ملخص
سيرة مثيرة للفيلسوف الروسي الأوكراني نيقولاي برديائيف الذي بدأ حياته ثوريا ماركسيا وأنهاها يمينيا متشددا
في هذه الأيام من المفروض أن تكون ثمة استعادة لذكرى الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف، المولود قبل قرن ونصف القرن في كييف الأوكرانية ليموت بعد ذلك في عام 1948 في كلامار الفرنسية، وذلك لمناسبة مرور ثلاثة أرباع القرن تماماً هذا الربيع على رحيله. ولكن يبدو أن ما من أحد اهتم حقاً بتلك الذكرى ولا حتى في مدينة كييف التي من عادتها أن تحتفل بذكرى الكبار من مواليدها سواء كانوا من أصول روسية أو أوكرانية علماً بأن كثراً من كبار الأدباء والفنانين والمفكرين وحتى من رجال السياسة الروس ولدوا وترعرعوا في كييف التي اختلط فيها الروس بالأوكرانيين طوال تاريخها بشكل مدهش وعلى الأقل حتى انفراط الزمن السوفياتي. لكن برديائيف كان يعتبر نفسه روسياً منذ طفولته ولم يكن ليرضى عن ذلك الانتماء بديلاً. ومع ذلك ها هو منسي من الروس الآن على رغم أنه خاض معركة هويتهم منذ كان ماركسياً روسياً ليصبح لاحقاً أرثوذكسياً ماركسياً فروسياً سلافياً ويستقر اليوم أخيراً في الدراسات التاريخية بوصفه واحداً من كبار أساطين النزعة الروحية العالمية، إلى جانب معلمي الهند الكبار وجلال الدين الرومي وابن عربي والبوذيين هو الذي بدأ حياته مفتوناً بالماركسية قبل أن ينفره الماركسيون الروس منها دافعينه ومنذ عام 1922 إلى مبارحة روسيا وقد تحولت إلى اتحاد سوفياتي ليمضي نصف القرن التالي من حياته يكاد لا يستقر على فكر معين.
اختيار من خارجه
ففي نهاية الأمر لم يكن برديائيف من اختار لنفسه أن يحتسب، كما حاله اليوم، في خانة أساطين الفكر الروحي. بل كان يعتبر نفسه ثورياً وعلى الأقل خلال العقود الأولى من حياته، ومن منطلق تعمقه البدئي في الفكر الماركسي حتى قبل أن يغزو هذا الفكر أذهان المفكرين الروس. وهو كان ثورياً في شبابه المبكر إلى درجة أن السلطات في كييف اعتقلته خلال اضطرابات جامعية فيها ونفته إلى شمال روسيا غير آبهة بكونه ابن عائلة من كبار النبلاء الروس. وتقول سيرة برديائيف أنه أمضى أعوام ما بعد المنفى، بين 1901 و1909 في سانت بطرسبرغ لينتقل منها إلى موسكو حيث عاش بقية سنواته الروسية من 1909 حتى 1922 منتقلاً منها إلى الخارج كما سنرى بعد سطور. ولقد كانت تلك الفترة الحاسمة من حياته والتي أمضاها بين العاصمة القديمة والعاصمة الجديدة لبلاده وقد أضحت إمبراطورية شاسعة، سنوات غريبة في حياته تنقل فيها فكره بين شتى التيارات والمذاهب، لكن فكرة ثابتة واحدة ظلت تعبر توجهاته لا يحيد عنها وهي التي انتهى بها الأمر إلى إبعاده عن الماركسية وماديتها وهي فكرة أولوية الروح وكل ما يتعلق بها على أي اعتبار آخر.
من حواريي دوستويفسكي
والغريب في الأمر أن تلك الفكرة بالتحديد والتي سيعثر عليها برديائيف في أفضل تجلياتها لدى كاتبه المفضل دوستويفسكي بدت لديه من الخصوصية ما فصل بينه وبين شتى المذاهب الأخرى التي دنا منها في وقت أو في آخر بما فيها النزعة الدينية الأرثوذكسية. وهذا من دون أن ننسى ما يلوح دائماً في كتاباته من رعب إزاء الجموع وخوف على الثقافة والفكر منها. والحقيقة أنه إذا كان برديائيف قد قال، في تلك السنوات المبكرة من تعاطيه مع الشؤون الفكرية، حين كانت الثقافة بالكاد تصل إلى قطاعات عريضة من الناس، إن "اقتحام الجماهير للميدان الثقافي قلب الثقافة رأساً على عقب، وخفض نوعيتها بتخصص مسرف، وقوض تمامية الوجود الإنساني، إذ نزل به إلى مستوى وظيفي محض"، فما الذي كان من شأنه أن يقوله اليوم أمام هجمة التلفزة وإخوتها مما يسمى وسائل التواصل الجماهيري وانتشار الثقافات الجماهيرية وانعدام الخلق الإبداعي الحقيقي؟ ثم ما الذي كان بإمكانه أن يقوله لو أنه ظل حياً حتى أيامنا هذه ليرى بأم عينيه سقوط الشيوعية الروسية التي حاربها طويلاً، ولكن حتى يرى - خصوصاً – ورثة النزعة السلافية وقد تحول العديد منهم، في روسيا أو في صربيا، إلى فاشيين وجلادين؟
نظرة واعية إلى الكوارث المقبلة
ليس بإمكاننا أن نجيب بالطبع على أي من هذين السؤالين. ولكن لئن كان في مقدورنا أن نجد إن برديائيف كان محقاً كل الحق ومتبصراً كل التبصر في نظرته إلى الكوارث التي ستترتب على انتشار أنماط هجينة من ثقافة الجموع، ولئن كان في وسعنا أن نقرر أنه هو الذي انتصر في المعركة الفكرية التي قامت بينه وبين الماركسية الروسية، فإن ما لا يمكننا أن نحسم فيه، عن حق، هو ذلك الإرث الذي خلفه في مجال النزعة السلافية الأرثوذكسية التي نافح عنها طويلاً وأورث في ذلك الكثير من أفكاره للكاتب ألكسندر سولجنتسين، ولكن أيضاً لرهط من الكتاب الذين يتزعم بعضهم اليوم أكثر الحركات الفاشية في روسيا تعصباً.
مهما يكن، من العسير بالطبع اليوم الافتراض أن برديائيف يمكن أن يكون، هو، مسؤولاً عن ذلك الانحراف الذي وصلته النزعة السلافية. فهو مات في بدايات ربيع العام 1948 يوم كان كل شيء يشير إلى أن تلك النزعة قد اندثرت إلى الأبد وأنها – في أحسن أحوالها – تمثل نفحة ماض قد يثير خيال قصاص أو أديب يحن إلى نزعة روحية ما، لكنها "من المستحيل" أن تعود ذات يوم لتصبح برنامج عمل سياسي يغطي بعض أكثر الأيديولوجيات المعاصرة تطرفاً وتعصباً.
عزلة في الضاحية الباريسية
يوم مات نيقولاي برديائيف كان خصومه الماركسيون الروس يعيشون أوج انتصاراتهم، وكان ستالين في ذروة مجده، وكانت الفلسفة الروسية كلها قد أضحت في مهب العدم. أما برديائيف نفسه فكان يعيش في الضاحية الباريسية منذ ما يقرب من ربع قرن، كاتباً يحترمه الكثيرون، ويؤثر هو في شخصانية إيمانويل مونييه ويبجله كبار المفكرين، من جاك ماريتان إلى إيتيان غيلسون باعتباره حامل الصيحة المدوية الداعية لولادة "عصر وسيط جديد". لكنه كان في الوقت نفسه منفياً كف منذ زمن عن خوض أية معركة سياسية. ومع هذا حين كان برديائيف لا يزال شاباً في روسيا، كان ثورياً في الفكر وفي العمل السياسي كما أشرنا. فهو المولود في كييف في 1874 من أسرة روسية نبيلة، كان في بداية عمله الفكري قد حاول المزاوجة بين الماركسية والمسيحية ضمن إطار مثالية فلسفية تنتمي إلى هيغل بعض الانتماء، وكان يبدو عليه واضحاً تأثير جيرانه، في قرية نفي إليها بسبب نشاطاته الثورية، وكانوا من الماركسيين الثوريين. بيد أن عودته إلى موسكو من منفاه الأول جعلته ينجذب نحو التفكير الديني أكثر وأكثر ويخضع لتأثير الأرثوذكسية الروسية ويهتم خاصة بقراءة دوستويفسكي وتحليل نزعته الروحية. ولقد قاده هذا كله إلى نوع من النزوع نحو فكر أرثوذكسي ثوري جعله في وقت واحد معادياً للكنيسة (التي لم تحب ثوريته) وللماركسيين (الذين لم تعجبهم أرثوذكسيته)، خصوصاً أنه – في مواجهة الماركسية كان يرى، كما يفيدنا كتابه "مغزى الفعل الخلاق، محاولة في تبرير الإنسان"، أن معنى الحياة ومغزاها لا يمكن أن يكمنا في طلب الخلاص الشخصي، بل كذلك في مواصلة الفعل الإلهي الخلاق. فالعالم بالنسبة إليه لا يزال قيد الصنع ولم يكتمل، بمعنى إن خلقه عملية متواصلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتبه الأفضل في المنفى
في تلك السنوات الناضجة من حياته وضع برديائيف أفضل كتبه من "فلسفة الحرية" (1911) إلى "فلسفة دوستويفسكي" (1922). ثم "معنى التاريخ" و"فلسفة اللامساواة" و"روح دوستويفسكي" وهي ثلاثة كتب نشرها في المنفى بعد أن غادر الاتحاد السوفياتي نهائياً في عام 1922 هو الذي كان قد تمكن من أن يتعايش مع البلاشفة أربعة أعوام فقط انتهت به إلى الهجرة.
سافر برديائيف أولاً إلى برلين ثم توجه إلى فرنسا حيث عاش اعتباراً من عام 1924، وأصدر العديد من كتبه وكذلك مجلة أسماها "الطريق" تهتم بفلسفة الدين. ومن أبرز الكتب التي وضعها برديائيف في فرنسا "مصادر الشيوعية الروسية ومعناها" و"الروح والواقع". ونذكر هنا أن السلطات السوفياتية لم تكف عن دعوته للعودة إلى روسيا على رغم معاداته لها، ولم يكف هو عن رفض تلك الدعوة.