Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طلعت شاهين يسترجع حكايات الصعيد المصري في مغتربه الإسباني

عوالم المهمشين والفقراء والأماكن القصية المهملة في رواية "مقام الفيضان"

لوحة للرسام المصري محمد يوسف (صفحة الفنان - فيسبوك)

ملخص

عوالم المهمشين والفقراء والأماكن القصية المهملة تعكسها رواية "مقام الفيضان"

على رغم إقامة طلعت شاهين شبه الدائمة في إسبانيا فإنه لم ينس يوماً انتماءه إلى صعيد مصر بأساطيره وعاداته وتقاليده. وتظل إسهاماته الكبيرة فى مجال الترجمة من اللغة الإسبانية من أهم ما قدمه، إذ يعد من أوائل من ترجموا لماركيز وبورخيس وداريو وغيرهم من كتاب إسبانيا وأميركا اللاتينية. وعلى رغم شهرته مترجماً، فإن مجال إبداعه هو الشعر (أربع مجموعات شعرية) ثم الرواية التي قدم فيها عملين، الأول "البرتقالة والعقارب" ويسجل تجربته في التغلب على مرض السرطان، والثاني "مقام الفيضان" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وفيه يعود لجذوره متناولاً أجواء صعيد مصر التي سبق أن عالجها في أطروحته للدكتوراه التي دارت حول المشترك في الاحتفالات الشعبية بين مصر وإسبانيا. وعموماً فإن الاهتمام بعوالم المهمشين والفقراء والأماكن القاصية المهملة يعد سمة مشتركة في إبداعات طلعت شاهين.

وهذا ما يظهر  جلياً فى روايته الثانية بعنوانها اللافت الذي يدفعنا إلى التساؤل حول علة إضافة "المقام"، ببعده الروحي الواضح، إلى الفيضان بقوته المدمرة للبشر والحجر. ولا تتضح هذه العلة إلا في الفصل الأخير من الرواية الذي يحمل عنوان "المقام" حين نعلم أن "البسّة"، بطلة الرواية، قررت تشييد ضريح لأخيها "حمادة" الذي أغرقه فيضان النيل وهو طفل ولم تتمكن أسرته من العثور على جثمانه. وسرعان ما يقام حول هذا "المقام" احتفال سنوي لا يرتبط بالأشهر القمرية كما ارتبطت احتفالات العامة بذكرى الأولياء الصالحين، بل يرتبط بالأشهر الشمسية وموعد فيضان النيل.

وضرباً للإيهام بالواقع فإن الكاتب يحذر منذ البداية من ادعاء المتلقي معرفة هذه القرية التي تدور فيها أحداث الرواية، وذلك لأن "القرية وشخصياتها لا يعرفهما غير المؤلف وحده ويحتفظ بسرهما لأسباب عاطفية"! نحن إذاً أمام مستوى واقعي يحاول الكاتب تقديم تفاصيله الدالة ومستوى فني مستمد من المخيلة السردية، وهو ما يجعلنا نتقبل كثيراً من الشخصيات غير المألوفة التي تخرج عن الطبائع الآدمية السوية، ومن ذلك حكاية الشقيقين "حسن وحسونة" اللذين عشقا غولتين على نحو يذكر بحكايات "ألف ليلة وليلة" وسرديات شعبية كثيرة في ثقافات محتلفة. وتغلب على هذه الرواية بنية القصة القصيرة، علماً أنها مقسمة إلى فصول يحمل كل فصل عنواناً، مما يعني أن الرواية تقوم على آليتي الانفصال بحيث يمكن قراءة الفصل بوصفه بنية مغلقة والاتصال. وذلك من خلال قراءته في ضوء غيره من الفصول المروية من خلال السارد الخارجي العليم الذي يتتبع حركة اللاوعي المهيمنة على "البسّة" التي يحيل اسمها إلى الاسم الذي كان يطلقه قدماء المصريين على القطة، ولا يزال مستخدماً حتى الآن، خصوصاً في جنوب مصر. وهي حركة محكومة برؤية الأشياء الخارجية، إذ "لا يزال يحتفظ عقلها ببعض ما تبقى منها، يقصد الروايات المتداولة حول زوجتي حسن وحسونة، ساكناً في اللاوعي توقظه أشياء مثل رؤيتها للحفيدة ذات الصدر الضخم".

تداعيات مترابطة

التداعيات إذاً ليست "حرة"، بل مترابطة ترابطاً شرطياً أو عضوياً. كما يعتمد الكاتب على ما يمكن أن نسميه "تجهيل المكان" في محاولة لتعميمه بحيث يصدق على قرى أخرى كثيرة. فهو يبدأ الرواية كما لو كان راوياً شعبياً بقوله "في مكان ما، من قرية ما، في صعيد مصر الذي يمتد بطول نهر النيل، تحديداً على ضفافه المقدسة، كانت هناك قرية تنام هادئة في أحضان الجبل الشرقي". هناك تحديد لموقع المكان الذي نجهل اسمه، الأمر الذي يمكننا من وصف الرواية بأنها رواية "شخصية"، فحياة شخوصها الغريبة هي البطل الحقيقي أو العنصر المهيمن عليها. وليس أدل على ذلك من عنونة 11 فصلاً بأسماء شخصيات من مجموع 17 فصلاً. وعلى رغم آلية الاتصال التي تجمع هذه الفصول كلها، فإن بعض الفصول يبدو كما لو كان قصة قصيرة مكتملة.

ومن ذلك فصل "مصرع المنسي" حين يكتشف "سعيد العبد" وهو في أعلى النخلة، هروب ثلاثة رجال بهراواتهم بعد قتل "المنسي". ففي "أعلى النورج، كما رأى سعيد، كان هناك جسد يتدلى من أعلاه بشكل جانبي والبقرتان يسيطر عليهما الفزع". هكذا من دون أن نعرف من هم هؤلاء القتلة، ولماذا كان "المنسي" تحديداً هو المقصود بهذا القتل. لكن ما نعرفه من خلال الفصل التالي "خيط الدم" أن "أي دم يراق في الصعيد الجواني يصبح مثل زلزال لا تنتهي نتائجه بانتهاء ضربته القاتلة الأولى، بل تكون له توابع نتائجها أخطر من الزلزال نفسه".

ثقافة المكان

وطبقاً لثقافة المكان لا بد من أن يظهر "عفريت المنسي" في اليوم الثامن من قتله، واللافت بقوة أن يستعين المسلمون بأحد القساوسة بملابسه السوداء الفضفاضة والقلنسوة السوداء اللامعة والسلسلة الفضية التي تحمل صليباً كبيراً والمعلّقة على صدره، ويستمر بهذه الهيئة "في الترتيل على وتيرة حركة يده التي تحمل عصاة أبنوسية تنتهي في طرفها الأعلى بصليب فضي لامع". هذا المشهد يسوقه الكاتب للتدليل على التآلف بين المسلمين والمسيحيين في هذا الصعيد الجواني، خصوصاً في أوقات الخطر التي يتوحد فيها الجميع. لا شك في أن ذلك يرجع إلى توحدهم منذ الحضارة المصرية القديمة. فضفاف نهر النيل المقدسة، كما يقول السارد، تزخر ببيوت "عبادة الشمس" الأولى، وهي معابد كانت تربطهم بالإله الشمس ثم حلت مكانها عبادة الله الواحد الأحد. كما نجد هذا التداخل بين الماضي والحاضر في قصة "سعيد العبد" الذي تعرض للخطف من مكانه الأول في بلاد الزنج، فظلت ذكرى تلك الضربة القاسية على رأسه باقية في لا وعيه. هذه الضربة التي أفاق بعدها ليجد نفسه في بلاد غير بلاده حيث تحوطه الصحراء من كل جانب، "ولا أثر لشجرة واحدة من تلك التي كان يستظل تحتها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحاضر إذاً مبني على الماضي سواء بالتماثل أو بالتناقض كما في حال البوابة الغربية التي كانت تدل على مجد آل الكاشف والتي أصبحت الآن خالية من ساكنيها ولم يتبق فيها إلا "البسّة" التي تجتر ذكرياتها حول ما كان.

من هو الكاشف؟

الكاشف أو المحتسب هو الاسم الذي كان الناس يطلقونه على الشخص الذي يقوم بتحصيل ما دفعه للباشا الكبير، مضاعفاً من الفلاحين، مستغلاً أدوات السلطة التي تضعها الحكومة بين يديه. والكاشف الخاص بهذه القرية لا يعرف أحد له أصلاً ولا فصلاً، فقد خمّن بعضهم، بسبب بشرته البيضاء، أنه تركي، وقال آخرون إنه غزي أي من منطقة غزة التي كانت في ذلك الوقت جزءاً من بلاد الشام، "إلا أنهم اتفقوا على شيء واحد وهو أن هذا الكاشف الأبيض اللون مثل معظم الخواجات، مؤكد أنه من أصول مسيحية من أوروبا". وهذا السبب هو الذي سيقف عائقاً أمام زواجه من إحدى فتيات القرية ولم يتم له هذا إلا بالتهديد والغصب. وعلى رغم الشكوك بمسيحيته فإن بعضهم يؤكد أنه رآه يصلي في المندرة وحيداً" ويكثر من استخدام الأحاديث النبوية، بل آيات قرآنية تحض على طاعة أولي الأمر لتبرير أفعاله الفاسدة وإيمانه بالمثل القائل "جوّع كلبك يتبعك". وهذا وحده كاف للتدليل على أنه لا يدين بدين الإسلام حتى إن أقام شعائره رياء وذلك لأن الإسلام مثل غيره من الأديان يحض على الرحمة والحرص على حقوق جميع الناس. هذه الازدواجية نجدها طبعاً عاماً في رجال البلدة الذين يظهرون في العلن الوجه القاسي إثباتاً لرجولتهم ولا يظهرون الجانب الرقيق سوى في الخفاء عندما يغلق الباب عليهم وعلى أسرهم. فالحب في هذه المجتمعات الصارمة مستتر والكراهية علنية. وهذه الصرامة تتمثل أيضاً في التراتبية التي لا يستطيع أحد تجاوزها، فعندما يتقدم أحد للزواج من فتاة فإن سلطة الأب تظل "محدودة ومقيدة بقبول أو رفض كبار العائلة"، إذ "لا بد من الحفاظ على نقاء العرق".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة