ملخص
المدينة الأوكرانية الشرقية تشكل ساحة نزاع بين موسكو وكييف يدفع ثمنها بأرواح بشرية.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النصر في مدينة باخموت الأوكرانية نهاية الأسبوع الماضي، لكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفى سقوطها في يد الروس، زاعماً أن الأوكرانيين في طريقهم إلى محاصرة العدو. في غضون ذلك تتواصل فصول أطول معركة دموية في هذه الحرب بخسائرها المميتة.
كان يعيش في المدينة الواقعة في إقليم دونباس الشرقي التي تعد نسبياً صغيرة قرابة 70 ألف شخص قبل الغزو الروسي لها الذي شن منذ 15 شهراً. وقضى فيها وجرح أكثر من 100 ألف شخص منذ ذلك الحين، في الصراع المستمر منذ 10 أشهر من أجل السيطرة عليها، ودمرت أحياء بكاملها وسويت أبنيتها بالأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعلن يفغيني بريغوجين، الذي اضطلعت مجموعة المرتزقة "فاغنر" التي يرأسها بدور رئيس في الهجوم على باخموت، أنه سيسلم المدينة للجيش الروسي الأسبوع المقبل. لكن هانا ماليار نائبة وزير الدفاع الأوكراني أكدت أنه لن يكون في وضع يسمح له بذلك. فالصراع العنيف مستمر وسط استعداد قوات كييف للسيطرة على "المرتفعات التي تتحكم بجانبي منطقة الصراع".
وتصدرت المعركة الطاحنة التي بلغت حصيلتها أعداد كبيرة من الجثث من الميدان يومياً عناوين الصحف الدولية، التي وصفتها بـ"فرامة لحم باخموت"، و"حمام دم باخموت"، بحيث قام الجانبان بحشد الجنود والسلاح إلى ما باتت تعرف بإحدى أكثر الجبهات رمزية في هذا الصراع. وما تكشفت عنه الأمور، وفقاً لمختلف المسؤولين الأوكرانيين والغربيين، هو أن معركة باخموت أصبحت بأهمية "معركة سوم" (مدينة فرنسية شن الحلفاء هجوماً لانتزاعها من الألمان في الحرب العالمية الأولى، وقتل فيها نحو مليون شخص من الجانبين)، أو "معركة ستالينغراد" (الأكثر دموية في الحرب العالمية الثانية، وحاولت ألمانيا النازية انتزاعها من السوفيات آنذاك بلا جدوى، وبلغت الخسائر البشرية فيها نحو مليونين و200 ألف شخص).
لكن ما الذي تحقق بعد هذه المذبحة؟ يقول قادة عسكريون غربيون بشكل علني، وقادة أوكرانيون بشكل غير علني، إن القيمة الاستراتيجية لباخموت هي محدودة. ويتساءل جنود أوكرانيين التقيتهم في ما تبقى من المدينة، كما أسرى حرب روس وقعوا في أيديهم، عن مغزى التضحية بكثير من أجل ما سيكون في نهاية المطاف بمثابة نصر رمزي.
فالمدينة التي تمتد على جانبي نهر باخموتكا، وتبعد نحو 60 ميلاً (97 كيلومتراً) شمال دونيتسك، تقع على طرق رئيسة قامت القوات الروسية بمهاجمتها، في محاولاتها اختراق مركزي المدينتين الرئيسين سلوفيانسك وكراماتورسك. ومع ذلك، عززت دفاعات هاتين المدينتين كثيراً في الأشهر الأربعة الأخيرة - مع مدهما بـ"نظام صواريخ المدفعية عالية الحركة" High Mobility Artillery Rocket System (HIMARS) الأميركي، وبـ"نظام إطلاق الصواريخ المتعددة" Multiple Launch Rocket System (MLRS) البريطاني، مما جعل التقدم الروسي صعباً للغاية. وتقول وزارة الدفاع البريطانية إن روسيا تعتبر أن "الاستيلاء على باخموت سيكون ذا قيمة عملياتية محدودة".
كنت قمت في عام 2014 بتغطية صحافية للقتال في باخموت (التي كانت تسمى آنذاك أرتيميفسك)، وذلك أثناء الحرب الانفصالية التي عقبت ثورة "ميدان أوكرانيا" Ukraine’s Maidan - بين القوات الأوكرانية و"الحرس الوطني" من جهة، ومقاتلي "جمهورية دونيتسك الشعبية" المدعومين من روسيا من جهة ثانية.
وكان الانفصاليون يهدفون إلى الاستيلاء على مخزون ضخم من الذخيرة - بما فيها قذائف الدبابات - في ضاحية مدينة باراسكوفيفكا، لكنهم فشلوا. وبعد شهرين من تبادل السيطرة على أقسام مختلفة داخل المدينة - كما يحدث الآن لكن بمقدار أقل من الضراوة - انسحب الانفصاليون منها.
بعد ذلك عادت باخموت إلى طبيعتها، مع معاودة العمل بمناجم الملح في بلدة سوليدار المجاورة مرة أخرى، واستعادة مصنع رئيس للنبيذ نشاطه، على رغم فقدان كثير من إمدادات العنب التقليدية من شبه جزيرة القرم التي ضمها الكرملين إلى روسيا. وعاودت المقاهي والمطاعم تلبية طلبات الشراء الآتية من طرق سريعة تربط ما بين خاركيف وروستوف، وما بين كييف ودونيتسك. إلى ذلك، جدد "قصر الثقافة" وبناء ملعب جديد لكرة القدم.
ومع حلول فصل الصيف الماضي، بدأت مدينة باخموت تتعرض لنيران القذائف، لكن كان بإمكاني البقاء هناك أثناء تغطية الهجمات الروسية على مدينتي سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك اللتين سقطتا في النهاية. وفي ذلك الوقت، كانت القوات الأوكرانية تحقق تقدماً في منطقة دونباس.
مع ذلك، بدت باخموت وكأن في إمكانها أن تصمد. وقال الكولونيل أوليه هريهوروف رئيس شرطة منطقة لوهانسك، الذي استقر فيها أثناء انضمامه بشكل يومي إلى عناصره على خط المواجهة، إن "الروس "سيحاولون الاستيلاء على هذه المدينة، ولن يكون ظهرنا مكشوفاً بحيث سنستفيد من النهر كما حصل معنا في بعض الأماكن الأخرى، وسنتمكن من الحفاظ على إعادة الإمدادات، ويمكننا مراقبتهم وإعاقتهم. فلن يجدوا سهولة في المرور من هنا".
وبدأت الهجمات بعد ذلك بوقت قصير، وشرعت القوات الروسية في احتلال المناطق النائية من دون أن تتمكن من اقتحام مركز المدينة. ثم طغت حال من المراوحة، مع إمكان التراجع، كما حدث قبل نحو تسعة أعوام.
وقال لنا اللفتنانت جنرال فاليري زالوجني قائد الجيش الأوكراني في ذلك الوقت "إنه أمر صعب للغاية، لكن بعد جهود هائلة تمكنا من تحقيق استقرار الوضع". وجاء في تقييم وزارة الدفاع أن "هناك احتمالاً واقعياً بأن يفقد الهجوم على باخموت زخمه...".
بعد ذلك وقعت مدينة باخموت تحت الأنظار الكئيبة لبريغوجين رئيس مجموعة "فاغنر" الملقب بـ"طباخ بوتين"، بسبب قربه في إحدى المراحل من الرئيس الروسي وحصوله على عقود حكومية مربحة، وقرر الانخراط في الحرب مصمماً على تحقيق نصر.
وكانت باخموت الساحة التي اختارها بريغوجين حيث أرسل آلافاً من مقاتليه المرتزقة إلى خط المواجهة. وكان عدد كبير منهم في السجون فأخرجوا كي يكونوا وقوداً للمدافع، وجندوا بوعد بالعفو عنهم إذا ما بقيوا على قيد الحياة.
واستهدفت أولى الهجمات التي قامت بها وحدات "فاغنر" "شارع باتريس لومومبا" بكامله في المنطقة الصناعية. وكانت هذه التسمية أطلقت على الطريق تيمناً بالزعيم الوطني الكونغولي الذي قتل على يد البلجيكيين والمتعاونين معهم، عندما حازت دولته استقلالها. وقال كونستانتين كرافشينكو بسخرية: "سمي الطريق في أيام الاتحاد السوفياتي عندما كان من المفترض أن يكون الروس ضد الاستعمار. أما الآن فهم يحاولون استعادة إمبراطوريتهم وقتل الأشخاص الذين يريدون حماية حريتنا".
وفيما كان بريغوجين يرسل تعزيزات إلى باخموت ويشيد بالنجاحات المفترضة لقواته، كان يواصل انتقاداته بلا توقف للقيادة العليا الروسية، وغالباً ما كانت تطاول، من بين شخصيات أخرى، وزير الدفاع سيرغي شويغو والجنرال فاليري جيرازيموف قائد القوات المسلحة.
في الوقت نفسه، تركزت التكتيكات الميدانية لقوات "فاغنر" على الدفع بأعداد من الرجال نحو رحى "مطحنة" المعركة، لتليها قوات روسية عالية الخبرة بما فيها القوات الخاصة "سبيتسناز" Spetsnaz. وكان يسبق الهجمات ويعقبها قصف مدفعي وجوي في محاولة لدك ما بقي قائماً.
الرقيب رسلان من لواء المشاة الآلية الرقم 57 في أوكرانيا، وصف تجربته مع التكتيكات الروسية خلال زيارة لباخموت قبل بضعة أشهر. وقال: "كانوا يبعثون أولاً بوحداتهم الخاصة المتحركة (التي عبئت حديثاً). ولم تكن توجد تغطية كبيرة لها هنا كما ترى، وكان من السهل إطلاق النار عليها. لكن بينما كنا منشغلين بذلك، فإنهم كانوا يحاولون التسلل مستخدمين الجنود الأفضل تدريباً. كانوا يكسبون بضعة شوارع، ومن ثم ندفعهم إلى الوراء، ويعاودون الكرة مرة أخرى، ونقوم من جديد بردهم... إلى أين قاد كل ذلك؟ لا أعرف، لكن كثيراً من الناس فقدوا حياتهم".
وأسر مقاتلون من مجموعة "فاغنر". أحدهم هو الشاب الأوزبكي طلعت نزاربيكو الذي كان مقتنعاً بأن الأوكرانيين سيطلقون النار عليه بعد مغادرتنا نحن الصحافيين. لكنه ما زال حياً والتقيته بعد أيام قليلة في مستشفى كراماتورسك حيث كان يخضع لعلاج من إصاباته.
يعد نزاربيكو أحد المقاتلين الأكثر خبرة، وخدم سابقاً في سوريا. ويقول إنه "لم يتبق أمام المجندين الجدد أي بديل، ولا أستطيع أن أتخيل أن أي شخص يختار بملء إرادته المجيء إلى باخموت. إنها أشبه بساحة مفتوحة من القتال المتواصل، ومن المحتمل ألا يخرج منها المرء على قيد الحياة. لم نفهم ما كنا نفعله هناك في الواقع".
ويقول الأوكرانيون وحلفاؤهم الغربيون إن المحاولات المستميتة التي يلجأ إليها بريغوجين والكرملين للسيطرة على باخموت هي فقط للدعاية السياسية، وليس لأسباب عسكرية.
سيرهي كوزان رئيس "مركز الأمن والتعاون الأوكراني" Ukrainian Security and Cooperation Centre رأى أن الروس "يقومون بمهمة ذات طابع سياسي وليست عسكرية بحتة. وسيواصلون التضحية بآلاف من الأرواح لتحقيق أهدافهم السياسية. فالقيادة الروسية منقسمة، وأعضاؤها يلوم بعضهم بعضاً على الإخفاقات في أوكرانيا، وأصبحت باخموت ساحة معركة بين بريغوجين وشويغو".
وتعرضت الحكومة الأوكرانية نفسها لبعض الضغوط للانسحاب من باخموت بقصد تجنب مزيد من الضحايا. وكانت هناك تحذيرات على وسائل التواصل الاجتماعي من أن تأخيرات مماثلة أودت بحياة الناس في ماريوبول وسيفيرودونيتسك.
لكن بالنسبة إلى القيادة في كييف، فهي كما موسكو، أصبحت تعتبر السيطرة على باخموت مسألة مبدأ، وذات أهمية رمزية كبيرة. ففي الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني لواشنطن أواخر العام الماضي، أطلق زيلينسكي على المدينة اسم "حصن معنوياتنا"، وقدم علم باخموت للكونغرس الأميركي. وقال إن "القتال من أجل هذه المدينة سيغير مسار حربنا من أجل تحقيق الاستقلال والحرية". وفي حديث أمام قمة "مجموعة السبع" في طوكيو في نهاية الأسبوع الماضي، حرص الرئيس الأوكراني على تأكيد أن "باخموت هي في قلوبنا".
وبغض النظر عن المزاعم والادعاءات المتبادلة بين الجانبين الروسي والأوكراني، فإن تلك الفترة التي استمرت أشهراً خلفت أثراً عميقاً من الألم والحزن في نفوس السكان المحليين. إذ توفيت والدة فيكتوريا بونومارينكا، إيرينا، البالغة من العمر 68 سنة، على أثر نوبة قلبية في سبتمبر (أيلول) الماضي، أثناء القصف على المدينة. ولم يكن في الإمكان نقل جثمانها لنحو ثلاثة أيام، وبعد 10 أيام من فرار بقية أفراد أسرتها، تعرض منزلهم للتدمير.
وتقول السيدة بونومارينكا التي تعيش الآن مع أطفالها الأربعة في دنيبرو: "لدينا معارف وأصدقاء قضوا نحبهم أو جرحوا أو أصبحوا بلا مأوى. فقد كنا نعيش في جحيم لنحو عام".
وتضيف: "اضطرت والدتي إلى الانتقال للعيش معنا بعد تعرض منزلها لأضرار بالغة. وكانت أمضت في ذلك المنزل المليء بالذكريات نحو 52 سنة من عمرها، وكانت توجد فيه حديقة جميلة حرقت وتحولت إلى رماد. تعرضت على الأثر لاكتئاب وسيطر عليها الخوف، وفي النهاية توفيت بحسرة قلبها".
وتختم فيكتوريا بالقول: "آمل أن يعود بقيتنا إلى هناك يوماً ما. لقد خسرنا منزلنا وتضررت أيضاً معظم شوارعنا والمدارس والمتاجر. سيتطلب الأمر منا بذل كثير من الجهود لاستعادة طاقتنا وبناء كل شيء من جديد، لكن ذلك لن يكون سهلاً على الإطلاق".
© The Independent