ملخص
مذكرات سيدة حققت حلما جماعيا في قاهرة الكتب والقراءة والظواهر والتحولات
هل تؤمن بما تحمله هذه الصيغة من إعجاز: "إذا أردت شيئاً بقوة، فإن العالم كله يتواطأ معك حتى تناله". في فترة من فترات الضمور الثقافي التي طالما مرت بها مصر، التقت مجموعة من الأصدقاء لتناول العشاء. كانوا بلا وظائف تقريباً لأسباب مختلفة، وفي هذا الوقت تحديداً يتفجر السؤال من تلقاء نفسه عن الحلم الذي يرغب كل واحد منهم في تحقيقه، فإذا بالشقيقتين هند ونادية تنطقان في صوت واحد: نفتح مكتبة.
تحكي نادية واصف في مذكراتها "عمر افتراضي: سجلات بائع كتب في القاهرة"، الصادرة عن دار "ماكميلان" للنشر 2021، والذي حال وباء كورونا دون وصوله إلينا سابقاً، ومازلنا حتى الآن ننتظر ترجمته إلى العربية، القصة كاملة منذ أن بزغت كفكرة في جلسة دردشة، إلى أن تجسد الحلم واكتسب كياناً فريداً، متخذاً من الاسم "ديوان" الذي اقترحته السيدة فايزة (والدة هند ونادية) شعاراً له، ومستلهماً من مكتبة شكسبير في باريس وريزولي في نيويورك طرازه المريح.
مكتبة في كتاب
افتتحت المكتبة في حي الزمالك الراقي في عيد المرأة 2002 بطموح ثلاث نساء في الأساس، نادية وهند ونهال (انضم إليهن زوج هند وصديق مشارك)، تخصصت هند في شراء الكتب العربية، واضطلعت نادية بالإصدارات الأجنبية، بحيث يتاح للقراء العثور على تنوع من الكتب يناسب كافة الأذواق، ويعكس جميع الثقافات ومختلف العصور. بوسعك أن تجد "ألف ليلة وليلة" في نسختها الأصلية قبل أن تطاولها يد التهذيب غير المهذبة، وأعمالاً لكتاب راسخين من مصر مثل نجيب محفوظ، مع مجموعة واسعة من الأصوات الشابة من معظم الأقطار العربية، علاوة على كتب من أميركا ومختلف أنحاء أوروبا. وعلى رغم ما يمثله كل ما سبق من تحدٍ بالنسبة لثلاث نساء لم يتدربن على إدارة الأعمال، فإن الأكثر تحدياً كانت محاولتهن الدؤوب لتجميل وجه مصر التي تغبرت كتبها المهترئة وأرففها البائسة بطبقات من التراب في مكتباتها القديمة. تكتب نادية: "إن مكتبات القاهرة وصناعة النشر وصلت إلى حالة يرثى لها بسبب سياسة الاشتراكية التي استمرت كثيراً، وانتهت بسنوات مبارك، حيث الفساد وانهيار المرافق وتفشى الأمية، وحيث أصبح الكتاب موظفي حكومة، وقل اهتمام الناس بالقراءة".
داخل الكتاب تجري نادية تصميماً هندسياً للفصول بحسب أقسام "ديوان": "المساعدة الذاتية" و"كلاسيكيات" و"الأعمال والإدارة" و"أساسات مصر". يستكشف الأخير من بين أمور أخرى، أثر الاستعمار البريطاني والفرنسي على الثقافة المصرية، وكيف تلقى المصريون تاريخهم عبر أقلام المستعمرين الذين اختطفوا ذلك التاريخ لأنفسهم، "لم يمنح معظم علماء الآثار المصريين إذناً للتنقيب في بلادهم. المتحف البريطاني، الذي يحتوي على حجر رشيد (وأكثر من خمسين ألف قطعة مصرية قديمة أخرى، مما يجعله أكبر مجموعة خارج مصر)، لا يزال يرفض إعادته إلى الوطن. الأوباش". هكذا يتسع الكتاب ليتجاوز المكتبة ويناقش تاريخ مصر وأثر السياسة والاستعمار الطويل على الثقافة، وملاحظات عن الحياة واختيار المرأة أن تخوض مجال ريادة الأعمال في ظل ظروف مضطربة. كان طبيعياً أن يجابه هذا المشروع صعوبات كثيرة في بلد أبوي يتبنى الرقابة على الأفكار ويحتضن البيروقراطية. تحكي واصف بالتفصيل تجربتها في استخراج رخصة من الحي بسبب وجود كافيتريا داخل المكتبة، والقضية التي رفعها محامون لتحريم نشر كتاب "ألف ليلة وليلة" باعتباره إباحياً، وتحديات الرقابة باحتجاز كتاب لاحتوائه على "ألقاب" اعتبرت مسيئة لـ"الآداب العامة"، وكيف تم استدعاء المسؤولين إلى مكتب الرقيب، حين تبين أنه كتاب طبخ، "الطاهي العاري" لجيمي أوليفر، والأمر لا يتعدى صيغة العنوان.
تحكي أيضاً عن افتقار البلاد لأرقام ISBN، ومحاولات بعض الزبائن إعادة الكتب بعد قراءتها وسرقة الموظفين. والأكثر مدعاة للأسف التحرش داخل المكتبة وخارجها. في مراجعة الكتاب ترى كاتي كولمان أن قوة كتاب واصف تكمن في السهولة التي تصف بها نسيج الحياة المصرية جنباً إلى جنب مع التعليقات النقدية على تاريخها وثقافتها. ينغمس القارئ في التفاصيل الحسية و"الشوارع الضاجة المزدحمة بالمرور"، وموسيقى أم كلثوم في مقهى "ديوان"، وصور رجال يدخنون الشيشة ويلعبون لعبة الطاولة في زوايا الشوارع.
أثناء حملها الثاني، تعرضت نادية لحادثة تحرش خارج "ديوان"، أحست بنظرة شاب مركزة عليها، وبينما كانت تزيل السماعة لتسمع ما يقوله، اندفعت الدماء إلى أذنيها، "تلاشت رؤيتي إلى بقع حمراء نابضة. كل ما شعرت به هو الحرارة. لقد حشدت قدراً من القوة بقدر ما يسمح به غضبي الشديد وصرخت". من السهل تخمين ما قاله الشاب، فمعظم النساء يختبرن هذه التجربة على مدار حياتهن، ودائماً ما يكون الرد مباغتاً بالنسبة إلى الجميع، المتحرش والضحية والشهود. في سورة الغضب تفوهت رائدة الأعمال، التي لا تحسن التحدث بالعربية سوى على صورتها الفصحى، تفوهت بكلمات بذيئة أشعرتها بالخجل أمام موظفيها، وتركتها للأخذ والرد مع نفسها، لتقودها في هذا الاتجاه "الكلمات السيئة مثل ترسانة أسلحة نووية: عندما يعلم الجميع أن لديك مخزوناً منها، لا داعي لاستخدامها".
الأمومة وأشباحها
تتخذ نادية من الاختلاف الطبقي بينها وبين موظفيها وسيلة لتسليط الضوء على التفاوت الاجتماعي والاقتصادي كما تراءى لها في بداية القرن الواحد والعشرين، "لقد جئنا من مصرين مختلفين. كانوا ريفيين هاجروا إلى المدينة بحثاً عن عمل، بينما ولدت وترعرعت في القاهرة. كانوا في الغالب مسلمين. وكانت عائلتي من ديانات مختلطة. تخرجوا في المدارس الحكومية. واستمتعت أنا بمزايا التعليم الخاص، ودفعت ثمنه بالعملة الأجنبية، وحصلت على درجتي ماجستير. ثقتي الوقحة أزعجتهم"، لكن وجود هند بطريقتها المهذبة المتواضعة ونهال التي تصفها بـ"أم لطيفة"، يحرص الموظفون على إرضائها، أسهم في موازنة الكفة وتيسير الأعمال. هكذا أكملت أساليب إدارتهن المختلفة بعضها بعضاً، وسرعان ما اجتذب "ديوان" المثقفين بروح أركانه الخاصة التي وضعت محبي القراءة في صدارة أولويتها، ووفرت لهم مساحات مريحة للجلوس ومشروبات لتشجيعهم على البقاء مدة أطول، وألواناً من البن الجيد المذاق، فحقق المعادلة الصعبة. وفي غضون أعوام تكاثرت فروعه إلى 16 فرعا مع 150 موظفاً، وأصبح أول مكان يوفر كتباً للأطفال وألعابهم وأقراص فيديو رقمية للأفلام السينمائية، وأقراصاً مدمجة للموسيقى، وأدوات لإطلاق طاقات الإبداع، علاوة على عقد ورش عمل والمحاضرات ووإقامة ندوات وحفلات توقيع لم تكن منتشرة في مصر آنذاك.
يتطرق الكتاب أيضاً إلى تفاصيل خاصة عن الزواج والطلاق والأمومة وتعقيداتها. في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، تطرح الشاعرة إيمان مرسال أمومتين مختلفتين، "أمومة المتن، التي تكون عبر الخطابات الدينية والفلسفات والأخلاق والقيم الاجتماعية المقبولة، حيث ينظر إلى الأمومة كفطرة إنسانية محمية بشكل طبيعي من الصراعات والتوترات. وأمومة في الهامش قد تجد شظاياها السردية في بعض كتب الطب والنصوص الأدبية وقصص الجرائم الأسرية، حيث إن هناك أصواتاً متفرقة تحاول، عبر المرض النفسي أو الكتابة أو الجريمة، التعبير عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها.
تنتمي نادية إلى المعسكر الأخير، هؤلاء القلائل اللائي يتزايد صراخهن يوماً عن يوم في ظل رأسمالية لم يعد فيها دخل المرأة نوعاً من الاختيار. لم تجلب الأمومة لنادية إذاً سوى النفور: "لقد شعرت بالاستياء من صور نعيم الأم على أغلفة كتب الحمل. أين الوجوه التي يعصف بها الوجع ومشاعر الاغتراب؟ لماذا لم يحذرني أحد من فائض الذنب في إيواء مثل هذه المشاعر؟". تخسر الأنثى الكثير من وهجها في الحمل والولادة القيصرية والانشطار المفاجئ وتدفق الحليب في العروق، لكن نادية كافحت كأم عزباء كي توفق بين طموحاتها وواجباتها. ولما كان الأمر صعبا، ترى أنها من هؤلاء اللاتي لم يحالفهن النجاح: "بعد حملين، ربطت أنابيبي. بعد طلاقين، قطعت عهداً ألا يحدث ذلك مرة أخرى".
يأتي فصل "المساعدة الذاتية" لينفي إمكانية الالتئام أو تعويض الخسارة. فبعد فترة ركود قامت ثورة يناير التي أطاحت مبارك، وجاءت بـ"الإخوان"، ثم بقيادة عسكرية، اتخذت قرراها بالهرب من مصر والتخلي عن "ديوان" في بلد يصارع من أجل توفير وجبته ناهيك باقتناء كتاب: "كان عليَّ أن أختار بين مستقبل ديوان ومستقبل طفلتي، واخترت الأخير". ومع أن مشروعها لم يحقق نجاحاً مالياً كبيراً، إلا أنه يمثل بالنسبة لها انتصاراً أخلاقياً، وتجربة في التسويق، ورسالة حب إلى مصر. ولا تزال "ديوان" قائمة بجهود نهال وعدد من الفريق القديم لأجل تمديد الرسالة. أما عن الكتاب الصادر بالإنجليزية، اللغة التي تبنتها في الوقت الذي تركتها العربية الفصحى "يتيمة" على حد وصفها، فهو وسيلة نادية لطرد الأشباح الشريرة والاحتفال "بالقاهرة التي كانت موجودة قبل 20 عاماً".