ملخص
مصير سمكة القرش المحنطة في المتحف ومآل الشاب إلى رثاء على لوحة رخامية وقلق من أن تؤثر الحادثة سلباً في معدلات السياحة في كفة وافتئات المئات على ما جرى عبر فيديوهات "تيك توك" ومقاطع "يوتيوب" و"فيسبوك" في كفة أخرى.
هاجمت سمكة قرش شاباً روسياً في مياه مدينة الغردقة المصرية قبل أيام. لقي الشاب حتفه وبقيت سردية الهجوم حبيسة تفسيرات الموظفين وتحليلات المارة وتوقعات المستقبل رهن فشل قصر نظرة الإعلام هنا، وتسييس توجهات الإعلام هناك.
هناك، في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما في ولاية فلوريدا، وكذلك في أستراليا ونيوزيلندا وأيضاً بريطانيا وقائمة طويلة من الدول المهتمة بدراسة الأحياء المائية وعوالم البحار والمحيطات، تصدر تقارير وإحصاءات سنوية عن حالات وقوع هجوم من أسماك القرش على أفراد ونسبة القاتل منها وغير القاتل مع سرد أسباب وقوع الهجوم إن عرفت.
في منتصف 2019 مثلاً رصد العلماء وقوع 104 حالات هجوم منذ بدء العام منها 76 هجمة نجمت عنها إصابات، وبين هذه الهجمات 24 هجمة سببها استفزاز القرش، وفي 2022 حدثت 91 هجمة من أسماك القرش بينها تسع هجمات قاتلة.
السمكة القاتلة
قتلت سمكة القرش وهي من نوع "النمر" الشاب الروسي في الثامن من الشهر الجاري وقبلها بيومين افترست سمكة قرش صياداً في مياه نيو كاليدونيا أو كاليدونيا الجديدة التابعة لفرنسا والواقعة جنوب غربي المحيط الهادئ. فوجئ زملاؤه ببقعة دماء إلى جوار المركب وحين هرع أحدهم لإنقاذه وجده ميتاً بفعل هجوم القرش. كان هذا هو الهجوم الثالث في كاليدونيا الجديدة وحدها منذ مطلع العام الحالي. وحتى يوم الثامن من يونيو (حزيران) الجاري وقعت 34 حالة هجوم من أسماك قرش في بحار ومحيطات عدة حول العالم وهذا هو العدد الذي جرى رصده وتسجيله فقط.
لكن الغالبية المطلقة من هذه الهجمات لم تعرف طريقها إلى الإعلام العالمي ولم تتحول إلى نقطة جدال وصراع وصراخ وتراشق كما فعل القرش المصري، فالقرش المصري، أو بالأحرى القرش الذي فعل فعلته الشنعاء في المياه المصرية يظل حديث الملايين في مصر وخارجها على رغم مرور أيام على الحادثة.
ولأن لكل حدث حديث ولأن الحديث عن حادثة القرش في الغردقة لم يسر في قنواته المتوقعة والمنطقية والمفترضة، بل جنح في القيل وغرق في القال ووجد نفسه مثار شد وجذب سياسي واقتصادي وسياحي بل ديني أحياناً، فإنه يظل حبيس شهوة "الترند" وأسير شح المعلومة.
مصدر المعلومات
وعلى رغم أن جانباً كبيراً من المعلومات التي جرى تداولها عقب وقوع الهجوم في مدينة الغردقة علمي وصحيح ومعمول به في عدد من المراكز العلمية والهيئات البحرية، فإنه كان صدر عن أفراد عاديين بحثوا في أغوار الإنترنت وشاركوا ما وجدوا، أو من قبل هواة غطس وغوص كتبوا ما يعرفونه في شأن التعرض للهجمات وهو جزء من التدريب الذي يحصلون عليه قبل السماح لهم بممارسة هذه الرياضة.
وكعادة الـ"سوشيال ميديا" تلقف بعضهم هذه المشاركات وأعادوا تدويرها بعد إضافة قليل أو كثير من الآراء الشخصية والتأملات الفردية والتوقعات الشعبية، ولو أعلن الإعلام التقليدي أولاً بأول عن الحادثة ومجرياتها التي تتوافر بعد توثيقها لأغلق باباً من الإشاعات وسد فجوات من نقص المعلومات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن وزارة البيئة المصرية سارعت إلى إصدار بيانات متعاقبة أولها جاء بعد التأكد من وقوع الهجوم وإعلان تطبيق السياسات المتعارف عليها عالمياً في مثل هذه الأحوال لتحقيق أقصى درجات السلامة لمرتادي شواطئ البحر الأحمر مع اتخاذ ما يمكن عمله من إجراءات لتلافي تكرار مثل هذه الحادثة مجدداً، فإنها وحدها لم تكن كافية، لا سيما أن فداحة الفيديوهات المتداولة وسرعة تحميلها وحصادها ملايين المشاهدات في دقائق على رغم بشاعتها ظلمت البيانات الرصينة.
احتوت بيانات وزارة البيئة على إشارة إلى صيد سمكة القرش التي قامت بالهجوم وهو الإجراء الذي أثار بعض الانتقادات من منطلق أن صيد سمكة قرش لن يكتب كلمة النهاية أمام مثل هذه الحوادث، مع الإشارة إلى أن الهدف من صيدها هو الوقوف على الأسباب التي أدت إلى هجومها وإن كانت السمكة نفسها التي قامت بعمليات هجوم سابقة.
المساحة الشاغرة
لكن مساحة التفسير العلمي لهذه الهجمات ظلت شاغرة لفترة تعد طويلة بمقياس الحادثة وبشاعتها، لا سيما أن وقائعها جرى تصويرها وبثها على أثير الـ"سوشيال ميديا"، وكان من شأن الشرح العلمي الوافي لما جرى، لا سيما أنها ليست الحادثة الأولى ولن تكون الأخيرة على ظهر الكوكب، أن يقلص من حجم الفوضى والتضارب والتداخل المعلوماتي التي عمت أرجاء الـ"سوشيال ميديا" ووصلت إلى الإعلام التقليدي.
السخرية في التقليدي
الإعلام التقليدي، وإن كان غير الرسمي، أسهم إلى حد كبير في إشاعة أجواء من السخرية غير المطلوبة والنكتة غير المقبولة في مثل الظروف، فحين بدأ تداول النصائح والخطوات المنصوص عليها عالمياً في حال تعرض أحد لهجمة من القرش، تحول تعامل بعضهم معها بكثير من الاستخفاف والسخرية.
الغالبية المطلقة من التعليمات تحث من يتعرض للهجوم على النظر إلى عين القرش مع استخدام أداة حادة يتم توجيهها إلى خياشيمه وعينيه ومناطقه الحساسة والاستمرار في مواجهته وجهاً لوجه وعدم إعطائه ظهره.
الإعلامي المصري عمرو أديب سخر بشدة من النصائح (ومعظمها مترجم من مراكز وهيئات أجنبية في دول معروفة بحدوث هجمات من القرش على الأفراد)، وقال "لا أظن أني في تعاملي مع القرش سأنظر في عينه أو أضربه في أنفه أو خياشيمه، أو حتى أضربه في مناطقه الحساسة. أنا لا أعرف منطقة القرش الحساسة. لا أظن أن أحداً سيتمكن من عمل أي من هذه الحوارات (الخطوات)".
وفي خلال دقائق معدودة تحولت تعليقات أديب إلى مادة إضافية للسخرية على أثير الـ"سوشيال ميديا" وأضيف إلى ذلك شح في المعلومات الرسمية لعدد من الأيام، مما فتح الباب أمام لجوء بعضهم إلى تداول ما يرد على منصات ومواقع إعلامية أخرى لملء الفراغ.
الصيد في مياه الحادثة
وبين منصات إعلامية تبث من خارج مصر هي لسان حال جماعة الإخوان المسلمين التي عادة تعيش أزهى أيامها كلما حدثت كارثة أو وقعت مصيبة في مصر لتحمّل الدولة المصرية والقائمين عليها مغبة ما جرى، ومنصات غربية انفردت بالساحة لتطرح أسئلة تبتكرها بنفسها وتجيب عنها بنفسها أيضاً ومعظمها يجعل الأمر يبدو وكأن شواطئ مصر وحدها المتفردة بوقوع حوادث هجوم من أسماك قرش على الأفراد، وعلى رغم أن الشواطئ والمياه المصرية ليست وحدها المعرضة لوقوع مثل هذه الحوادث، فإن التعامل معها ربما يحتاج إلى مراجعات.
ويجمع صحافيون على أن الفراغ الذي ينشأ عن نقص المعلومات المؤكدة وكذلك تأكيد أو نفي ما يتردد من أقاويل يمتلئ بطريقة أو بأخرى، فإن لم تملؤه البيانات الرسمية المؤكدة والتحديثات المستمرة، ملأه القيل والقال ونظريات المؤامرة والمؤامرة المضادة.
المؤامرة فكرة لا تموت
على ذكر المؤامرة، وعلى رغم أن التلويح بأن دولاً أو جماعات تبذل جهوداً لتلحق الضرر بمصر وتضرب ما يجري بذله من جهود وعمله من إنجازات، لكنها تظل "قيل وقال" شعبويين معروفين في كثير من دول العالم. أما ضلوع شخصية عامة في التلويح بمؤامرة، فينقل "القيل والقال" إلى مرحلة أعلى ويضفي عليهما هالة من المصداقية قد تنجم عنها نتائج عكسية.
الإعلامية المصرية هالة سرحان ألمحت في تغريدة إلى أن الحادثة ووجود سمكة القرش القاتلة في هذه الأعماق الضحلة "ربما جرى إرسالها عمداً لضرب السياحة"، وعلى رغم أنها لم تذكر كلمة "مؤامرة" فإن الجميع صنفها وفهمها كذلك، وعلى رغم عودة سرحان ونفيها أن تكون ألمحت إلى دولة بعينها، إلا أن الأفكار لا تموت والمؤامرة فكرة يسهل البناء عليها.
البناء على المؤامرة يولد مزيداً من المؤامرات، أو بالأحرى الوقوع في براثن الفكر التآمري يولد مزيداً منها. فما إن أعلن المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد أنه سيجري تحنيط السمكة القاتلة بعد تشريحها، حتى تفجّر أثير الـ"سوشيال ميديا" تكهناً وتفكراً وتآمراً. وبينما شطح بعضهم إلى درجة تفسير التحنيط باعتباره تكريماً للسمكة القاتلة وآخرون غاصوا في معضلة هل تحنيط السمكة حلال أو حرام، فإن الغالبية تساءلت في دهشة عن أسباب التحنيط.
وعلى رغم أن ما أعلنه المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد أكد أن "هذا هو المتبع مع مثل هذه الأنواع من الأحياء البحرية"، فإن "المتبع" لم يقنع كثيرين وعدم اقتناعهم في عصر الـ"سوشيال ميديا" يعني نقل عدم الاقتناع وقرائنه وحججه التي تتفتق عنها أذهان بعضهم إلى أثير الـ"سوشيال ميديا".
والأثير في هذه الآونة عامر بقصص التحنيط ونظريات يقولون إنها مأخوذة عن قدماء المصريين مع قوائم من الأهداف المعلنة وأخرى غير المعلنة التي يتجادل حولها مجتمع الـ"سوشيال ميديا" على رغم أن جميعها أقرب ما يكون إلى الأساطير.
المعهد القومي لعلوم البحر والمصايد أشار إلى أنه جار بحث مقترح بتخليد ذكرى الشاب الروسي ضحية السمكة المحنطة بكتابة وقائع الحادثة على لوحة رخامية إلى جوار السمكة في المتحف مع صورة الشاب ورثاء له.
مصير سمكة القرش المحنطة في المتحف ومآل الشاب الذي لقي حتفه إلى رثاء على لوحة رخامية وقلق عميق من أن تؤثر الحادثة سلباً في معدلات السياحة الوافدة إلى مصر وتعجب أكيد من إصرار وسائل إعلام غربية على التعامل مع الحادثة باعتبارها الوحيدة من نوعها في العالم جميعها في كفة، وافتئات المئات على ما جرى عبر فيديوهات "تيك توك" ومقاطع "يوتيوب" ومواهب الـ"ريلز" على "فيسبوك" في كفة أخرى.
لا يستغرق الأمر سوى سويعات معدودة عقب كل تطور في حادثة القرش حتى تتفجر فيديوهات لأشخاص عاديين يشرحون المشروح ويعرضون المعروض ويتساءلون الأسئلة نفسها ويعرضون المجاب عنه في إجابات، لكن بعد إضافة رأي كل منهم الشخصي في هذه الخطوة وهذا الإجراء وهذه البيانات وتلك الخطوات.