Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطبيعة فردوس أضاعه البشر العصريون بغرورهم

معرض يدعو إلى التعلم من النحل والإصغاء الى الاشجار وجذورها

 عمل من المعرض للفنان الهولندي تييس بيرتسيكر (خدمة المعرض)  

ملخص

معرض يدعو إلى التعلم من النحل والإصغاء الى الاشجار وجذورها

في كتابه "أين نحطّ؟"، يبيّن الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا برونو لاتور (1947 ــ 2022) مدى ارتهان حياتنا كبشر، لحياة الكائنات الأخرى التي تعيش في عالمنا، وبالتالي ضرورة أن ننزل من عليائنا ونحطّ على الأرض، وأن نجنّد جميع حواسنا، وممارسة تأمل يقظ في هذه الكائنات، لضمان بقائنا وتحقيق حلمنا بعالم أفضل للجميع.

وهذا تحديداً ما يقترحه علينا المعرض الذي ينظمه حالياً "متحف جنيف الاثنوغرافي" تحت عنوان "أن نكون معاً"، أي الهبوط على الأرض، وحشد جميع حواسنا، بغية فهم أفضل لكل ما هو حيّ حولنا. معرض يستدعي إذاً التأمل والانتباه، ونجد أنفسنا فيه مدعوين إلى تفحّص العلاقات المثيرة التي حاول علماء وشعراء وفنانون نسجها مع كائنات أخرى، حيوانات وحشرات ونباتات، مسلحين بصبر ورقّة وعناد.

من هؤلاء الأشخاص، نتعلم أن الأرض ومواردها ليست ملكاً حصرياً لنا، نحن البشر، وبالتالي لا يحق لنا استغلالها واستهلاكها كما فعلنا ونفعل اليوم، بل من واجبنا أن نتفاوض بطريقة دبلوماسية مسؤولة، مع كل كيان حيّ، وتطوير روابطنا وتعاطفنا مع كائنات نعتمد عليها في بقائنا.

في المعرض، نعرف أيضاً أن مفهومي المسؤولية والمعاملة بالمثل، الحاضرين في قلب النقاشات اليوم، ليسا جديدين. فالمجتمعات التي طالما قلّل الفكر الرأسمالي من شأنها واعتبرها تارةً "تقليدية" وطوراً "بدائية"، تمكنت باكراً من الجمع بين كفاحها من أجل البقاء، والاعتراف بها، وكفاحها من أجل حماية الطبيعة. ومنها نتعلم أن العلاقات بين البشر والطبيعة متعددة ومليئة بالفروق الدقيقة، لدرجة أنّ من المستحيل، بل وحتى الخطير، تلخيصها في نموذج واحد طاغ. فكما تقول العبارة الفرنسية، "الشيطان يكمن في التفاصيل".

لغة النباتات والحيوانات

وفي ضوء ذلك، هل يمكننا تصوّر ترجمة إشارات النباتات والحيوانات؟ هل يمكننا فهم وترجمة طرق أخرى للتواجد في العالم من دون أن نسقط عليها تجربتنا الخاصة؟ هنا أيضاً، تساعدنا الثقافات الأولى كثيراً من حيث إنها أولت دائماً أهمية كبيرة للرفقة بين البشر والحيوانات والنباتات. جهدٌ ثابت شكّل بالنسبة إليها مفتاحاً لتعايش أكثر سعادة يستحق الديمومة، وأحياناً التحديث، على الرغم ــ أو بالأحرى بسبب ــ عدم اليقين الذي يثيره.

المعرض الحالي يدعونا إلى تحريك نظرنا ومساءلة ممارسة التأمل نفسها. يحثنا على السعي لاختبار وجهة نظر الحيوانات والنباتات، كي يتجلى لنا عدم تناظر العلاقة بيننا وبينها، ويصبح ممكناً لنا مساءلة تلك "المركزية البشرية" (anthropocentrisme) المشؤومة التي طالما تحكّمت في طريقة تملّكنا للآخر والعالم. فعلى الرغم من عيوب جهدنا لفهم لغات الكائنات الحية الأخرى، يبقى هذا الجهد حميداً في دفعه إيانا في اتجاه هذه الكائنات، وشحذه حواسنا وإدراكنا، وإثارة تعاطفنا، وتنسيب موقفنا، ومساءلة مفهومي الطبيعية (normalité) والفرادة.

في الجزء الأول من المعرض، الذي يحمل عنوان "حنين إلى الفردوس"، وتتوزع في أرجائه أعمال فنية وأدبية، ومخطوطات قديمة مرجعية، نعرف أن للفردوس ألف اسم وإسم، لكن في معظم الثقافات، يتمثّل بالطريقة نفسها، أي كحديقة مورقة في ربيع معتدل، ويحضر كتجربة منه أكثر كمكان محدد. نعرف أيضاً أن معجزة الفردوس في العديد من الأساطير تكمن في الانسجام بين الكائنات التي تقطنه، وفي تقاسمها لغة مشتركة، وبالتالي أن العنصر المحدد له، هو إمكانية تبادل سعيد وبلا عائق بين كائناته. وبما أن هذه الأخيرة قادرة على فهم بعضها بعضاً، تسير الحياة فيه بلا طارئ أو ألم أو معاناة. أما حضور سرديات الفردوس غالباً بصيغة الماضي، كذكرى، فيعبّر عن حنين ولهفة إلى ذلك الزمن الذي مضى إلى الأبد، وكانت الحياة فيه قسمة وانسجاماً.

الإنسجام المفقود

الجزء الثاني من المعرض، الذي يحمل عنوان "الانسجام المفقود"، يذكّرنا بأن الأساطير تستحضر، لتفسير مجيء الحياة كما نعرفها، بهمومها وعذاباتها، إما كبرياء الرجل، أو فضول المرأة، أو الروح الشريرة للأفعى. وسواء تعلق الأمر بخطيئة أصلية، بخطأ في الحكم، بغباء، أو بأي سبب آخر أدى إلى هذه المحنة، فإن العواقب كانت رهيبة. فسواء كنا بشراً أو حيوانات أو نباتات، سواء كنا نعيش على الأرض أو في البحر، سواء كنا نسير على أقدامنا أو نزحف على بطوننا أو نطير، وجد كل واحد منا نفسه منعزلاً، وبتنا مضطرين إلى التعامل مع المصادفات والعارِض والأخطار والمعاناة. وبما أننا حُرمنا من القدرة على التفاهم، بفقداننا اللغة المشتركة، أصبح الوجود صراعاً والحياة شدّة، ولم نعد قادرين على إعادة تحقيق تجربة الاتحاد والمشاطرة، أو حتى تذكّرها بالكامل، فصار رفاق الماضي فرائس أو كواسر. وبالنتيجة، حين نبكي الفردوس المفقود ولغته الأسطورية، نأسف في الواقع على فقداننا ذكاءً مشتركاً ونسخة أفضل من أنفسنا.

في الجزء الثالث من المعرض، تحضر الحكايات والأساطير ومختلف السرديات التي، في معرض تعاملها أو حدادها على هذا الفقدان، تربط بين الفردوس والطفولة، وتقود بالنتيجة إلى الاعتقاد بأن الأمل في عودة الحوار مع الحيوانات والنباتات، يكمن في الأطفال وودعاء القلوب. لكن في جميع الثقافات، غالباً ما تُبرز الأساطير الدينية والدنيوية شخصيات نموذجية قادرة على التواصل مع الطبيعة وكائناتها، وتعود قدراتها الاستثنائية هذه إلى مصادر مختلفة: هبة أو موهبة، إرث، ممارسة الصبر، دراسة مطولة، حياة فاضلة أو حس تعاطفي نادر. قدرات تسمح بالعودة إلى الوراء في الزمن، بتقليص المسافة بين الكائنات وإظهار حقيقتها. ولذلك تسمّى أيضاً "لغة الطير" أو "لغة السماء".

من التقليد الشرقي، يستحضر المعرض حكمة الملك سليمان وأسطورة خاتمه السحري الذي تلقاه هبة من البارئ وسمح له بمحاورة الحيوانات، مما وسّع آفاق علمه. ومن أوروبا، يستحضر أورفيوس الذي تقول أسطورته بأنه كان يملك مفاتيح التواصل والاتحاد بمختلف الكائنات، والقدرة على فتن الحيوانات وخطف القلوب، حتى أنه ورث عن والديه هبة تهدئة العناصر وتحريك الحجارة وترقيص الأشجار. إنه أيضاً ذلك الذي كان يعرف أصل العالم، ويملك معارف الطبيعة، والقدرة على تبديد الغضب بنشيده، وعلى تليين الآلهة وإيقاف حصاد الموت، بعزفه على قيثارته. يستحضر المعرض أيضاً القديس فرنسيس الأسيزي الذي بلغت رقّته ورفقه بالإنسان والحيوان حدّ سماعه صوت الأسماك، وفقاً للتقليد الشعبي. فرنسيس الذي كان يحب ويستلهم جميع الكائنات الحية، ولا يرى الطبيعة كأداة للخطيئة، بل كمكوِّن أساسي للحياة والخلاص الروحي.

التواصل المفترض

ولا يكتفي المعرض بهذه الشخصيات الثلاث، بل يبيّن أيضاً، في جزئه الرابع، بأنهم كثر أولئك الذين يحاولون اليوم بلوغ شكل من أشكال التواصل مع الكائنات الحية التي تحيط بنا، فيستكشفون، بفعل شغفهم أو عطشهم إلى المعرفة، تلك القرابة معها التي يصعب تحديدها. ومع أن غموض هذه العلاقة وصعوبة إيجاد مقياسها الصحيح يعيقان جهودهم، لكنهم يثابرون في سعيهم إلى تنمية حساسيتهم تجاه أشكال الحياة الأخرى، وفهمها. أشخاص لا يملكون موهبة أورفيوس، ولا حكمة النبي سليمان، ولا طيبة القديس فرنسيس، لكنهم يتقدمون على هذه الدرب، متلمسين طريقهم، على الرغم من العقبات، ومسلحين بيقينهم بأن علاقتنا بالطبيعة وكائناتها هي مكوّن متأصل في إنسانيتنا.

الفنان الهولندي تييس بيرستيكير، على سبيل المثل، يحوّل الأسئلة الملحة للعالم المعاصر إلى تجارب ملموسة وشعرية. في تجهيزاته التي يحضر بعضها في المعرض، يجمع بين الفن والعلم لإثارة حساسية المتأمل فيها وإلهامه الأفعال الضرورية لحماية الأرض. وفي هذا السياق، يستخدم التكنولوجيات الحديثة لإتاحة الوصول إلى المعطيات العلمية الأكثر تطوراً بطرق حسية، غامرة وتفاعلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهته، يتقاسم الموسيقي الألماني بيت هوفمان نظرته إلى العالم كحبكة سمعية، مع مواطنه، مهندس الصوت أندرو فيليبس. في تجهيزهما "كن نحلة" (Be a Bee)، يفجران الفاصل بين الطبيعة والثقافة بإسماعنا، في غرفة أولى، المجموعة الكبيرة والمتنوعة من الأصوات التي ينتجها النحل، وتتراوح بين حفيف خفيف وأزيز عميق، ثم بإسقاطهما، في غرفة ثانية، أصوات بشرية على هذه التسجيلات التي أجرياها داخل خلية نحل على مدى شهور، مما يحوّل أصوات الطبيعة إلى أصوات ثقافية وتعبير جمالي.

السويسرية كورنيليا هيس هونيغر رسامة علمية ترى في الرسم طريقة لاستكشاف الطبيعة وإظهار فرادة كائناتها، مهما كان جنسها. مقاربة غير تقليدية فرضت نفسها عليها حين كانت تعمل على الطفرات الجينية في جامعة زوريخ. في مطلع السبعينيات، انطلقت في رسم – ودراسة - الدعاسيق، وحين لاحظت النتائج الوخيمة للتلوث والإشعاعات عليها، انخرطت في النضال البيئي. ومن سعيها إلى معرفة وحماية هذه الكائنات الجميلة والهشة، ومنهجه، انبثق شكل غير مسبوق من التعاطف بين الإنسان والحشرة.

ومن بين الأشخاص الكثيرين الذين يستحضر المعرض إنجازاتهم، نتوقف أخيراً عند تجهيز حققه الفنان تييس بيرستيكير مع عالم النبات الإيطالي ستيفانو مانكوزو، ويدعونا إلى تأمل حوار مباشر بين جذور شجرتي صنوبر. عملٌ باهر يرينا بشكل محسوس ليس فقط تحاور هاتين الشجرتين، بل أيضاً ردود فعلهما على حضورنا، ويشكّل بالتالي خير شهادة على حقيقة أن النباتات، والأشجار تحديداً، أكثر من أي كائن حي آخر، تتواصل في ما بينها عن طريق شبكة جذرية وفطرية تسمح لها بتوصيل احتياجاتها، بتقاسم العناصر الغذائية، وحتى بالتعاون لصد الأخطار التي تهددها.

وحين نرى بأم عيننا كيف تشكّل هذه الكائنات طائفة مثالية في تكاتفها وحمايتها للبيئة، بخلاف طوائفنا البشرية، نعي أنّ الوقت حان للنزول من عليائنا والإصغاء إلى الجذور.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة