ملخص
تتنافس أميركا والصين في الذكاء الاصطناعي. تملك واشنطن التفوق في البحوث والعقول الخبيرة والابتكارات لكنها تحتاج إلى استراتيجية كي تحول معطيات قوتها إلى فوز مبين على بكين
تاريخياً، شكلت التكنولوجيا العنصر الحاسم في تحديد الدول التي تهيمن على السياسة العالمية. وبفضل سرعة انتشار التصنيع فيهما خلال القرن التاسع عشر، تفوقت ألمانيا والمملكة المتحدة على روسيا في القوة الاقتصادية. وولد انتشار التصنيع بصورة واسعة في أوروبا تأثيرات أشد عمقاً. ففي عام 1790، امتلكت أوروبا والصين والهند حصصاً متساوية تقريباً من الإنتاج الصناعي العالمي. ومع حلول عام 1900، سيطرت أوروبا التي شكل قاطنوها ربع سكان العالم آنذاك، على 62 في المئة من التصنيع عالمياً. وفي المقابل، حازت الصين ستة في المئة والهند أقل من اثنين في المئة.
بعد ذلك، ترجمت القوى الأوروبية قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية، وأطلقت موجة من التوسع الاستعماري. بحلول عام 1914، احتل الأوروبيون أو سيطروا على أكثر من 80 في المئة من كوكب الأرض. وقد استطاعت الدول الأوروبية تحقيق ذلك استناداً إلى ما أحدثته الثورة الصناعية من تغييرات في المعطيات الأساسية للطاقة، إذ جعلت أوروبا من الفحم والصلب وإنتاج النفط، مكونات حاسمة في التفوق العسكري. وأثناء الحرب العالمية الثانية، نقلت الولايات المتحدة قدراتها التصنيعية الهائلة إلى الأعمال الحربية، وأعادت تجهيز المصانع كي تغدو قادرة على صنع الدبابات والطائرات، مما جعل جيشها الأقوى على وجه الأرض. أثناء ذروة الحرب، أنتجت مصانع الحلفاء [أميركا وأوروبا] ما يزيد على 3.5 أضعاف ما أنتجته دول المحور [ألمانيا وإيطاليا واليابان وحلفائها] من الطائرات والدبابات، مما أدى إلى دفن ألمانيا واليابان وإيطاليا تحت هجوم من الحديد.
واستطراداً، حافظت واشنطن على مكانتها الرائدة في المئة سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بفضل التكنولوجيا إلى حد كبير. بعد إطلاق الاتحاد السوفياتي القمر الاصطناعي [الأول] "سبوتنيك"، عززت الولايات المتحدة استثماراتها في العلوم والتكنولوجيا. وأنشأت جامعات وشركات تكنولوجية تسنمت موقع الريادة العالمية، لكن التكنولوجيا ليست أمراً ثابتاً بصورة مطلقة. وحاضراً، يولي العالم اليوم مكانة عالية لابتكار قد يثبت أنه يمتلك القدرة على تبديل الأمور بصورة جذرية على غرار ما فعلت الصناعة في القرن التاسع عشر، أي الذكاء الاصطناعي. في أوقات سابقة، بدا الذكاء الاصطناعي كأنه من أمور الخيال العلمي، إلى حد كبير، لكنه أصبح شديد الشيوع والانتشار في كل مكان. وعلى غرار صنع الثورة الصناعية آلات تفوق قوتها أجساد البشر، تعمل ثورة الذكاء الاصطناعي على إيجاد آلات قد تفوق البشر في الذكاء والمعرفة. ففي الآونة الأخيرة، استطاعت [محركات البحث التوليدي] "جي بي تي 4" GPT-4 التي خلفت "تشات جي بي تي" ChatGPT، التساوي مع البشر في اختبارات "سات" SAT و"غري" GRE و"بار" Bar. وبسرعة، يواصل الذكاء الاصطناعي التقدم والتطور. وقد أحدث تبديلاً في وظائف تمتد من برمجة الكمبيوتر إلى قيادة الطائرات المسيرة المقاتلة. وسيواصل تغيير المهن في المستقبل.
وبالتالي، يصعب تقييم أي الدول تتسنم موقع الريادة في الذكاء الاصطناعي، خصوصاً أن المعرفة بالخوارزميات التي تستند إليها تلك التقنية، وراء التكنولوجيا يمكن أن تنتشر بسهولة عبر الحدود. في المقابل، يعرف الباحثون المكونات التي تضمن تطور الذكاء الاصطناعي، وتتمثل في وجود كميات هائلة من البيانات وأجهزة الحوسبة، وعلماء ومهندسين موهوبين في الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى توفر موارد كافية لدعم مبادرات الذكاء الاصطناعي. وتستطيع بلدان عدة الحصول على مزايا واضحة في تلك المجالات، مما يعني أيضاً أن العلماء يستطيعون استخدامها كمؤشرات في قياس ما تحوزه كل دولة من قوة في الذكاء الاصطناعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا كانت الولايات المتحدة تريد الفوز بالسباق العالمي في الذكاء الاصطناعي، فعليها أن تتعامل مع بكين بحذر، فتبني مبادراتها الخاصة بتعمق. إنها بحاجة إلى استراتيجية من شأنها أن تبقي الصين معتمدة على الرقاقات الإلكترونية الأجنبية، وتحتاج إلى مواصلة اجتذاب أفضل المواهب في الذكاء الاصطناعي من أرجاء العالم، والاحتفاظ بها. ينبغي لها التثبت من أن مؤسساتها، خصوصاً العسكرية، تتبنى الابتكارات الجديدة في ذلك المجال بصورة كاملة. وكذلك يجب عليها الاستفادة من مزاياها الحالية، والعمل الجاد لتعبئة الموارد الأكاديمية والشركات الحكومية بغية تحسين إتقانها تلك التكنولوجيا التي ستتحكم في المستقبل.
وحاضراً، يبدو جلياً أن الولايات المتحدة تمسك بزمام الريادة في الذكاء الاصطناعي، بفضل ما تمتلكه من تقدم في أجهزة الحوسبة والمواهب البشرية، إلى حد أن الدول الأخرى لا تقدر على مجاراتها. في المقابل، يتسارع الالتحاق بذلك الركب من التطور. ويرجع ذلك إلى أن منظومة تطوير نظم الذكاء الاصطناعي منفتحة للغاية وتتكاثر فيها الاختراقات بسرعة، ولدى بكين استراتيجية حكومية أفضل من واشنطن في تطوير الذكاء الاصطناعي، إذ تتقدم الصين على الولايات المتحدة في درجة تبني الذكاء الاصطناعي، ولديها مجتمع كبير ومتزايد من الخبراء المتمرسين بالذكاء الاصطناعي. وكذلك تستفيد بكين بصورة محتمة من قيود الهجرة الأميركية التي قد تساعد الصين في الاحتفاظ بمزيد من المواهب لديها. في سياق مماثل، قد تعمل جهود واشنطن في إبعاد الصين عن التكنولوجيا الأميركية، على تقريب اليوم الذي لا تعود فيه بكين بحاجة إلى أجهزة الحوسبة الأميركية.
فلتنتبه أميركا إلى مزاياها المتقدمة
في سباق الهيمنة على مجال الذكاء الاصطناعي، تمتلك واشنطن اليد العليا، إذ تهيمن الشركات الأميركية على النقاط المحورية الحاسمة في المعدات اللازمة لإنتاج أشباه موصلات متقدمة، مما يمنح الولايات المتحدة سيطرة يعز نظيرها على سلاسل الإمدادات اللازمة لصناعة الذكاء الاصطناعي. تتضافر هذه الميزة مع المسارات التي بات الذكاء الاصطناعي يسير فيها. فكل ستة أشهر، تتضاعف كمية أجهزة الحوسبة اللازمة لتدريب نماذج التعلم الآلي المتطورة إذ تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً، الآلاف من الرقاقات المتقدمة الفائقة التخصص، ولا يمكن تصنيع تلك الرقاقات الإلكترونية إلا باستخدام التكنولوجيا الأميركية.
للاستفادة من هذه الميزة، حظرت إدارة بايدن في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، على الشركات أن تبيع الصين معدات تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة وشرائح الذكاء الاصطناعي المصنوعة باستخدام التكنولوجيا الأميركية. بالنسبة إلى بكين، قد تكون هذه القيود مدمرة. تعتمد الصين بشكل كبير على الرقاقات الإلكترونية الأجنبية، وتستورد ما يربو على 400 مليار دولار منها سنوياً. في المقابل، يعطي ذلك الحظر تأثيراً مزدوجاً يتمثل في حرمان الصين من شراء أجهزة ذكاء اصطناعي متطورة، إضافة إلى حرمانها من الأدوات التي قد تحتاج إليها في بناء أجهزة مماثلة بنفسها. في أوائل عام 2023، ورد أن اليابان وهولندا، المصنعين الرئيسين الآخرين لمعدات تصنيع أشباه الموصلات، انضمتا إلى تلك الضوابط الأميركية على بيع الرقاقات الإلكترونية إلى الصين، على رغم غموض التفاصيل العامة لتلك الصفقة، بالتالي سيثبت الحظر نجاحه الكبير إذا طبقت الدولتان بشكل صحيح الحظر الذي فرضته واشنطن. ويرجع ذلك إلى أن تلك الدول الثلاث تسيطر بشكل جماعي، على 90 في المئة من السوق العالمية لمعدات تصنيع أشباه الموصلات، بالتالي يمكن أن تضمن القيود المشار إليها آنفاً، تراجع إنتاج الرقاقات الإلكترونية الصينية الصنع، فيما يستمر تقدم الصناعة العالمية لتلك المعدات.
في مسار متصل، تضمن السيطرة على الرقاقات الإلكترونية تقدم الولايات المتحدة على الصين، ولكن مع زيادة كثافة اعتماد أبحاث الذكاء الاصطناعي على قوة الحوسبة، ستحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى الاستثمار في مزيد من موارد الحوسبة محلياً كي تستمر في حيازة اليد العليا في تلك التكنولوجيا. وتوضيحاً، يستلزم تدريب النماذج الأكبر في تعليم الآلات، توفر آلاف الرقاقات المتقدمة والمتخصصة، مع تخصيص تمويل بملايين الدولارات لكل مشروع تدريبي، فيما تعاني معظم المؤسسات في شأن تحمل تلك النفقات، إذ يحصل عدد كبير من المختبرات الرائدة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، على تمويل يأتي من الشركات التكنولوجية الكبرى التي تحوز موارد مالية ضخمة. ومثلاً، تمتلك شركة "غوغل" الأم، مختبري "ديب مايند" DeepMind و"غوغل برين" Google Brain. كذلك حصلت شركة "أوبن أي آي" OpenAI، عقب إطلاقها روبوت الدردشة "تشات جي بي تي" ChatGPT على استثمار بقيمة 10 مليارات دولار من "مايكروسوفت"، بالتالي يجد الباحثون الأكاديميون في الذكاء الاصطناعي أنفسهم خارج نطاق تدريب النماذج الكبيرة [بفعل افتقار المؤسسات الأكاديمية إلى التمويلات اللازمة]. وفي ذلك السياق، طرحت حكومة الولايات المتحدة "المورد الوطني لبحوث الذكاء الاصطناعي" National Artificial Intelligence Research Resource كي يكون مصدراً يزود أمثال أولئك الأكاديميين ببيانات إضافية واسعة وأجهزة حاسوبية متطورة، لكن يجب على الكونغرس تمويل تلك الموارد الفيدرالية بغية مساعدة الأكاديميين الأميركيين على متابعة المنافسة في أبحاث الذكاء الاصطناعي المتطورة.
الصين تنزف المواهب في مضمار الذكاء الاصطناعي
تتمتع الولايات المتحدة أيضاً بميزة على الصين في مجال التنافس على المواهب. من بين أفضل 15 مؤسسة تنشر أبحاث التعلم العميق للآلات، تبرز 13 جامعة أميركية أو مختبرات تابعة لشركات أميركية. لا يظهر سوى "جامعة تسينغهوا" من الصين. وتوظف الجامعات والشركات الأميركية أفضل الباحثين من جميع أنحاء العالم لدرجة أن ثلثي كبار علماء الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة أنهوا دراساتهم الجامعية في الخارج قبل القدوم إلى البلاد، بما في ذلك عديد من الصينيين.
واستكمالاً، لا تعني تلك المعطيات أن الصين تفتقر إلى المواهب في الذكاء الاصطناعي، إذ تعتبر تلك الدولة موطناً لأحد المجتمعات الأسرع تطوراً عالمياً في أبحاث الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تمتعه بسرعة كبيرة في التحسن لجهة النوعية. وتقدم الصين أوراقاً بحثية في مجال الذكاء الاصطناعي يفوق عددها ما يأتي من الولايات المتحدة. وزاد عدد المؤلفين الصينيين ممن يسهمون في أهم مجلات الذكاء الاصطناعي بـ12 ضعفاً بين عامي 2009 و2019. وقد صار ذلك العدد الآن أعلى بنحو 2.5 مرة مقارنة بنظيره في الولايات المتحدة.
في ملمح متصل، تحتفظ الولايات المتحدة بتقدمها في نوعية تلك الأوراق البحثية، إذ يزيد اقتباس أوراق البحث الأميركية بـ70 في المئة عن الأمر نفسه بالنسبة إلى الأوراق الصينية. وكذلك تنزف الصين المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد تتبعت دراسة عام 2020 نهض بها مركز "ماركو بولو" الأميركي للأبحاث، مسار تدفق المواهب الدولية في الذكاء الاصطناعي استناداً إلى عينة من الأوراق البحثية التي جرى قبولها في أحد أفضل مؤتمرات الذكاء الاصطناعي عالمياً. ووجدوا أنه على رغم أن باحثين بارزين في الذكاء الاصطناعي أنهوا دراساتهم الجامعية في الصين أكثر من أي دولة أخرى، فإن الغالبية العظمى من أولئك الخبراء غادروا الصين بهدف متابعة عملهم في الخارج. وقد قصد أكثر من نصفهم الولايات المتحدة. وبعد التخرج، بقي في الولايات المتحدة أكثر من 90 في المئة ممن قدموا إليها. وقد تكون الصين أكبر مصدر لمواهب الذكاء الاصطناعي، لكن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من مواهب الباحثين الصينيين.
وفي سياق موازٍ، لا يمثل النزوح الطريقة الوحيدة التي يفشل فيها عدد سكان الصين الأكبر في منح البلاد مكانة في سباق الذكاء الاصطناعي، إذ يبلغ عدد سكان تلك البلاد 1.4 مليار نسمة، بالتالي يجب أن يتمكن الباحثون الصينيون من الوصول إلى بيانات أكثر من نظرائهم الأميركيين، لكن التكنولوجيا لا تقيدها الحدود دائماً. وتحوز شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى، وهي تلك التي تمول مجموعة من أكبر الابتكارات المتفوقة في الذكاء الاصطناعي، انتشاراً عالمياً يتجاوز الشركات الصينية. ومثلاً، يملك "فيسبوك"، 2.7 مليار مستخدم، و"يوتيوب" أكثر من ملياري متابع. ويحوز "وي تشات" WeChat، أكبر تطبيق رقمي في الصين، 1.2 مليار مستخدم. في ملمح مماثل، تمتلك شركات التكنولوجيا الأميركية قاعدة بيانات فائقة التنوع. وباستثناء تطبيق "تيك توك" TikTok الذي تصنعه شركة "بايت دانس" ByteDance، واجهت منصات وسائل التواصل الاجتماعي الصينية صعوبة في الحصول على موطئ قدم لها خارج الصين، مما يجعلها في وضع غير مواتٍ في مجال الوصول إلى البيانات المتنوعة. بالتالي، لربما تصلح تلك التطبيقات الصينية في مجال التنبؤ بسلوك مستخدمي الإنترنت الصينيين، لكن نماذج الذكاء الاصطناعي التي تستند إليها تلك التطبيقات نفسها، قد لا تكون ملائمة للأسواق الخارجية.
كسب الأرض
على رغم ذلك، لا تهيمن واشنطن على كل مكونات سباق الذكاء الاصطناعي. ومثلاً، حينما يتعلق الأمر ببعض قطاعات جمع البيانات، قد تحل الصين في المقدمة. وتتمتع الشركات الأميركية بنطاق أوسع، لكن "الحزب الشيوعي الصيني" بنى منظومة محلية ضخمة في المراقبة من شأنها أن تقدم مجموعات أكبر من البيانات، مما يعني تطويراً أسرع للذكاء الاصطناعي في بعض التطبيقات، بالمقارنة مع ما تستطيع الولايات المتحدة الحصول عليه وتجميعه. في ذلك الصدد، إن الصين موطن لنحو النصف من أصل مليار كاميرا مراقبة منتشرة في أرجاء العالم، وتتوزع على المطارات والفنادق والبنوك ومحطات القطارات ومترو الأنفاق والمصانع والمجمعات السكنية وحتى المراحيض العامة. وستمنح تلك المنظومة الشركات الصينية ميزة على منافسيها الأميركيين في مجال التعرف إلى الوجوه [أحد المجالات الحساسة في الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلات]. وتذكيراً، أدت ردود الفعل الشعبية إلى إبطاء جهود الولايات المتحدة في نشر كاميرات المراقبة العامة على نطاق واسع. وأوقفت اثنتان من كبرى شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة، هما "أمازون" و"مايكروسوفت"، عمليات بيع تقنيات التعرف إلى الوجه إلى سلطات إنفاذ القانون. وبصورة كلية، ألغت شركة "آي بي أم" IBM عملها في مجال تقنية التعرف إلى الوجه. وكذلك حظر عدد من المدن والولايات على قوى إنفاذ القانون، من استخدام برامج التعرف إلى الوجه.
استطراداً، قد لا يؤدي تمييز بكين في تقنيات التعرف إلى الوجه، إلى منح الصين تقدماً كبيراً في الذكاء الاصطناعي. فليس بالضرورة أن يترجم التفوق في جمع البيانات على الوجوه الصينية، إلى تفوق مماثل بالنسبة إلى الوجوه غير الصينية، وبالتأكيد لن يساعد ذلك الأمر نفسه في تدريب طياري الذكاء الاصطناعي كي يكونوا أفضل من سواهم. [يعني ذلك أن القتال الجوي المتوقع قد يحدث مع مقاتلين غير صينيين، مما يقلل من تفوق بكين في تقنيات التعرف إلى الوجوه].
وفي الإطار نفسه، تمتلك الشركات الأميركية بيانات وفيرة بفضل انتشارها الدولي، إضافة إلى أن الأميركيين قدموا بياناتهم الشخصية عن طيب خاطر، إلى تلك الشركات. واتصالاً بذلك، شنت بكين حملة صارمة على قوة شركات التكنولوجيا، وشمل ذلك مجموعة من الإجراءات التي زادت حماية خصوصية بيانات الجمهور، بعد سلسلة من الفضائح [في مجال حماية البيانات]. ومع ذلك، من غير المرجح أن يؤدي فشل واشنطن في وضع تشريعات تنظم عمل شركات التكنولوجيا، إلى إعطاء الأخيرة ميزة كبيرة في البيانات. ففي المجالات الجديدة للذكاء الاصطناعي، قد يؤدي عدم اليقين المتعلق بوضعية القوانين، إلى إعاقة الابتكار إذ يغدو محتماً على الشركات أن تكافح لمعرفة ما يمكنها فعله وما لا تستطيع الإقدام عليه. ومن خلال توضيح قوانين الملكية الفكرية المتعلقة بتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال بالنسبة إلى مخرجاتها، تستطيع الولايات المتحدة مساعدة شركاتها على فتح فرص جديدة. [حتى الآن، ليس واضحاً مدى التزام روبوتات الذكاء الاصطناعي حقوق الملكية الفكرية، إذ إنها تغترف من المحتوى الموجود في قواعد البيانات على الإنترنت والمواقع الشبكية المتنوعة. ولم يصدر توضيح عن مدى التزام تلك العمليات حقوق الملكية الفكرية].
لا يقتصر الأمر على مجال البيانات الذي تستطيع واشنطن تدبر الأمر فيه، وإن بصعوبة. وفي أجزاء أخرى من التنافس في مضمار الذكاء الاصطناعي، تعمل الصين جاهدة على سد الفجوة مع الولايات المتحدة. وتدأب الصين على تحسين قاعدة المواهب المحلية لديها، وزيادة عدد العلماء والمهندسين. ويضاف إلى ذلك أنها تمتلك أكثر من 200 برنامج لتوظيف المواهب، تركز كلها على جذب 400 ألف عالم صيني في الخارج بهدف إعادة المعرفة العلمية إلى الصين. لطالما أبدت حكومة الولايات المتحدة قلقها في شأن الجهود الصينية في الحصول على التكنولوجيا المعتمدة في الولايات المتحدة، ولذلك ردت على خطوات بكين في ذلك المجال عبر قمع عمليات التجسس، ولكن إذا أدت التحقيقات المتزايدة حول الباحثين الصينيين إلى شعور البعض منهم بأنه ليس موضع ترحيب في الولايات المتحدة، سيؤول ذلك إلى وضع تؤدي فيه جهود واشنطن [في مكافحة التجسس] إلى وقف تدفق المواهب الصينية. بالتالي، ستكون تلك التحركات وأمثالها بمثابة الهدية لبكين.
في نفس مماثل، إن واشنطن معرضة لخطر فقدان المهاجرين من أصحاب المهارات العالية من جميع أنحاء العالم، بسبب سياسات الهجرة الخاصة بها. ومثلاً، يقيد الحد الأقصى العددي المفروض على تأشيرات العمل من نوع "أتش- 1 ب" H-1B، أي التأشيرات التي تمنح عادة للمهاجرين من خريجي الجامعات، يقيد بشكل تعسفي قدرة الشركات الأميركية في توظيف المواهب الأجنبية. وكذلك يعني وجود حدود قصوى لكل بلد على البطاقات الخضراء، أنه يتعين على العلماء الهنود المهاجرين، الانتظار فترات طويلة قبل أن يصبحوا مقيمين دائمين في الولايات المتحدة، مع الإشارة إلى أن العلماء الهنود يشكلون ربع القوى العاملة في وادي السيليكون (قدرت إحدى الدراسات أن المواطنين الهنود ممن لديهم بالفعل تأشيرات ويتقدمون للحصول على بطاقات خضراء مستندة إلى العمل، عليهم الانتظار بين ثماني وتسع سنوات قبل أن يتمكنوا من الحصول على واحدة)، بالتالي ليس من المفاجئ أن 70 في المئة من كبار الباحثين في مجال تعليم الآلات المقيمين في الولايات المتحدة، قد ذكروا أن التأشيرات ومشكلات الهجرة الأخرى شكلت عقبة أمام توظيف علماء أجانب. إنه أحد مجالات السياسة التي يتضح فيها أن التشريعات الحكومية تضر بالقدرة التنافسية الأميركية.
في ملمح متصل، اتخذت إدارة بايدن بعض الخطوات لتسهيل وصول طلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى الولايات المتحدة. ومثلاً، عمل البيت الأبيض على زيادة عدد برامج التبادل مع الخارج، وتوسيع عدد المجالات المؤهلة للحصول على تأشيرة "التدريب العملي الاختياري" لخريجي الجامعات الجدد في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات التي يضمها مصطلح "ستيم" STEM. وكذلك سهل البيت الأبيض على حاملي الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، التقدم بطلب للحصول على تأشيرة "أو- 1أ" O-1A التي تمنح لمن لديهم "قدرة استثنائية". تشكل الأمور السابقة خطوات قيمة، لكنها ستؤثر بشكل طفيف في تلك المشكلة [استقدام المواهب العلمية من خارج أميركا]. وتحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاح شامل في سياسات الهجرة المتعلقة بالعمال من أصحاب المهارات العالية كي يغدو من السهل على الجامعات والشركات الأميركية توظيف العلماء والمهندسين الدوليين. وعلى نحو خاص، يتعين على واشنطن إعفاء الحائزين على دكتوراه في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، من السقف المفروض على عدد التأشيرات من نوع "أتش- 1ب" H-1B ويسهلون طريقهم إلى الإقامة الدائمة، بالتالي يفترض أن يجري ذلك بسرعة. فبصورة دائمة، ستكون الولايات المتحدة كدولة يبلغ تعداد سكانها 330 مليون نسمة، في وضع غير موات في التنافس مع بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، إذا قيدت نفسها بالمواهب المحلية. وتذكيراً، تكمن الميزة الفريدة للولايات المتحدة في قدرتها على الاستفادة من الأفضل والأذكى من جميع أنحاء العالم، ولا يمكنها تحمل خسارة تلك الميزة.
أبق أعداءك بقربك
لا تشكل الهجرة المجال الوحيد الذي يمكن أن تضر فيه سياسات واشنطن بمعركتها في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت الحالي، قد تلحق قيود التصدير التي تفرضها إدارة بايدن الضرر ببكين، لكن الحظر يخاطر بتعجيل حملة بكين نحو التوصل إلى الاستقلالية في إنتاج الرقاقات الإلكترونية، بالتالي قد تدفع القيود الأميركية في مجال الرقاقات الإلكترونية مثلاً، على أن تنتقل الـ400 مليار دولار التي رصدتها الصين لشراء الرقاقات، إلى الداخل ما يغذي صناعة أشباه الموصلات المحلية، بالتالي سينضاف ذلك المبلغ إلى جهود الحكومة المكثفة بالفعل في زيادة إنتاج الرقاقات المحلي. وبمجرد أن لا تحتاج بكين إلى رقاقات أجنبية، ستكون الولايات المتحدة قد فقدت نفوذها على خصمها.
في سياق متصل، قد تدفع قيود واشنطن على بيع الرقاقات الإلكترونية للصين، إلى استبعاد التكنولوجيا الأميركية من سلاسل التوريد الخاصة ببكين. على رغم أن قيود الولايات المتحدة على الرقاقات الإلكترونية لا تغطي سوى واحد في المئة من سوق تلك الرقاقات في الصين اليوم، فإن حجم السوق المحظورة سيزداد مع تقدم التكنولوجيا، شريطة أن تظل القيود سارية (وفق ما وعد به عدد من المسؤولين الأميركيين). وفي وقت سابق، وصل الأمر بالشركات الأميركية إلى البحث عن طرق تمكنها من التغلب على القيود التي تفرضها واشنطن. فبعد أن حظرت الحكومة الأميركية شركة "هواوي" Huawei من تلقي رقاقات أميركية الصنع في عام 2019، واصلت شركتا "آنتل" Intel و"ميكرون" Micron شحن الرقاقات إلى "هواوي" من خلال الاستغناء عن المكونات المصنوعة في الولايات المتحدة.
واستطراداً، فبدلاً من تطبيق الحظر الشامل، يجب على صانعي السياسة الأميركيين العمل من كثب مع حلفائها بغية إدامة اعتماد الصين على الرقاقات الأجنبية، إذ ينبغي للولايات المتحدة حظر بيع الرقاقات الإلكترونية إلى الصين في التطبيقات العسكرية أو تلك التي تسهل انتهاكات حقوق الإنسان في الصين. وفي المقابل، ينبغي الاستمرار في المبيعات إلى مراكز البيانات التجارية. إضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة العمل مع الحلفاء على إنشاء نظام أوسع وأكثر تعددية في ضوابط تصدير أشباه الموصلات بغية إغلاق الفرص أمام الصين في التحايل على الضوابط الأميركية. ستساعد هذه الخطوات في الحفاظ على الصين معتمدة على الرقاقات الأجنبية التي تصنع باستخدام التكنولوجيا الأميركية، مما يضمن احتفاظ واشنطن بزمام الأمور مع تقدم ثورة الذكاء الاصطناعي.
استناداً إلى ذلك، تفرض ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بموقعها المتقدم عالمياً، أن تستثمر واشطن في أشكال جديدة من أبحاث الإلكترونيات الدقيقة التي يمكن أن تضمن قيادة الشركات الأميركية في تكنولوجيا أشباه الموصلات مستقبلاً. لقد أدى التقليص المستمر في أحجام الترانزستورات إلى تقدم الرقاقات الإلكترونية طيلة عقود من الزمن، ولكن نظراً إلى أن الرقاقات الأكثر تطوراً أصبحت صغيرة إلى أقصى الحدود الفيزيائية الممكنة، فمن المحتمل أن تأتي الابتكارات المستقبلية من حقول جديدة على غرار تقنيات تكثيف المهام وضغطها على الرقاقات الإلكترونية بما يؤدي إلى زيادة مطردة في الوظائف التي تستطيع الرقاقات الأكثر تقدماً النهوض بها.
واستكمالاً، يعد "قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم" CHIPS and Science Act الذي صدر أخيراً في الولايات المتحدة، مع تمويل بـ52 مليار دولار فرصة لإعادة تصنيع الرقاقات المتطورة إلى الوطن، إضافة إلى الاستثمار في أنواع جديدة من ابتكارات أشباه الموصلات. [تقاس قدرة الرقاقات الإلكترونية تقليدياً بعدد الترانزستورات التي يمكنها رصفها على سطحها. ومع التقدم في التصغير وتقنيات النانو، وصل العدد إلى أرقام فلكية، لكن ذلك لم يلغِ الحاجة إلى زيادة قوة الرقاقات الإلكترونية. ويمثل التكثيف الوظيفي طريقة رئيسة في ذلك].
التكيف البنيوي
إذا أرادت الصين والولايات المتحدة الاستمرار في كونهما القوة الرائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي، فستحتاجان بالتأكيد إلى موارد من الدرجة الأولى في الباحثين والمصنعين. واستطراداً، إن تحويل الخبرات والابتكارات إلى قوة صلبة، يفرض على البلدين كليهما إيجاد طرق في دمج اختراعات الذكاء الاصطناعي ضمن جيوشهما. إنها ليست مهمة بسيطة. على عكس تكنولوجيا التخفي أو الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، تأتي معظم التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي من القطاع المدني، بالتالي يجب إعادة صياغة تراكيبها وتوسيع نطاقات أعمالها، كي تستطيع التأثير في ساحة المعركة.
تدرك الدولتان كلتاهما هذا التحدي، وتعملان بجد على مواجهته. ومثلاً، انخرطت وزارة الدفاع الأميركية في عملية بناء مؤسسات، وأنشأت عشرات المكاتب الجديدة المصممة لإدخال تكنولوجيات القطاع الخاص إلى القوات المسلحة. وقد حققت الوزارة بعض النتائج الإيجابية. ومثلاً، جرى إنشاء "وحدة الابتكار الدفاعية" DIU في عام 2015 حين حملت تسمية "وحدة الابتكار الدفاعية التجريبية" DIUx. وقد تعاقدت "وحدة الابتكار الدفاعية" مع 120 شركة لا تعمل تقليدياً في المجال الدفاعي و60 شركة استجد عملها مع وزارة الدفاع بصورة حصرية. لقد ساعدت تلك الإجراءات في تعزيز الابتكارات العسكرية الجديدة، بما في ذلك أنها ساعدت في إطلاق مشروع "مايفن" Maven الأميركي الرسمي، الذي يستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي للتعامل مع أشرطة الفيديو الآتية من الطائرات من دون طيار.
لقد سار الجيش الصيني على خطى واشنطن. في عام 2018، أنشأت "لجنة العلوم والتكنولوجيا في اللجنة العسكرية المركزية" التي وصفت نفسها بأنها "مجموعة صغيرة للاستجابة السريعة" مكرسة لتبني اختراعات الذكاء الاصطناعي القابلة للتسويق، وقد صممت ظاهرياً لتأتي على غرار "وحدة الابتكار الدفاعية التجريبية" (حتى إن بعض التقارير الصينية أشارت إلى المجموعة باسم "وحدة الابتكار الدفاعية التجريبية" DIUx الصينية). استخدمت الصين وكالات متنافسة صيغت كي تكون على شاكلة "وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة" الأميركية، بغية جذب مبتكري القطاع الخاص ودفعهم إلى العمل على مواجهة المشكلات الصعبة. بعد أن أحرزت الولايات المتحدة تقدماً في تقنيات تنسيق أعمال مجموعات تدار بالذكاء الاصطناعي، على غرار تعاون الروبوتات بشكل مستقل لأداء مهمة ما، وكذلك في المعارك الجوية المباشرة بين طائرات معتمدة على الذكاء الاصطناعي، أجرت الصين عروضاً عامة للتقدم الذي حققته في النوعين المذكورين من التقنيات.
بمجرد استغناء بكين عن الرقاقات الأجنبية، ستكون الولايات المتحدة قد فقدت نفوذها
على رغم أن بكين تنسخ قواعد اللعبة من واشنطن، فإن قادة الولايات المتحدة قلقون من أن بلادهم قد تتخلف في نهاية المطاف عن الصين. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى أن بعض العاملين الأميركيين في مجال التكنولوجيا يترددون في التعاون مع الجيش الأميركي. حينما أدت احتجاجات موظفي "غوغل" إلى توقف الشركة عن العمل في "مشروع مايفن" عام 2018، أصيب القادة العسكريون الأميركيون بالذعر من أنهم سيستبعدون من التكنولوجيا التجارية التي ستغير قواعد اللعبة في المستقبل، لكن لم تثبت صحة تلك المخاوف. في الواقع، أثبتت شركات التكنولوجيا حرصها على العمل مع وزارة الدفاع في مجال الذكاء الاصطناعي. حينما طلب البنتاغون تقديم عطاءات على عقد حوسبة سحابية مدعوم بالذكاء الاصطناعي بقيمة 10 مليارات دولار، تنافست شركات "أمازون"، و"آي بي أم"، و"مايكروسوفت"، و"أوراكل" للفوز بها. كذلك حدث تكاثر انفجاري في أعداد الشركات الناشئة للذكاء الاصطناعي التي تعمل في مجالات لها توجه دفاعي. وشمل ذلك شركات أضحت الآن كبيرة على غرار "آندوريل" Anduril، وصولاً إلى شركات صغيرة كشركة "هيرون سيستمز" Heron Systems. وقد تغلبت الأخيرة على شركة "لوكهيد مارتن" Lockheed Martin العملاقة في مسابقة الاشتباكات الجوية لعام 2020. وبلغ الأمر أن حتى شركة "غوغل" عادت إلى التعاقد الدفاعي.
إذا كان ثمة ما يذكر في ذلك الصدد، فيتمثل في أن الحكومة الأميركية لديها مشكلة معاكسة [للصين]، هو أن شركاءها التجاريين عاقدو العزم للغاية على الاستفادة من حاجات الجيش لدرجة أنهم يجعلون من الصعب على البيروقراطية الحكومية أن تتبنى التكنولوجيا الجديدة بشكل صحيح. في ذلك الصدد، أطلقت شركات التكنولوجيا دعاوى قضائية، ورفعت احتجاجات. ودعت إلى إجراء تحقيقات في عملية اختيار عقد الحوسبة السحابية لوزارة الدفاع في محاولة لأخذ العقد لأنفسهم، بالتالي أدت جهودهم إلى إحداث شلل في مسار البرنامج استمر ثلاث سنوات ونصف السنة، قبل أن تستسلم وزارة الدفاع أخيراً وتلغي العقد. وحينما عقدت العزم على التقدم في التقنية التي تضمنها ذلك العقد نفسه، وجب على الوزارة صياغة حل متعدد كي يلائم البائعين كلهم، فبات العقد يشمل "أمازون" و"غوغل" و"مايكروسوفت" و"أوراكل" معاً. وبهدف تجنب الوقوع في مزيد من التأخيرات غير المجدية، يجب على الولايات المتحدة إصلاح قواعد الاستحواذ لتقليل الاعتراضات.
في الإطار نفسه، تواجه وزارة الدفاع عقبات هيكلية أخرى أكبر. نجحت وزارة الدفاع في تبني التقنيات التجارية للذكاء الاصطناعي، لكن ذلك ينجح غالباً إذا استخدم في كل مرة على حدة، وضمن مشاريع صغيرة. ولم تنجح الوزارة بعد بدمج الذكاء الاصطناعي في وظائفها الأساسية. ويظهر التاريخ أن الشيء الأكثر أهمية أثناء فترات الاضطراب التكنولوجي يتمثل في إيجاد أفضل الطرق لاستخدام الاختراعات الجديدة. ومثلاً، كانت المملكة المتحدة الدولة الأولى التي طورت حاملات الطائرات، ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية كانت قد تراجعت عن اليابان والولايات المتحدة اللتين تبنتا الطيران المحمول على السفن كمحور أساسي في مستقبل الحرب البحرية. جاءت مزايا الدولتين بفضل البصيرة البيروقراطية. ومثلاً، أظهرت المناورات الحربية في "الكلية الحربية البحرية" إمكانات حاملات الطائرات، أمام أعين قادة البحرية الأميركية. وعلى النقيض من ذلك، ارتكبت لندن خطأ توحيد القوة الجوية تحت قيادة "سلاح الجو الملكي" بدلاً من إعطاء الأولوية للطيران البحري. لقد شكلت قرارات الحكومة، وليس التكنولوجيا، عنصراً حاسماً في تحديد الدول التي تصدرت سباق حاملات الطائرات.
بدأت أجزاء من الاستراتيجية الأفضل في الذكاء الاصطناعي بالظهور في أمكنتها الصحيحة
وبالتالي، بغية دمج الذكاء الاصطناعي بشكل صحيح في القوات المسلحة، يجب على وزارة الدفاع بناء مسار من التجارب التأكيدية المتكررة، والنماذج الأولية، والاختبار، وتطوير المفهوم بحد ذاته [عن ذلك الدمج]، وقد كافحت من أجل النهوض بذلك حتى الآن. بعد النجاح المبكر الذي حققه "مشروع مايفن"، أنشأت وزارة الدفاع "المركز المشترك للذكاء الاصطناعي" Joint AI Center في عام 2018 لتسريع استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لكنه واجه صعوبة في توسيع نطاق التطبيقات في بقية الوزارة. بالاستفادة من ذلك، في عام 2022، أنشأ مسؤولو البنتاغون مكتباً رئيساً جديداً للذكاء الرقمي والاصطناعي، بغية دمج الذكاء الاصطناعي والوظائف المتعلقة بالبيانات في وزارة الدفاع، بما في ذلك مهام "المركز المشترك للذكاء الاصطناعي". إنه تحول مرحب به، لكن يبقى أن نرى إذا كان المكتب الجديد سينجح في التأكد من نشر الذكاء الاصطناعي بالكامل في وزارة الدفاع. سيستغرق بناء المؤسسات الصحيحة اهتماماً متواصلاً من كبار قادة وزارة الدفاع، إضافة إلى تقديم استثمارات مستمرة فيها.
وفي خاتمة المطاف، بغية دمج الذكاء الاصطناعي والاستفادة منه بالفعل، سيحتاج قادة الدفاع الأميركيون إلى تغيير الكيفية التي يقيسون بها قدراتهم العسكرية. لن يتوصل البنتاغون إلى منح الذكاء الاصطناعي مكانته إلا حينما يعتبر الذكاء الاصطناعي مكوناً رئيساً للقوة العسكرية. وحينما يمثل القادة العسكريون أمام الكونغرس للدفاع عن ميزانياتهم، فإنهم يعرضون قضيتهم عبر مقاييس العصر الصناعي. ومثلاً، تشير البحرية إلى عدد السفن التي تحتاج إليها، بينما تحدد القوات الجوية عدد الطائرات التي يتعين عليها شراؤها. تحتفظ تلك القياسات بأهميتها لكن ما بات مهماً اليوم يتمثل في القدرات الرقمية لتلك الأنظمة. ويشمل ذلك امتلاك السفن والطائرات أجهزة استشعار لاكتشاف قوات العدو، والخوارزميات تستطيع معالجة المعلومات وتعزيز القدرة على اتخاذ قرارات أفضل، والذخائر الذكية لتوجيه الضربات بدقة إلى الأهداف. من المستطاع تحسين تلك القدرات كلها باستخدام الذكاء الاصطناعي، ويجب على قادة الولايات المتحدة الشروع بأخذها في الحسبان.
لن يكون من السهل على القوات المسلحة إجراء هذه التغييرات، ذلك أن الجيش الأميركي يمثل بيروقراطية واسعة وغير عملية. سيكون من الصعب أيضاً على حكومة الولايات المتحدة ككل التكيف مع صعود الذكاء الاصطناعي، بالنظر إلى المدى الذي وصل إليه الاستقطاب السياسي في واشنطن. وفي مثل واضح الخصوصية، واجهت إصلاحات هجرة أصحاب المهارات العالية، مقاومة متكررة من المحافظين في الكونغرس، بالتالي فإن حقيقة وجود محددات كبيرة في أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية، مما يعني أن التعامل معها يتطلب مقادير كبيرة من الحذر والعناية أثناء التنفيذ، ستزيد من تعقيد العملية. لن يستخدم العسكريون أنظمة لا يثقون بها، ولذلك يجب على المسؤولين العسكريين التأكد من أن انتشار الذكاء الاصطناعي يترافق مع التثبت من عمله على النحو المنشود.
كخلاصة، ثمة أجزاء من الاستراتيجية الأفضل في شأن الذكاء الاصطناعي بدأت في الظهور. ربما لم يتوصل البنتاغون بعد إلى مقايسة قوة الذكاء الاصطناعي بشكل صحيح، لكنه يولي مزيداً من الاهتمام بتلك التكنولوجيا. كذلك زادت الحكومة الفيدرالية الإنفاق [على الذكاء الاصطناعي] وتستكشف موارد البيانات والحوسبة للأكاديميين. ويحاول البيت الأبيض تسهيل وصول العاملين الأجانب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى البلاد. بعبارة أخرى، تعمل الولايات المتحدة على ضمان ألا تمتلك الصين القدرة الكاملة على اللحاق بركب التقدم في الذكاء الاصطناعي. وفي نهاية المطاف، إذا استمرت واشنطن في سيطرتها على سلسلة توريد أشباه الموصلات، وزادت من تدفق المواهب إلى الداخل، ووضعت أنظمة جديرة بالثقة، فإنها ستنجح في البقاء في المقدمة. وبعبارة أخرى، تعمل ثورة الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل منظومة القوى العالمية، وتستطيع الولايات المتحدة أن تأتي في المقدمة.
* بول شار، نائب رئيس "المركز الجديد للأمن الأميركي" ومدير الدراسات فيه. وقد ألّف كتاب "أربع ساحات معارك، القوة في عصر الذكاء الاصطناعي"
فورين أفيرز
مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2023