ملخص
النظام الدولي يرغب بالتجارة والاستثمار في إيران مستقرة خلافاً لما يروجه النظام، ولا شك في أن العقوبات تزيد الصعوبات الاقتصادية بطريقة لا يمكن إنكارها، لكن كيف لإيران والإيرانيين التخلص منها؟
في مقالتي المعنونة بـ "الفقر، الفساد، والغلاء.. ذاهبون حتى إسقاط النظام"، تحدثت عن اقتصاد الولي الفقيه وأنه سيجعل إيران أكثر فقراً، لأن البحث عن الريع داخل حدود البلاد وزيادة التوتر خارج حدودها قد يكون سبباً لتراجع فرص النمو الاقتصادي، ويقلل من دخل الشعب والحكومة في آن واحد.
وللتعويض عن الإفلاس فإن جميع حكومات الجمهورية الإسلامية التي تعاقبت على سدة الحكم طبعت نقوداً غير مدعومة، وتسببت بارتفاع التضخم وزيادة الأسعار في البلاد، وبالتالي فالمواطنون الذين ينخفض دخلهم وتزداد نفقاتهم يصبحون أكثر فقراً باستمرار، حتى إن كثيراً من الإيرانيين ممن لديهم وظائف فإن دخلهم لا يساوي نفقاتهم، ويعيش كثير منهم في حال من الفقر.
لذلك فإن أساس الفقر في بنية الاقتصاد، وليس في النظام الدولي الذي يسميه نظام الجمهورية الإسلامية بـ "الاستكبار العالمي"، فالنظام الدولي يرغب في التجارة والاستثمار في إيران مستقرة خلافاً لما يروجه النظام، ولا شك في أن العقوبات تزيد الصعوبات الاقتصادية بطريقة لا يمكن إنكارها، لكن كيف لإيران والإيرانيين التخلص منها؟
في واقع الأمر أن الغاية من هذه المقالة أن نبحث عن إجابة للسؤال المذكور أعلاه، إذ تتمثل مهمة الاقتصاد في استخدام الموارد المحدودة لتلبية الحاجات غير المحدودة، ونظرياً هناك طريقتان أساسيتان للعمل الاقتصادي، بينما عملياً كل حراك اقتصادي قريب نسبياً من إحدى هاتين الطريقتين، أحدهما يقوم على اقتصاد السوق والملكية الخاصة، والآخر يقوم على التدخل الحكومي والسوق الاشتراكية، وعليه فلا يمكن الهرب من الفقر إلا من خلال مأسسة اقتصاد السوق، وهو ما يتعارض مع فكرة اقتصاد الولي الفقيه، وللخروج من حال الفقر هذه فلا بد من التخلص أولاً من نظام الجمهورية الإسلامية.
الطريقة الاقتصادية للسوق المؤسسية
يعتمد اقتصاد السوق المؤسسي على الملكية الخاصة وحرية تنظيم المشاريع، وفي هذه الطريقة فإن الحكومة لا تحتكر الإنتاج بل إنها تدعم ممتلكات المواطن وأعماله الحرة للإنتاج والتجارة من أجل الحصول على الربح والأجور، وبالتالي تلبية حاجاته اليومية، وإضافة إلى ذلك فإن الحكومة في اقتصادات السوق المؤسسي تدعم رأس المال البشري وبخاصة الطبقة المحرومة، من خلال الاستثمار في التعليم والصحة والأمن لتمكين المواطن من المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بصورة مؤسساتية.
نظرياً وتجريبياً، أي ما رأيناه لهذه اللحظة في العالم، فإن الطريقة الاقتصادية للسوق المؤسسي هي التي تقلل الفقر وتقضي عليه، لأنه إذا ما كان الفقر يعني العوز فإن ريادة الأعمال وجهود القطاع الخاص هي التي تنتج الأصول وتوزع إنجازاتها على المواطنين بنسب مختلفة، ولفهم اقتصاد السوق المؤسسي في القضاء على الفقر أمامنا تجربة الصين.
عندما تولى قائد الثورة ماو تسي تونغ الصينية السلطة عام 1949 أسس حكومة واقتصاداً اشتراكياً.، وخلال فترة حكمه لم يختف الفقر بل مات أكثر من 30 مليون شخص بسبب المجاعة الكبرى بين عامي 1959 و 1961، وعزا مسؤولو نظام الماوية سبب المجاعة إلى ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار في الربيع والخريف، إلا أن كثراً اعتبروا أن المجاعة كان سببها اعتماد الاقتصاد الاشتراكي والإدارة غير الحكيمة لموارد المياه.
وفضلاً عن وفاة الملايين من الناس أصيب كثر أيضاً بإعاقات جسدية وعقلية، وبالنتيجة مات كثير منهم بسبب تفشي الأمراض المختلفة، وفي النهاية بعد سنوات من حكم الدولة الشيوعية التي ترافقت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أصبح دينغ شياو بينغ زعيماً للحزب الشيوعي الصيني عام 1978، وابتعد على الفور من سياسة الاقتصاد الاشتراكي وفتح المجال أمام اقتصاد السوق المؤسسي وأدخل التطور في الزراعة والمعرفة والدفاع.
بعد التحول الجزئي من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق المؤسسي حققت الصين نمواً اقتصادياً سريعاً، ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة فإن معدل الفقر في الصين بلغ عام 2021 حدود ستة في المئة.
وبعبارة أخرى فبعد 42 عاماً من وفاة ماو والانتقال النسبي إلى اقتصاد السوق المؤسسي، فإن الصين على رغم عدم امتلاكها للموارد مثل النفط استطاعت تقليل معدلات الفقر المنتشر في البلاد إلى الصفر، وفي الفترة نفسها انتقل نظام الولي الفقيه إلى الاقتصاد الحكومي في إيران، وارتفعت معدلات الفقر نهاية عام 2012 إلى 30 في المئة.
وإضافة إلى مثال الصين الذي أوردناه أعلاه، فوفقاً لبيانات البنك الدولي من عام 1990، أي بعد عام واحد من انتهاء الحرب الإيرانية - العراقية وحتى عام 2018، أي الفترة الثانية من حكومة حسن روحاني، خرج مليار شخص في العالم من الفقر المدقع.
ومن ناحية أخرى، ووفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة لعام 2020، يعيش نحو 9.2 في المئة من سكان العالم، أي نحو 700 مليون شخص، تحت خط الفقر، ومن المحتمل بشدة أن معدل الفقر كان سينخفض أكثر لولا جائحة كورونا.
الاقتصاد الحكومي والاشتراكي
في النوع الآخر من الاقتصاد الذي يمتاز بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والاقتصاد الموجة، فإن الحكومة ستكون المسيطرة وهي من يقرر ما هي حاجات الناس وما يجب إنتاجه لتلبية هذه الحاجات، ولم ينجح الاقتصاد الحكومي والطريقة الاشتراكية في محاربة الفقر بل زاد مستواه لثلاثة أسباب.
أولاً، لا توجد أية حكومة تحت أقدامها كنوز، فكلما أنفقت أكثر كلما تقلصت الخزانة حتى لا يبقى منها شيء، تماماً مثل الغنائم التي حصلت عليها الثورة الإسلامية من خلال مصادرتها أملاك الناس، وبالنتيجة لم يبق منها أي شيء، واليوم وبعد مرور أربعة عقود فإن نظام الولي الفقيه من أجل أن يحصل على غنائم جديدة ليس قادراً على مصادرة أموال أصحاب الريع، وليس بإمكانه الحصول على ضرائب منهم، أما عامة الشعب فليس لديهم أية سيولة بعد.
ثانياً، الشركات الحكومية لا تعرف ريادة الأعمال ولا الإنتاج ولا يمكنها أن تنجح في مواجهة المنافسين الرشيقين بخاصة في الأسواق العالمية، ودائماً ما تتسبب في الخسائر وزيادة الكلف، ومن 53 مجموعة صناعية كانت تعمل في القطاع الخاص قبل الثورة الإسلامية وصادرتها الحكومة الموقتة برئاسة المهندس بازركان، لم يبق منها إلا أسماء.
أما في ما يتعلق بشركات القطاع الخاص فإن الربح هو شرط البقاء والموثوقية، بينما الشركات الحكومية ليست قلقة في شأن الخسائر كما هي الحال في نظام الولي الفقيه، واللافت في الموضوع أن معظم الشركات الحكومية تكبدت خسائر ولم تضف أية زيادة للثروة الوطنية، بل أنفق النظام عليها من الإيرادات الوطنية مثل النفط مثلاً.
أما السبب الثالث فهو فشل الاقتصاد الاشتراكي والحكومي في إنتاج الثروة ومحاربة الفقر والقضاء على معوقات العمل والنشاط وريادة الأعمال الفردية، وإذا ما أدرك المواطنون أنهم كلما زاد إنتاجهم زادت الضرائب، وكلما زاد فقرهم زاد الدعم الذي يتلقونه من النظام، فما هو الحافز الذي يدفعهم للعمل والإنتاج؟ ومع فقدان الحافز للعمل والنشاط يصبح الجميع أكثر فقراً.
ونتيجة لما حصل لم تعد هناك أموال في الخزانة، وتتكبد الشركات التابعة مزيداً من الخسائر، وتراجع حافز الإنتاج في البلاد، وفي مثل هذه الظروف فإن الحكومة تصبح عديمة الجدوى ويتعين عليها بيع الموارد الطبيعية وزيادة الضرائب والاقتراض، وإذا ما وضعنا هذا كله إلى جانب فإن على الحكومة أن تخلق النقود.
ومن بين الموارد الطبيعية كان نظام الولي الفقيه حصل على أكبر إيرادات نفطية في تاريخ إيران ولم يبق منها أي شيء، وأصبح من الصعب أن يحصل على الإيرادات النفطية في العقوبات الدولية، ولهذا السبب عرض نظام الولي الفقيه الثروات الطبيعية مثل المياه والبحر للمزاد، بخاصة للصينيين، وعندما تكون الضرائب في حال ركود والحرفيون وأصحاب الأجور لا يتلقون الأرباح والأجور، فلن تكون هناك حلول لسد العجز المتزايد والمتراكم لحكومات نظام ولي الفقيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحكومات نظام الولي الفقيه حتى بالقروض لن تتمكن من البدء بعملها لأنها لا تستطيع الاقتراض من خارج البلاد، وليس لها ائتمان بين المواطنين أصحاب الدخل المحدود، لذلك يبقى خيار طباعة النقود غير المدعومة فقط.
وعملية طباعة النقود غير المدعومة قد توزع الموارد الاقتصادية النادرة بطريقة غير فعالة وتدمر الإنتاج المدر للدخل، وتتسبب بالتضخم وزيادة الأسعار بحيث لا يستطيع الناس تحملها ويصبحون أكثر فقراً، كما أن الحكومة أيضاً تصبح أكثر فقراً ويزداد العجز في موازنتها.
وإضافة إلى طباعة النقود غير المدعومة فإن حكومة الولي الفقيه المفلسة التي لا تستطيع مواجهة أصحاب الريع ورجال الدين العاملين في الدعاية للنظام، تقدم عادة على تقديم مساعدات للناس، وعلى سبيل المثال تقوم بتوزيع الإعانات على الشعب، لكنها في الواقع تقلل من قيمة هذه الإعانات المالية، وبهذه الطريقة فإن الناس يفقدون قوتهم الشرائية أكثر ويصبحون أكثر فقراً من ذي قبل، وبناء على الأسعار الثابتة لعام 2010 فقد انخفض دخل الفرد الإيراني من 7.3 في المئة عام 2019، بينما ارتفع معدل الفقر من 22 في المئة إلى 30 في المئة، فالاقتصاد الريعي غالباً ما يسبب انتشاراً للفقر وزيادة الفجوات والصراعات الطبقية.
تناقضات مع الاقتصاد المؤسسي
كما ورد ذكره فإن النظام الاقتصادي في حكومة الولي الفقيه يعمل على تفشي الفقر باستمرار، حتى إذا اعتمد إجراءات بسبب الغضب الشعبي أو الاحتجاجات من خلال تقديم مساعدات وإعانات، وتوزيع السيولة غير المدعومة في الاقتصاد لن يؤدي إلى القضاء على الفقر بل يزيد التضخم، وبالتالي ترتفع نسب الفقر.
والسبب الرئيس للفقر في إيران هو قلة الإنتاج وانخفاض أجور اليد العاملة وارتفاع أرباح أصحاب العمل، والحل الوحيد لخفض الفقر هو التنمية الاقتصادية وارتفاع الثروات، ومن أجل الوصول إلى ذلك يجب توسيع الاستثمار والإبداع، أي يجب فتح المجال أمام القطاع الخاص في الداخل وتقليل التوتر في الخارج، لكن النظام عاجز في الداخل ولا يرغب في وضع حد لصراعاته الأيديولوجية في الخارج.
تتحكم الشركات العائدة لـ "الحرس الثوري" والمؤسسات التابعة للمرشد في اقتصاد البلاد، ولأنها تملك القدرة فهي تتحكم في مسؤولي الحكومة والبرلمان وتعمل على تغييرهم على أساس مصالحها، أما في الخارج فإن التوتر الذي يسببه النظام يجلب كلفاً باهظة لإيران والإيرانيين، ولإيجاد مقاربة لفهم هذه الكلف الكبيرة التي يسببها المسؤولون في نظام الولي الفقيه يكفي البحث في توجهات النظام الإيراني وفيتنام في التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية.
خاضت فيتنام حرباً ضد أميركا بين عامي 1955 و1975، وكانت الأخيرة تدعم فيتنام الجنوبية في حربها ضد الشيوعيين في الشمال وأوفدت قوات إلى فيتنام، وبعد اتفاق القوى الشيوعية في الشمال مع الولايات المتحدة على وقف إطلاق النار عام 1973 عمل الشيوعيون على الاستيلاء على سايغون عام 1975 واستولوا على جميع انحاء البلاد، وعاد الأميركيون لبلادهم.
وبعد عقد من الحرب قرر الثوريون في فيتنام عام 1986 بدء نهضة اقتصادية على أساس مؤسسي، وفتحوا المجال أمام القطاع الخاص ودعموا الصادرات. خرج الفيتناميون من الحرب مع أميركا بـ 3 ملايين قتيل وجريح، لكنهم من أجل إعادة اعمار بلادهم وإنهاء الفقر والتخلف أعادوا علاقاتهم الدبلوماسية مع أميركا عام 1995 ووقعوا اتفاقاً للتجارة الحرة عام 2019، وفي عام 2020 بلغ التبادل التجاري بين أميركا وفيتنام 90 مليار دولار، وتحولت أميركا إلى أكبر سوق للصادرات إلى فيتنام التي تحولت بدورها إلى أكبر شريك تجاري لأميركا في جنوب شرقي آسيا.
وخلافاً لإيران فقد خاضت فيتنام حرباً ضروساً ضد أميركا، لكنها انتهجت طريقاً آخر لحل الخلافات وحصلت على نتائج مذهلة، إذ ارتفع الدخل الفردي من 138 دولاراً عام 1975 إلى 2800 دولار عام 2020.
يجب مقارنة هذه التجربة مع أداء نظام الجمهورية الإسلامية الذي لم يجلب إلا وقف الإيرادات والعقوبات والتخلف للإيرانيين، فهيكل الاقتصاد في النظام الإيراني يؤدي إلى تفشي الفقر وتحويل الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة باستمرار، وحتى في فترة العقوبات خلال الثمانينيات كانت نسبة الاستثمارات الثابتة في البلاد أقل من الاستهلاك، أما المستقبل فيكتنفه الغموض ولا توجد بارقة أمل لإنهاء المعوقات التي تحول دون التنمية والهيمنة الحكومية على الاقتصاد والريع، وكذلك استمرار التوتر في السوق العالمية، وبعد التضخم الذي نشهده حالياً وهبوط قيمة العملة الوطنية فإن عدداً كبيراً من الإيرانيين يحالون إلى الطبقة الفقيرة، وفي مثل هذه الظروف كيف يمكن إيجاد أمل بازدياد الثروة والقضاء على الفقر في ظل النظام الاقتصادي للولي الفقيه؟
لا يمكن تحسين الوضع الاقتصادي للإيرانيين في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، ولذلك يجب التخلص من اقتصاد الولي الفقيه من أجل القضاء على الفقر، كما يجب على المعارضة أخذ العبر وعدم التفكير في الاقتصاد الاشتراكي أو الاقتصاد الحكومي مستقبلاً.
نقلا عن "اندبندنت فارسية"