ملخص
العلاقة بالغة السوء أو الملتبسة بين الإنسان والفأر يكتنفها الغموض لكنها لم تنتج عن سوء تفاهم بل عن معلومات تفيد بأن انتشار الطاعون "الدبلي" الذي ضرب أرجاء أوروبا في منتصف القرن الـ14 يعود إلى الفئران
علاقة البشر بالفئران غريبة وطريفة. في بلجيكا رحل ماغاوا، الجرذ الذي اشتهر بقدرته على شم وكشف الألغام والذي حصل على ميدالية ذهبية تقديراً لأفعاله البطولية في هذا الصدد، عن عمر يناهز الثامنة بعد مسيرة مهنية حافلة.
أمضى ماغاوا سنوات عمره في مرحلتي المراهقة والنضوج في مسيرة مهنية خالصة. قوامها التفاني، وإطارها الإخلاص، وقواعدها ظلت قائمة على الجدية والاستقامة. وعلى رغم أن مجال تخصصه كان بالغ الخطورة، فلم يحدث يوماً أن تقهقر أو تشكك أو تقلقل. سجله الحافل يشير إلى قدرة فائقة مكنته من التوصل إلى مواقع 71 لغماً أرضياً مدفونة، والعشرات من العبوات الناسفة التي كان يمكن أن تنفجر في مئات وربما آلاف الأبرياء.
مسيرة من التفاني
إنجازاته ونجاحاته لم تتوقف عند حدود تقصي الألغام والعبوات القاتلة، بل امتدت - كما يفعل كل متفان مخلص - لتشمل تدريب الأجيال الجديدة الواعدة التي ستتسلم مقاليد الأمور. فحين آن أوان تقاعده استمر في عمله بضعة أسابيع ليدرب القادمين الجدد ويلقنهم أسرار المهنة. إنها سنة الحياة، جيل يسلم جيلاً وخبرات تتناقلها الأجيال.
يوم تقاعده يونيو (حزيران) عام 2021 ظهر بميداليته الذهبية التي حصل عليها في سابقة هي الأولى من نوعها، وذلك تكريماً له وإعزازاً وتقديراً لدوره في إنقاذ حياة الملايين عبر اكتشاف مواقع الألغام والمتفجرات في كمبوديا التي أمضى فيها جل سنوات عمله، وذلك بعيداً من موطنه الأصلي في أفريقيا.
وفي أفريقيا وتحديداً في تنزانيا، تدرب هذا البطل في منظمة خيرية تعنى بالألغام الأرضية منذ أوائل التسعينيات على تقفي أثرها حتى أصبح "أسطى" المهنة. ويوم تقاعده قالت السيدة التي كانت مسؤولة عن تدريبه إنه "بحكم التقدم في السن أصبح بطيئاً بعض الشيء في العمل، وإن كان بطؤه لم ينل من دقته وتفانيه. وعموماً أولويتنا هي احترام حاجاته وأولوياته في هذه المرحلة العمرية".
وقبل أسابيع، توفي البطل عن عمر يناهز ثمانية أعوام.
الجرذ البطل الأفريقي
إنه البطل "ماغاوا" الجرذ الأفريقي العملاق. وعلى رغم أنه عملاق مقارنة بأقرانه من الفئران والجرذان من عائلة القوارض، فإن وزنه كان خفيفاً مما سمح له بالمرور فوق الألغام من دون أن تنفجر.
المنظمة الخيرية "أبوبو" ومقرها تنزانيا متخصصة في بحوث وجهود تقفي أثر الألغام المدفونة تحت الأرض ومرض السل، وذلك من خلال تدريب الفئران، تلك الكائنات بالغة الحساسية والقدرة الفائقة على الشم والتفرقة بين الروائح المختلفة بسرعة رهيبة، على اكتشاف الألغام ومواطن السل.
على صعيد الألغام، يتمكن الفأر المدرب ومسماه الوظيفي يكون "هيرو رات" أو "الفأر البطل" من شم المركبات الكيماوية للمواد المستخدمة في تصنيع الألغام وغيرها من المتفجرات المدفونة بسرعة مهولة. ويتمكن "الفأر البطل" من التفرقة بين المعادن المختلفة واللغم الأرضي مما يجعل حدسه بالغ الدقة وموفراً للكلفة وعنصر أمان لا منافس له.
كذلك الحال بالنسبة إلى السل، إذ يتمكن الفأر المدرب من فحص 100 عينة والكشف عن العينات المصابة بالسل وذلك في 20 دقيقة، وهي المهمة التي ينجزها المعمل وطاقمه الفني في أربعة أيام.
الفأر البطل "ماغاوا" نعاه العاملون في مجال الألغام في عديد من دول العالم. الجمعية التنزانية التي دربته نعته بقولها "نشعر جميعاً في أبوبو بخسارة ماغاوا. ممتنون للعمل الرائع الذي قام به". وكتبت جمعية "مستوصف الناس للحيوانات المريضة" الخيرية البريطانية تغريدة قالت فيها "تلقينا ببالغ الحزن نبأ رحيل ماغاوا عن دنيانا. وندعو الجميع لمشاهدة الفيديو المرفق توثيقاً لمسيرته المهنية وتخليداً لسيرته العطرة".
من الشبشب إلى التاريخ
لكن سيرة "ماغاوا" العطرة لا تلقى القدر نفسه من الإعزاز والتقدير والتبجيل، والرغبة في التخليد والتوثيق والتأريخ لدى الجميع، بل يمكن القول إن النسبة الكبرى من سكان الأرض تنظر إلى هذه "الأبطال" المنقذين المتفانين المتميزين باعتبارها قوارض مقرفة ومصادر إزعاج مقززة، ناهيك بكونها مصدراً للهلع وسبباً للذعر ومدعاة لتتم مطاردتها بالعصا ورشقها بالشبشب.
علاقة البشر بالفئران قديمة قدم التاريخ. المراجع العلمية والتاريخية تشير إلى أن أسلاف الفئران تم تأريخها في حفريات. ويعتقد أنها تعود إلى نحو 54 مليون سنة حين وجدت عائلة صغيرة من الثدييات الشبيهة بالفئران الحالية. ويوجد ما لا يقل عن 60 نوعاً منها تختلف في اللون وأماكن الوجود والسمات والشكل، لكن جميعها بشكل عام يظل آلات لإنجاب الصغار. أنثى الفأر قادرة على التزاوج 500 مرة في ست ساعات، ويمكنها أن تنجب ما لا يقل عن ألفي فأر في العام الواحد. متوسط عمر الفأر نحو ثلاث سنوات، لكن فئران البيوت عادة لا تعيش أكثر من عام واحد، في حين يزيد متوسط أعمار الفئران العملاقة والبرية.
غزو بفعل التجارة
هذه القوارض التي تخصص الجانب الأكبر من حياتها القصيرة للتكاثر لم تترك بلداً في العالم إلا وأصرت على الوجود فيه. والفضل في هذا الانتشار الكبير يعود إلى طرق التجارة القديمة والسفن التجارية، وهي الأماكن الكلاسيكية المفضلة لسكنى الفأر. وتحظى الفئران بعديد من الألقاب بناءً على مسيرتها على مدى التاريخ، وأبرزها لقب "أكثر كائنات الأرض غزواً وانتشاراً". وعلى رغم قدرة الفأر على السباحة بمهارة، فإن ملايين الفئران كانت - وما زالت - تستعين بالمراكب والسفن لسهولة وسرعة التنقل من دولة إلى أخرى ومن قارة إلى غيرها.
فئران المدينة عادة تعيش في قنوات وأنابيب الصرف الصحي، وفي داخل البيوت والأسقف والأسطح والمحلات. وعلى رغم القلق الشديد والكراهية العميقة التي تحملها لها الغالبية، فإنها تمضي قدماً في الانتشار العددي والمقاومة من أجل البقاء في ماسورة صرف صحي أو بالوعة مطبخ أو ثقب في الجدار غير عابئة بمشاعر الآخرين تجاهها.
مشهد السيدة التي تقف أعلى دولاب في مطبخها ملوحة بشبشبها في الهواء وهي تصرخ، أو الرجل الذي يطارد وحشاً غير مرئي في مطعمه مسلحاً بعصا خشبية في يد ومضرب ذباب في اليد الأخرى، والمتخصص في مكافحة الحشرات الذي يمعن في تثبيت المصائد وتزويد كل منها بشريط لاصق عليه قطعة طماطم أو شريحة جبن، والدجال الذي يدعي قدرته على تطهير البيوت منها عبر قراءات يتلوها أو أعمال يجهزها وغيرهم في شتى أرجاء المعمورة يقفون في مواجهة تاريخية كلاسيكية مع تعداد الأرض من الفئران والجرذان.
فأر لكل مواطن
وعلى رغم استحالة التيقن من تعداد فئران الكوكب، فإن التقديرات تشير إلى وجود فأر لكل إنسان على وجه المعمورة، أي نحو ثمانية مليارات فأر وفأرة.
ويمكن القول إن العلاقة بالغة السوء أو الملتبسة بين الإنسان وفأره يكتنفها الغموض، لكنها لم تنتج عن سوء تفاهم، بل عن معلومات - يشكك فيها البعض حالياً - تفيد بأن انتشار الطاعون "الدبلي" الذي ضرب أرجاء أوروبا في منتصف القرن الـ14 يعود إلى الفئران أو الجرابيع التي قدمت من آسيا. الفكرة المهيمنة على الجميع طوال مئات السنين أن هذه الفئران السوداء هي من سمح للطاعون بالتوطن في أوروبا، وذلك بعد تفشي سلسلة من الأوبئة بسبب العدوى التي ظلت تنتقل من البراغيث إلى الإنسان من القوارض المصابة.
لكن بحوثاً عديدة أجريت في العقود القليلة الماضية تشير إلى احتمالات أخرى ربما تبرئ ساحة الفئران، أو في الأقل تخفف من حدة تحميلها مسؤولية مقتل نحو نصف سكان أوروبا في ذلك الوقت. وضمن النظريات البحثية المتداولة هو أن ظروفاً مناخية استثنائية ربما أسهمت في تغيير سمات القوارض فصارت عملاقة وأكثر قوة على التنقل والحركة وسرعة الانتشار، ومعهم البراغيث التي تنتقل من أجسادها إلى البشر، أو عبر عضة من فأر مصاب لإنسان.
متلازمة المرض والفأر
متلازمة المرض والإصابة والإنسان والفأر عمرها مئات السنين. وهي لا تتوقف على الطاعون الأسود أو الدبلي الذي ضرب أوروبا في القرن الـ14 فقط، بل يمكن القول إنه في داخل كل بيت شبشب ينتظر الانقضاض على فأر هائم على وجهه، أو عصا قابعة وراء الباب لملاحقة الفأر حال قرر الظهور العلني على رغم أنف الجميع، لكنها تمتد إلى موروث قوائم الأمراض الخطرة والأوبئة المريعة والأعراض المميتة التي يمكن أن تصيب الإنسان الطويل العريض جراء التعرض لهذا الكائن الصغير الضئيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمنذ فيروسات "هنتا" القاتلة التي كانت تصيب الرئتين وتنتقل عن طريق الفئران المصابة إلى الإنسان، إلى التهاب السحايا والمشيمات الليمفاوي التي تنقل العدوى عبر ملامسة لعاب أو بول أو الأسطح التي تحتوي على لعاب الفأر المصاب، إلى الطاعون الشهير، ذلك المرض البكتيري الذي ينتقل من الفئران المصابة إلى الإنسان فتصاب الرئتان بالتهاب رئوي وقد ينتقل من شخص إلى آخر عبر السعال أو العطس. وهناك بكتيريا السالمونيلا في الجهاز الهضمي للفأر وتنتقل للإنسان حال ملامسة المكان الذي يحتوي على فضلات الفأر، وقائمة المخاوف الصحية من الفئران طويلة تشرح جزءاً من الهلع الإنساني الذي يلازم ظهورها.
ظهور مفاجئ للفأر
ظهور الفأر المفاجئ أسفل أريكة غرفة الجلوس أو مروره بهدوء من الحمام إلى المطبخ أو حتى إطلالته السريعة في محطات مترو الأنفاق عادة ينجم عنها صياح بشري يتراوح بين ذكورية "إمسك الفأر" أو نسائية "يا ماما فأر". وبعيداً من درجات الهلع التي يعبر عنها البشر لدى رؤية القارض الصغير، فإن أغلبها منطقي ومتوقع حتى وإن عمد البعض إلى المبالغة في الصراخ أو الإفراط في طلب العون.
وإلى أن يصل العون متمثلاً في شبشب أو عصا في الدول منخفضة الدخل أو مجسداً في وصول قوة من الشرطة أو كتيبة من شركات مكافحة الجرذان، فإن الخوف من الفأر علمياً هو شعور غير مريح ينشأ بسبب اكتشاف وجود هذا الكائن، لكنه يظل خوفاً لا يعوق صاحبه عن العمل أو التفكير أو التصرف. هو شعور طبيعي ويجمع مليارات البشر، وقد يكون خوفاً بسيطاً مصحوباً بالقرف أو شديداً مقروناً بصراخ وآهات.
خوف أم رهاب؟
وقبل وصف الخوف من الفئران بأنه "فوبيا" أو رهاب، وتحديداً "موسوفوبيا"، ينبغي التفرقة بين المبالغة في الخوف والإصابة بالرهاب فعلياً. "الموسوفوبيا" - وهي كلمة مشتقة من "موس" أي فأر باليونانية القديمة و"فوبيا" أو رهاب - هو خوف غير عقلاني وطائح من الفئران. وله أعراض محددة حيث الشعور بالخوف الشديد والهلع والقلق بدرجة يصعب تعامل الشخص معها، وتبدو فيها المشاعر أكبر بكثير من حجم الخطر الفعلي. وقد يستمر هذا الشعور لستة أشهر أو أكثر، كما تتداخل مع تفاصيل الحياة اليومية فتعطلها وتعكرها ويفقد الشخص شعوره بالأمان، وهو ما قد يفسد حياته بالكامل.
لكن، لأن الإنسان منشغل بنفسه طيلة الوقت، فإن حياة الفأر لا تعني له الكثير. ويندر أولئك البشر الذين يفكرون في حياة الفئران التي تتحول إلى جحيم بسبب البشر وأفعالهم وجهودهم المقصودة لإلحاق الضرر بهذه القوارض. المؤكد أن الفئران تخاف من البشر لأسباب كثيرة، أولها وأكثرها منطقية يكمن في حجم الإنسان - حتى لو كان طفلاً - مقارنة بحجم الفأر. وهي تشعر بالتهديد الشديد والغضب العميق لدى تعرض بيوتها وعششها حيث تترك صغارها لخطر الهدم والإبادة من قبل البشر، لكن قائمة مخاوف الفأر أطول من قائمة الإنسان بكثير. فهو يخشى أن يتحول إلى وجبة لثعبان أو مقبلات للصقور والنسور أو محفزات للكلاب والقطط التي تطاردها وتهديها بكل حب وود لصاحبها الإنسان.
الفئران أيضاً تخاف
وفئران البيوت والمحال أيضاً تعاني الرهاب أو الفوبيا، لكن ليس من الإنسان، بل من الاضطرار إلى العيش في العراء. فالفأر القذر المقزز الصغير الذي اعتاد العيش في ماسورة صرف صحي أو بالوعة حمام أو تجويف مطبخ سيبذل كل ما أوتي من ذكاء - وهو وفير لدى الفئران - ومقاومة وعناد لعدم ترك بيته الذي اعتاد. وربما هذا ما يفسر سر تواتر الأسئلة من قبل البشر الذين يحاولون مطاردة الفئران في بيوتهم من دون جدوى. ويظهر السؤال الكوميدي في ظاهره بالغ الواقعية في حقيقته: ماذا أفعل مع فأر لا يخشى شيئاً؟ أو كيف أتصرف مع الفأر الذي استوطن أسفل أريكتي ولا يتوانى عن الخروج للتمشية أمام عيني؟
عموماً تبقى الأسلحة الأكثر فاعلية في مطاردة الفئران في البيوت هي الصوت العالي، حيث تكره الضجيج والروائح النفاذة مثل الفلفل الحار وزيت النعناع والنفثالين والأمونيا، وإن كان قد لوحظ في العقود الأخيرة اعتياد عديد من الفئران هذه الروائح لدرجة التعايش، كما لا تتواءم الفئران كثيراً مع البيوت والمحال والمكاتب التي يتم تنظيفها جيداً دورياً، حيث حركة رفع الأشياء وإعادتها والتخلص من بواقي الطعام ورائحة المنظفات والنظافة تبقيها بعيدة.
عجيب أمر الإنسان
لكن عجيب أمر هذا الإنسان، يريد أن يبقي الفئران بعيدة عن بيته ومطعمه ومكتبه، لكن يعمل على إبقائها قريبة في معمله من أجل مصلحته الشخصية. آلاف الفئران ضحت بحياتها - أو على وجه الدقة تم إجبارها على التضحية بحياتها - من أجل مصلحة الإنسان، حيث تتم تجربة الأدوية واللقاحات وغيرها عليها قبل البشر لقياس فعاليتها وخطورتها وفوائدها. لماذا؟ لأن البشر والفئران بينهما كثير من الصفات التشريحية ووظائف الأعضاء والصفات الوراثية والسلوكية الشبيهة. ولأن الفئران تتكاثر بسرعة وغير مكلفة، كما أن متوسط الأعمار القصيرة للفئران تتيح للعلماء قياس آثار الشيخوخة وآثار أدوية معينة على الشيخوخة في وقت قصير، فهي تضحي إذاً، ولو غصباً وقهراً، من أجل الإنسان.
الـ"آفة" المحببة للصغار والكبار
غريب أمر الإنسان الذي يصرخ لدى رؤية فأر، وقد يرشقه بشبشب أو يرتضي تناوله السم في قطعة جبن ويضعه جنباً إلى جنب مع الحشرات المراد القضاء عليها، ويصمه بـ"الآفة"، وعلى رغم ذلك يصنع منه صوراً درامية وفنية تجعل منه الشخصيات المحبوبة الأكثر شهرة وانتشاراً بين الكبار والصغار. من الفأر "جيري" الشقي المحبب إلى الجميع غريم القط "توم"، إلى "ميكي ماوس" ذائع الصيت حبيب الملايين وصديقته "ميني" أو "ميمي" صاحبة الأنوثة الطاغية وأشهر فستان وردي منقط بالأبيض، إلى "سبيدي غزنزاليس" أو غونزاليس السريع، هذا الفأر المكسيكي الذي يكتسب اسمه كل عداء سريع أو لاعب كرة ماهر، وغيرها من الشخصيات الكرتونية، وغالبيتها المطلقة تمثل الفأر باعتباره كائناً لطيفاً ظريفاً ذكياً خفيف الظل غير مؤذ ويشع بهجة في المكان.
مكان آخر يحتل - أو كان يحتل - فيه الفأر مكانة تختلف تماماً عن جهود الشيطنة ومحاولة تشويه السمعة هو سطح المكتب. الفأرة – هذه الأداة الصغيرة التي كانت تتصل بجهاز الكمبيوتر المكتبي بسلك، ثم استقلت في عصر الـ"بلوتوث"، وحالياً توشك على الانقراض كانت تستعمل يدوياً للتأشير والنقر على الشاشة وذلك عبر تحريكها على سطح المكتب.
أما سبب تسميتها بهذا الاسم، وبعيداً من تكهنات العلماء وتنظيرات المؤرخين، فيشرحه المهندس والمبتكر الأميركي الراحل دوغ أو دوغلاس إنغلبرت، بقوله "لا يستطيع أحد أن يتذكر كيف انطلقت التسمية، لكن بدا الأمر وكأن الجهاز فأر بذيل، فأطلق عليه الجميع هذا الاسم من دون سابق اتفاق أو نقاش".
الرياضة مهمة للفئران
ولا يخلو نقاش حالياً حول تغير المناخ من الإشارة إلى أثره في تغيير شكل الفئران لا سيما الجمجمة وتكوين الفك، ودفع أنواع منها إلى الهجرة شمالاً حيث الشتاء أكثر اعتدالاً. وأصبحت الفئران موضوع بحث مهماً في ملف التغير المناخي.
نقاش آخر يدور في بعض الأروقة بين فريقين أحدهما كبير يشكل الغالبية، والآخر صغير يشكل أقلية. الأخير يتزعم حركة "تبنوا فأراً" محاولاً الترويج لفكرة قوامها أن الفأر حيوان لطيف وذكي للغاية ويسهل العناية به، والأهم أنه يستحقها. هذه المجموعات المحبة للفئران تراها كائنات فضولية واجتماعية وتشع بهجة وظرفاً مما يؤهلها أن تكون حيوانات بيت أليفة من الطراز الرفيع.
وعلى رغم اعتراض الفريق الأول لأسباب تتعلق بين الشعور بالقرف والاشمئزاز أو التمسك بكلاسيكية أن الفأر آفة يجب التخلص منها، فإن الفريق الداعم لهذه القوارض ينصح بتبني فأر أو اثنين، وتدريبه على الحياة المنزلية في العلن وليس في البالوعة، واصطحابه في رحلة تمشية يومية لممارسة الرياضة لمدة ساعة يومياً.
كائنات انتهازية متطفلة
الفئران سواء كانت تمارس الرياضة مع مالكها أو تعيش في بالوعة على رغم أنف صاحبها تظل طرفاً فاعلاً ومهماً في النظام البيئي. يسمونها "الآكلون الانتهازيون" وأحياناً "الكائنات المتطفلة". تأكل القمامة التي يتخلص منها البشر، ويتغذى عليها آخرون مثل السحالي والزواحف والثعابين وكذلك الطيور الجارحة. والتدخل في هذا التوازن حيث القضاء على مكون فيه من شأنه أن يلحق الضرر والخلل بالمعادلة كلها.
ويبقى "فأر السبتية" أشهر الفئران عربياً وأطرفها على الإطلاق، هذا الفأر السياسي الشهير ذاع صيته في منتصف القرن الماضي ليصبح أشهر فئران مصر والمنطقة العربية، وأبرز الشماعات الحكومية لتعليق الفشل وتبرير الإخفاق، فقد تحول انقطاع التيار الكهربائي إلى سمة وليس حادثاً عرضياً، مما أثار غضب المواطنين. ويقال إن الحكومة برأت نفسها وقتها بسرد قصة مفادها أن مهندسين توجهوا إلى المحطة الرئيسة للكهرباء التي تقع في حي السبتية الشهير في وسط القاهرة، وهناك فوجئوا بجثة فأر قالوا إن الجوع دفعه إلى التهام أسلاك الكهرباء وهو ما نجم عنه انقطاعات متكررة في التيار.
ومن يومها تحول "فأر السبتية" إلى وسيلة للتقريع السياسي وأداة للمعارضة الساخرة وإضافة إلى ملف العلاقة الملتبسة بين الإنسان والفأر.
ولا يقف "فأر السبتية" وحيداً في عالم التقريع، ففي نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، ألقت الشرطة الهندية باللوم على الفئران "التي أكلت أحراز القضية" المتمثلة في 200 كيلوغرام من الحشيش المخدر (القنب الهندي)، وذلك بعد أن اختفت الأحراز المصادرة من تاجر مخدرات إلى مراكز الشرطة حيث "أكلتها الفئران". وقد فتح ذلك أبواب السخرية من قبل غير المصدقين للرواية على مصاريعها.
مصاريع شبيهة انفتحت في عام 2018 في الأرجنتين في موقف مشابه حين تم فصل ثمانية ضباط شرطة قالوا إن الفئران تعاطت نصف طن من الحشيش اختفت من مراكز الشرطة. واجتمع الخبراء وقتها على أن هذا الأمر غير مرجح حيث غالباً لا تختلط الأمور على الفئران فتتعاطى الحشيش بدلاً من الأكل. وزاد من حكم السخرية أنه لم يعثر على جثث للفئران في المستودعات أو على مقربة منها.