؤسسة العسكرية بأكملها، وليس فقط أجهزة المعلومات (الموساد – الاستخبارات العسكرية) ستضع في حساباتها الأمنية كيف ستتعامل مع التأرجح الدوري لمن ستعمل معه مع مراعاة الإخفاق، الذي جرى في شأن عدم التقدير المسبق بما تم، وأدى إلى المواجهات العسكرية أخيراً.
في كل الخيارات الراهنة والمتوقعة ستمضي إسرائيل بمستواها السياسي والعسكري وبصرف النظر عن أي تجاذبات راهنة ومتوقعة في مسارات عدة على النحو التالي:
الأول: العمل في الأساس مع الواقع الراهن، أي التركيز على الإطار الممثل في القوات المسلحة ورموزها، بخاصة مع وجود فرضيات بأن دول الجوار الإقليمي ستقوم بذلك على أساس أن المشهد الحالي يعمل في اتجاه محدد، وأن اتفاق السلام جرى مع وجود النظام الراهن متمثلاً في قائد الجيش رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان، وهو ما يتماشى مع التقييم الأميركي لما يجري بصرف النظر عن أي توقعات قد تدفع الولايات المتحدة لتغيير موقفها وفرض عقوبات على الجانبين، ما قد يتطلب مراجعة الموقف الإسرائيلي في إطار المستجدات المحتملة في سيناريو "اللاحسم" واستمرار ما يجري، مع التقدير بأن استمرار القوات المسلحة، وليس الحسم السريع ستوفر لإسرائيل وجوداً مهماً في النطاقات السودانية بخاصة مع تشاد وأفريقيا الوسطي.
ولهذا ستعمل إسرائيل في هذا المسار على بناء منظومة تحرك وفق تقييماتها الدورية مع التركيز على الثوابت المتعلقة بعلاقة إسرائيل بالسودان، مع الحذر من أي تحولات تمس علاقات واشنطن بالخرطوم في حالة فرض العقوبات على السودان مجدداً، وهو ما قد يدفع القوات المسلحة السودانية للاتجاه إلى البديل والانخراط في علاقات مع الجانب الروسي على حساب التعامل مع الولايات المتحدة، وليس خافياً أن موسكو تعمل في اتجاه إنشاء نقطة ارتكاز استراتيجية ثابتة، وليس مجرد قاعدة عسكرية يتم التخطيط لها منذ سنوات ما بعد سقوط نظام البشير.
الثاني: في حال استمرار العمليات العسكرية وتحولها إلى مشهد مفتوح، وفي إطار من السيناريوهات المتعددة، فإن إسرائيل ستبقي على مسارها السياسي السابق الإشارة إليه مع الاتجاه لمسار استخباراتي، من خلال مجمع الاستخبارات (موساد لي) على اعتبار أنه منفتح عبر شبكاته غير المعلنة على كل الأطراف الراهنة، بما في ذلك جبهة الدعم السريع، بخاصة في الإمداد اللوجيستي بل والسلاح، وهو ما قد يتدعم بالفعل في الفترة المقبلة، بخاصة أن جنرالات الدعم السريع لهم اتصالات عدة بقيادات عليا في الموساد، وقد تم ذلك منذ سنوات الحرب في دارفور، والأمر لا يقتصر فقط على دقلو الذي قد يوفر لاحقاً لإسرائيل الأمنية والاستخباراتية مسارات تحرك حقيقي وفاعل على طول مناطق التماس وفي منطقة غرب السودان، وتضع الموساد تحديداً في تقديراتها أن قوات الدعم السريع ترتبط فعلياً بعلاقات وطيدة بالحركات المسلحة التي لم تدخل بعضها العملية السياسية.
كما أن التقييمات الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، بصرف النظر عما يجري من تطورات عسكرية حالية، تمضي في أن المكون السياسي تربطه علاقات جيدة مع قوات التدخل السريع ومرشحة للاستمرار مقابل توتر وتجاذب موقف المكون السياسي مع القوات المسلحة السودانية، وهو ما قد يتغير في الفترة المقبلة بحسب مسارات ما يجري من تطورات فعلية في مسرح العمليات العسكرية، لكن المؤكد أن علاقات الدعم السريع مع القوي السياسية والمدنية على مختلف درجاتها سيحكمه ضوابط متعددة، وهو ما ستضعه إسرائيل الأمنية والاستخباراتية في رأس أولوياتها.
الخلاصات الأخيرة
من المرجح استمرار مراقبة إسرائيل لما يجري، بخاصة أن الثوابت والمعطيات الرئيسة للموقف الإسرائيلي لن تتغير بالفعل وترتبط بمسار ما سيجري عسكرياً بين الجانبين السودانيين، مع التأكيد أن هناك تقييماً إسرائيلياً ثابتاً بضرورة التركيز على المكون السياسي/ المدني، الذي ليس لديه تحفظات حقيقية على مسارات العلاقات مع إسرائيل شريطة الانخراط في عملية سياسية مع الجانب الفلسطيني ضمن ما يعرف بالمبادرة العربية، وهي شروط عامة ونظرية في إطار من المصالح العليا المعلنة التي تبديها الدول العربية، وليست مقصورة على السودان الداخل فقط.